مخلوقات دمرت الحلم الجميل


نص: الطيب صالح


من أعجب ما سجّله التاريخ من أقوال المستوطنين البيض في أستراليا، عبارة لرجل يدعى سي. لوكهارت، قالها عام 1849: «لا شيء سوف يحول دون انقراض عنصر الـ (أبوروجنيز) الذين شاءت الإرادة الإلهية أن تسمح لهم بالاحتفاظ بالأرض ريثما يجيء عنصر أفضل يحل محلهم».
هذا الرجل المغمور الذي لم ينسب له التاريخ عملاً يؤثر، استحق «الخلود» بأنه أفصح بهذه العبارة التي ظلت تزحف مع حركة التاريخ، كما يتحرك الحجر في قاع النهر. إنه عبّر دون مواربة، ودون حياء، عن مبرر أساسي من مبررات الاستعمار الأوروبي، وهو أن الأجناس غير الأوروبية، الـ»همج» في زعمهم ليسوا بشراً بمفهومهم للكلمة، ويمكن اعتبارهم غير موجودين، وأن الحيز الذي يشغلونه على سطح الأرض، هو في الحقيقة خالٍ من السكان. ولم يكتفوا بهذا الصلف العرقي، ولكنهم جعلوه قانوناً إلهياً. وأضفوا عليه مبرراً أخلاقياً. قد يكون الإله الذي تذرعوا به بروتستنتياً كما في أستراليا، أو كالفنياً كما في جنوب أفريقيا، أو كاثوليكياً كما في أمريكا اللاتينية، وقد يكون «يهوه» إله اليهود كما في فلسطين.
ويمكن أن يسمع الإنسان صدى عبارة مستر لوكهارت في عبارة غولدا مائير بعد أكثر من قرن من الزمان، «الفلسطينيون؟ أين هم هؤلاء الفلسطينيون؟». في ذلك الصباح من شهر كانون الثاني/ يناير عام 1788، حين رست سفن كابتن فيليب على شاطئ أستراليا، نظر البيض فلم تر عيونهم بشراً. رأوا شخوصاً مثل الأشباح هي في اعتقادهم «لا شيء». كانوا عراة تلمع أجسامهم في الشمس، من الدهن الذي يتمسحون به اتقاء الحشرات. على وجوههم ورقابهم علامات من طلاء. بأيديهم الرماح، وفي أنوفهم أشياء مثل الزمام. منهم من يحمل درعاً، ومنهم من يحمل آلة محدودبة.
وقف السود على صخور الشاطئ، وكانوا من قبيلة الـ»أيورا» كما نعلم الآن، ينظرون كالمسحورين، إلى المنظر الذي لابد أنه بدا لهم مثل كابوس من قوى شريرة اقتحمت حلمهم الطويل. تلك المخلوقات الغريبة التي كأنما تسلخت جلودها عنها لشدة احمرارها، أخذت تفرغ حمولة القوارب التي كانت أضخم بكثير من القوارب التي اعتادوا عليها. خرج رجال ونساء وأطفال. بعضهم كانوا يرسفون في أغلال الحديد، وبعضهم يلبسون خرقاً ممزقة، وبعضهم يحملون السلاح، ويعطون الأوامر بأصوات شرس (…).
أما البيض فإنهم لم يدركوا ـ وما كان يهمهم أن يدركوا ـ أن تلك الأشباح كانت جزءاً من «شعب» توطن تلك الأرض منذ أكثر من ثلاثين ألف عام. جاءوا في هجرات متعددة من آسيا، عبر «تسمانيا» و «غينيا الجديدة». انتشروا في جزيرة أستراليا بأكملها، وغطوا وجه الأرض مثل ثوب رقيق شفاف. وتقسموا إلى قبائل كان عددها نحو خمسمئة في تلك اللحظة. وكان عددهم نحو ثلاثمئة ألف.
كانوا مثل مستنقع انقطع عن نهر التاريخ، فعاشوا كل تلك القرون في عزلة تامة عن الأحداث التي ألمت ببقية سكان الأرض. ولما وصل الأوروبيون، وجدوهم لا يزالون في مرحلة البداوة الأولى، كانوا يعيشون على الصيد من البر والبحر، ويعتمدون على آلات بدائية ورغم ذلك فقد ابتكروا نظاماً مكتملاً للعيش يلائمهم تماماً، وابتدعوا «ثقافة» ليست تافهة إذا نظرت فيها بإمعان، يمتزج فيها البحر بالسماء بالطبيعة بالماضي بالحاضر بالمستقبل في عناق سرمدي أسموه «زمن الحلم». وكانت الأرض هي مركز الحلم، إذا حرمتهم منها فقد حرمتهم كل شيء كأنما انتزعت «هويتهم» كما يُقال هذه الأيام .
في أستراليا أكثر من أي أرض أخرى استوطنها الأوروبيون، وقفت فلسفتان متناقضتان كلية إحداهما إزاء الأخرى. الفلسفة الأوروبية المادية في ناحية، كما تبلورت في القرن التاسع عشر، فلسفة تعتبر «الأرض» مجرد «شيء» من حق الإنسان أن يملكه ويستأثر به، ويقسمه كيف شاء، ويستغله كيفما بدا له. والإنسان، بمقتضى هذه الفلسفة، ليس الكائن البشري عموماً، ولكنه الإنسان القوي القادر، الذي اختارته العناية الإلهية وقوانين التمييز الطبيعية، أي الأوروبي، ليكون خليفة على الأرض. وكان المؤمنون بهذه الفلسفة، يستندون إلى التفوق التكنولوجي وإلى المدافع والبارود.
في الجانب المقابل، وقفت فلسفة «أسطورية شاعرية»، ترى «الأرض» على امتدادها، كائناً حياً، يحس ويتألم، مخلوقاً له قداسة مثل «كاتدرائية مفتوحة» كما وصفها أحد الكتّاب. اختار المستوطنون الأوائل أرض الـ»أبوروجنيز». رأوا أناساً لا يشبهون أي أناس عرفوهم من قبل، أو سمعوا بهم. لم يجدوا لهم زعماء ولا معابد ولا أوثاناً يعبدونها ولا ديانة يؤمنون بها. ولم يكونوا يملكون شيئاً، لا بيوت ولا مزارع ولا مقتنيات ولا أرضاً. وكانوا في ترحال مستمر، دون سبب واضح، كأنهم يبحثون عن شيء مبهم ضاع منهم.
اتضح بعد زمن طويل أن الـ»أبورو جنيز» يعتبرون الأرض بأجمعها، معبداً لهم، وأن فيها علامات وألغازاً وأسراراً، لابد من مواصلتها باستمرار، وإلا توقفت الحياة، وأن «الأرض» تناديهم وتتحدث إليهم، وأن لهم طرقاً على وجه الأرض لا يخطئونها، كما يعرف الطائر المهاجر طريقه في السماء.
19/06/2008
قلب ظلام سوداني
ذات يوم، مطلع ستينيات القرن الماضي، كان رجاء النقاش، الناقد المصري الذي غادرنا سنة 2008، قد طرح السؤال النقدي التالي، المفاجىء والجسور في آن معاً: هل بات نجيب محفوظ عقبة في طريق تطوّر الرواية العربية المعاصرة، دون إرادة منه بالطبع؟ وهل، لأنه القامة العربية الأعلى في الفنّ الروائي، لن يتجاسر أحد على تحدّي سطوته الفنية، أو الإفلات من إغواءات تقليده على نحو أو آخر. فيما بعد، سوف يجزم النقاش أنّ محفوظ ليس عقبة، أو لم يعد هكذا، بدليل ولادة رواية كبرى ممتازة، تفيد بأنّ الاجيال الشابة من الروائيين العرب قادرة على تقديم الجديد اللامع أيضاً؛ وكان مثال النقاش هو الروائي السوداني الطيب صالح (1929 ـ 2009)، وروايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، 1966، تحديداً.
ولن تمرّ إلا أسابيع معدودات على صدور هذه الرواية، في مجلة «حوار» أوّلاً، ثمّ عن دار العودة بعدئذ، حتى أخذ العالم العربي يكتشف روائياً مدهشاً، متمرساً في فنون السرد وتركيب الحكاية، بارعاً في المزج بين اللغة الحسية الحارة والمجازات التصويرية الطليقة؛ وقابضاً على، ومتمكناً تماماً من، المناخات الاجتماعية والنفسية والطبيعية التي تحيا فيها شخصياته، سواء أكانت محلية سودانية، أم نقائضها الموازية في بريطانيا. الرواية تسير على لسان شابّ يعود إلى قريته السودانية، الواقعة على ضفاف النيل، بعد سبع سنوات من الإقامة في أوروبا يقصد الدراسة؛ وملامح شخصيته تجمع بين مارلو، في رواية جوزيف كونراد «قلب الظلام»، وعناصر من سيرة الطيب صالح نفسه.
وهذا الراوي يحكي، بأسلوب الرواية ضمن الرواية، قصة الشاب السوداني مصطفى سعيد، الذي درس في لندن، وأقام فيها طيلة 30 سنة، فأصبح اقتصادياً مرموقاً، وزير نساء أيضاً، قبل أن يقرر العودة إلى قريته مسقط رأسه، في السودان. مواجهات عارمة بين «الغرب» و»الشرق»، على النحو الذي انكبّ إدوارد سعيد على تفكيكه ببراعة وعمق في «الاستشراق»؛ إلى جانب الإشكاليات التي تكتنف ثنائيات مثل القرية والمدينة، والمنفى والوطن، والحاضر والماضي… ولسوف يتعاقب صدور أعمال صالح، ويُعاد طبع القديم منها، على خلفية احتفاء واسع وعريض من شرائح القراءة العربية، كافة تقريباً: «عرس الزين»، «ضوّ البيت»، أو «بندر شاه»، «دومة ود حامد»، «مريود»، «نخلة على الجدول»؛ فضلاً عن عشرات المقالات، التي جُمعت بعدئذ في تسعة كتب.

– نشر في القدس العربي

شاهد أيضاً

كتاب “في حديقة الملك، سيرة مكان”: سيرة مكان؟… سيرة وطن!

(ثقافات) كتاب “في حديقة الملك، سيرة مكان”: سيرة مكان؟… سيرة وطن!   * د. خالد …

ابن عربي الحائر بين الفتوحات والمنقولات – فيديو

(ثقافات) ننشر تالياً المحاضرة الكاملة للباحث والروائي الأردني يحيى القيسي عن “ابن عربي الحائر بين …

حوار مع الباحث والروائي يحيى القيسي حول تجربته الوجودية

الباحث والروائي يحيى القيسي حول تجربته الوجودية: رواياتي تشكل خُماسيّة عِرفانيّة ومَعرفيّة… وتطرح الأسئلة الكبرى  …

في ظلال المئوية “تل الذّخيرة” ملحمة تستحق مكانة عالية في الذاكرة الشعبية والمخيال الحكائي للأردنيين

مجدي دعيبس مع حلول المئوية الأولى للدّولة الأردنيّة تتنازعنا أفكار ومواضيع شتّى للحديث عنها في …

في مئوية الدولة: الثقافة مرتكز أساسي للتأسيس والنهضة

( ثقافات ) مجدي التل  فكرة بداية مأسسة الحالة الثقافية والابداعية في الدولة الاردنية الحديثة؛ …

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *