ظلال الموت


بروين حبيب

لا أدري كيف أصف الأمر ولكن الفكرة قفزت إلى رأسي بعد إعلان خبر وفاة كل من الفنان المصري سامي العدل، والفنان العالمي عمر الشريف. نزل خبر وفاة سامي العدل باقتضاب ثم تلاه خبر نعي عمر الشريف بمساحات أكبر، بإسهاب أكثر، وعناوين بالمانشيت العريض… وكل من التقاه أو صادفه في طريقه كتب عن تلك اللحظة، وكثيرون منهم أرّخوا لها بصور ملتقطة مع الفنان. والملاحظة هي أن الحياة غير منصفة حقا، لكن لم أكن أعرف أن الموت غير منصف أيضا. في الموت تغطي ظلال أشخاص أشخاصا آخرين، وأحيانا تخفيهم تماما وتختصرهم إلى مجرّد أرقام.
في عالم الفن ومنذ مطلع السنة الماضية كثُر الرّاحلون من عالم الفن، ذهبوا جماعات إن صحّ التعبير، لكن بعضهم حظي بنصيب محترم لذكره إعلاميا، والبعض الآخر مرّ خبر وفاته مرور الكرام.
من عائلة مسلسل «باب الحارة» مثلا غادرنا سبعة فنانين، لكن لا أدري لماذا كان مقتل الفنان محمد رافع (30 سنة) الأكثر إثارة للأقلام الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، ربما بسبب مواقفه السياسية، وربما بسبب طريقة موته، لكن حتما لم تكن نجوميته هي السبب، إذ لم يكن نجما من الصف الأول، ولم ينع من باب حجمه «الدرامي» رحل إلى ربّه وهو ومنبوذ من فريق ومحبوب من فريق آخر، ليس لفنّه بل لموقف سياسي كان سببا في حتفه. لكنّ موته شغل الناس عن موت فنانين آخرين، فجأة مضى الوقت وصحونا على غياب من غابوا، وأصبح الوقت متأخرا للكتابة عنهم والتعريف بهم، فقد غادروا ونحن لا نعرف عنهم سوى بعض أدوارهم التي علقت بأذهاننا. توفيت الفنانة ناهوند مثلا في فترة غياب الفنانة صباح نفسها والشاعر سعيد عقل، وقد غطت جنازة صباح الأسطورية على غياب ناهوند في احتفال لم يحدث لا قبل ولا بعدها… ثم غطى سعيد عقل برصانة جنازته وطقوسها الرّسمية من قلب جامعة عريقة على صباح.

لنعد لتواريخ قديمة نوعا ما…
من يتذكر الفنان عبد الله محمود؟ لا أظن أن أحدا يتذكره اليوم، لقد كانت ظلال نجوم الدراما المصرية تغطيه، وإن كان قد تألق في أهم أدواره في «اسكندرية ليه» و«حدوتة مصرية» و«الطوق والأسورة» وغيرها… لكن الرّجل لم يستطع أن يظهر بشكل واضح أمام نجوم خدمتهم وسامتهم أكثر من ملامحه المصرية القحة، وكما عاش «واضحا، وغير واضح» فقد غادرنا بالطريقة نفسها… فيما تلاشى اسمه من ذاكرة من يدعون حماية المشهد الفني من الاندثار. فايزة كمال ذهبت هكذا مثل فراشة دخلت بيوتنا واحترقت في غفلة منا بشمعة منسية في الزاوية. فقط اختفت وبعد غياب دام سنوات تساءلنا أين هي؟ والبعض ظن أنها تحجبت مع من تحجبن واعتزلت الفن، لكنها فاجأتنا بموت هادئ هدوء ملامحها الشفافة التي أحببناها في أعمال كثيرة أهمها مسلسل «رأفت الهجّان» وحفظنا اسمها الغريب فيه «يهوديت موردخاي» وظلّت قابعة في أذهاننا بذلك الدور…
في الشهر نفسه توفي حسين الإمام الممثل والسيناريست وبعده المخرج مدحت السباعي وغطيا على وفاة فايزة كمال، فقد كانت شهرة الاثنين أكبر من شهرتها، هي التي غادرت في الخمسين من عمرها. أما فتحية العسّال فقد غطت على غياب محمد أبو والحسن، وإن ترافقا في الموت، فإن الإعلام تعامل معهما بطرق مختلفة، لقد كان خبر وفاة فتحية العسّال منتشرا على المستوى العربي، أما محمد أبو والحسن الذي أضحك الكثيرين بأدواره الكوميدية غادر مثل البسمة القصيرة… بدون ضوضاء. الشاعر سميح القاسم والممثلان سعيد صالح وخليل مرسي رحلوا دفعة واحدة في ظرف أسبوعين، لكن سعيد صالح كان أكثر الغائبين حضورا إعلاميا، مع أن شاعرا بمكانة سميح القاسم كان يجب أن تكون خاتمته بحجم مانشيت غياب محمود درويش ونزار قباني… إلاّ أن الصحف والجرائد العربية اختارت أن يكون ضمن مقالات صغيرة داخل الفضاء الثقافي الضيق، وكما العادة في «مناسبات» كهذه أغلب المقالات ليست نابعة من القلب، إنها تقليد إعلامي محض «لتسجيل حضور»…! ولعلّ الممثل خليل مرسي نال اهتماما على المستوى المحلّي في مصر، إلا أنه لم يغادر أسوار المحلية في رحيله مثل زميله سعيد صالح، الذي نزل خبر وفاته في الصفحات الأولى لصحف ومجلات كثيرة على المستوى العربي، ربما لأن هذا الأخير خريج «مدرسة المشاغبين» المسرحية الأكثر مشاهدة إلى يومنا هذا، منذ قدمت أول مرة صيف 1973.
مريم فخر الدين ومعالي زايد رحلتا معا في أسبوع واحد، وكلتاهما نجمة حقبة معينة من تاريخ السينما المصرية، لكنّ مريم فخر الدين التي انطفأت باكرا بسبب ما أحدتثه الشيخوخة من تشوهات بصورتها الجميلة أيام شبابها، منحها الإعلام إطلالة أخيرة جميلة بالأبيض والأسود لتودّع بها جمهورها. فيما اكتفت الصحافة باختصار غياب معالي زايد بنشر سيرة مقتضبة عنها وعن مرضها مع خبر وفاتها. غادر الفنان السوري عمر حجو والشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي في الشهر نفسه، الفنان الكويتي أحمد الصالح والممثل المصري إبراهيم يسري غادرا في فترة واحدة، الممثل المصري حسن مصطفى والفنان السعودي عبد الرحمن الخريجي غادرا مؤخرا مع سامي العدل وعمر الشريف …

ذهبوا جميعا أزواجا أزواجا…
ترافقا إلى الحياة الأخرى كما أراد القدر، لكن ظلال الموت حجبت البعض وتركت الأنوار تتسلسل للبعض وألقت الكثير من الضوء على البعض الآخر… هل يبدو الأمر مؤلما؟ أم أنه غير مهم ويمكننا المرور عليه مرور الكرام؟ اتفق معكم أننا متساوون عند الله، وأن متاع الدنيا سيبقى هنا، وهناك لا جرائد ولا صحف ولا «أكل هوا»، وفي الوقت نفسه أهمس لكم أن من يرمي شهادة وفاة من صنعوا بهجته ومتعته طيلة حياته، وزيّن أيّامه وصنع تاريخا جميلا لوجه أمته لا يستحق الاحترام.
نحن نقتل الفنان قبل وفاته، وحين يموت نقوم بصياغة الخبر وكأننا نغسل أيدينا منه إلى الأبد. وهذه المساحة التي نفردها للبعض بشكل أكبر لا تعني أن هناك من هو أهم من الآخر، فالحياة نفسها لا تكتمل إلاّ بوجود أشخاص نحتار أحيانا لماذا خلقهم الله..! لكن وحده الله يعرف. وكما الحياة تماما، يكتمل المشهد الفني والثقافي عندنا بكل من شارك في صنعه، وليس من العدل أن نحذف البعض، ونحقِّر من حضور البعض، ونقلِّص من حجم البعض الآخر ونقرر أن البعض فقط له أهمية. هل كان عمل أي نجم لينجح بدون وجود نجوم الصف الثاني والثالث والكومبارس. هل كان أي شاعر لامع سيلمع أكثر لولا وجود شعراء الصف الثاني وما تحته؟ قد يقول البعض من غير المعقول أن نفرد صفحات لمن كانت أدوارهم «صغيرة» في خريطة مشهدنا الثقافي والفني، لكن ألا يبد الأمر ممتعا حين نكتشف وجها آخر لم نحاول أبدا أن نعرفه.
لقد وددت دوما أن يذكر حتى الكومبارس في أي عمل ظهر ومع أي نجوم وقف، وكيف كان يعامل في حياته… هناك جانب إنساني نسقطه من حياتنا وتوثيقنا لها. يمكنكم أن تشاهدوا فيلم «أسبوعي مع مارلين» (2011) قصة كولين كلارك الذي عاش أسبوعا مع مارلين مونرو ولم يكن سوى مساعد مخرج متطوع لشغفه بالعمل في السينما… لتفهموا جيدا ما أردت قوله.
القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *