الموت بالسكتة الإبداعية

(ثقافات)

الموت بالسكتة الإبداعية!

يحيى القيسي *

كلما رحل أديب عربي، ورأيت الأقلام تتبارى في مدحه، والأصدقاء قد ظهروا من غيبوبتهم الطويلة لاستذكاره، تحضر لي عبارة الشاعر التونسي المشاكس منصف المزغني، ذات حوار معه في التسعينات لمصلحة صحيفة “القدس العربي” اللندنية التي كنت أراسلها حينها، “الكثير من الشعراء ماتوا بالسكتة الإبداعية”، أي أن كثيراً منهم نضب إبداعه، وجف يراعه قبل أن يموت بيولوجياً، وهذه مسألة تحتاج برأيي إلى الانتباه إليها، وتطبيقها على الأدباء العرب عموماً، وليس على الشعراء فحسب، فثمة من توقف عن الكتابة بعد صدور كتابه الأول، وبعضهم لم يصدر كتاباً إبداعياً جديداً منذ سنوات طويلة، ولم نر له مقالاً، ولا أي عمل بحثي أو إبداعي، ولا حتى مساهمة في الحركة الثقافية من قريب أو بعيد كي تشفع له في بقائه مستظلاً بالحركة الأدبية في بلاده، أو مستفيداً من المؤسسات الداعمة للعمل الثقافي على قلتها، فمن هؤلاء الميتين بالسكتة الإبداعية، من تراه يُجيد العلاقات العامة، والتنظير الشفوي، وله “في كلّ عُرس قرص” كما يقال، ويتنطَّع لتمثيل أدباء بلاده في المُشاركات الخارجية، أو يُقنع بعض الصحفيين المُرتزقة للكتابة عن أعماله المركونة في النسيان، أو إجراء حوارات معه، من دون أن يرفّ له جفن، أو يحلّ على قسمات وجهه شيء من الحياء .

ومنهم مَنْ أصدر كتاباً فيه شيء من الوهج الإبداعي أول الشباب، ثم جاءت بقية أعماله تنويعاً على ذلك الكتاب واجتراراً له، ومن هؤلاء من يتورط في الكتابة الإبداعية قادماً من العالم الأكاديمي أو النقد، غيرة وحسداً للمبدعين، أو تقليداً لهم، أو تأثَّراً بكثرة ما قرأه في الإبداع، فيقول في نفسه، لو كتبت رواية لجاءت خيراً مما يدَّعون، ولو أردت كتابة الشعر لأنجزت فيه أفضل مما يُبدعون، فتسوّل له نفسه الأمّارة بالكتابة إصدار كتاب ظاهره الإبداع، وباطنه “قص ولصق”، أي كتابة من الوزن الخفيف، تعافها النفس، وتكون ثقيلة على الروح، فكلّ ما خرج إغصاباً وتقليداً جاء وليداً ميتاً، بلاستيكياً، بلا طعم ولا رائحة .

أعود إلى أصدقائنا “الذين انتهت قصَّة حياتهم قبل أن يموتوا” على رأي أديبنا الراحل مؤنس الرزاز، والذين أيضاً توقفوا عن فعل الكتابة على العموم، فما بالكم بالإبداع نفسه، ولكن لا يزال لهم صولات وجولات في المحافل الثقافية، وخصوصاً أيام الانتخابات في الروابط الأدبية والاتحادات الكتابية، وأعرف بعض الكتاب ممن كتب قصة قصيرة واحدة فقط في حياته، بسردٍ عادي تقليديٍ، أو أصدر “كتاباً” يتيماً لا إبداع فيه، ولا تجديد، ولا يزال منذ أربعين سنة يعتاش على ذلك في صحبة الأدباء والكتاب، ويعتبر نفسه “زميلاً” لمن أصدر كتباً كثيرة في الإبداع والفكر والنقد، وبالطبع لا يتحمل وحده وزر ذلك، بل من يقف معه ويسانده، ويعتبره “صوتاً انتخابياً” له فائدة، أو عضواً حزبياً مؤثراً يمكن الاستفادة منه في العمل النقابي للكتاب، وهكذا يُمكن للمرء أن يعدّ نصف أعضاء الاتحادات الأدبية في الوطن العربي أو يزيد ممن لا يكتبون، وغالباً أيضاً لا يقرأون .

وفي محصلة الأمر “رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، ووقف عند حده” فلا يدعي ما ليس فيه، ولا يتنطّع لأمر لا علاقة له به، ولا يُمثل قوماً هجرهم إلى غير رجعة، ولو أن كل واحد من هؤلاء “الراحلين الأحياء” قد انشغل بتجارته، وبدروسه الأكاديمية، وأعماله المهنية، لكان خيراً له وأبقى، أما الذين جاءوا أصلاً إلى عالم الأدب بلا أي موهبة ولا إبداع، من الأدعياء، وهم كثر، ويصرون على النفخ في قربة مثقوبة، ومواصلة إصدار الروايات أو الدواوين الركيكة، ومزاحمة المبدعين الحقيقيين، فتلك حكاية أخرى قد نتوقف عندها ذات يوم .

* روائي وإعلامي من الأردن

عن الخليج الإماراتية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *