الشخصيَّة العربيَّة بين العقل والروح!


* أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

1-

على الرغم من دعاوى الغرب والشرق فإن الدِّين لم يُفصل عن الدولة، ولا العاطفة فُصلت عن الموضوعيّة، ولا الفنّ عن المؤسَّسة الحضاريّة، ولا التعبئة النفسيَّة عن التعبئة الماديَّة والعسكريَّة. وكثيرًا ما كان جنود الكيان الإسرائيلي، مثلًا، يَظهرون على شاشات التلفزة يتلون كتابهم ويؤدُّون صلواتهم أمام دبّاباتهم، ثم يقتلون النساء والأطفال والعجزة. بل كثيرًا ما علمنا أن الأساطير والخرافات تُختلق وتُرسَّخ في الأجيال- وإسرائيل أكبر شاهد تاريخيّ على ذلك- من أجل تثبيت بني قومهم ودعم صمودهم ومطاولتهم؛ لإدراكهم أن ذلك سلاحٌ معنويٌّ أهمّ من السلاح المادي؛ فالقلوب هي أساس النصر أو الهزيمة.
لقد شادوا كيان دولةٍ من أسطورة تاريخيَّة. بل بلغ بهم الأمر إلى درجة الزعم أن سكان أميركا الأصليّين (الهنود الحمر) كانوا إسرائيليّين! بهدف «أَسْرَلَت» تاريخ العالم كلّه، بما في ذلك تاريخ العالم الجديد.
-2-
ونجد مثل ذلك كذلك في التاريخ القديم لدى الأمم المختلفة. فـ (الآشوريّون) خلَّدوا هيبة دولتهم من خلال حوليّاتِ انتصاراتِ ملوكهم. ويتضح لمتأمِّلها أنها مليئة بالادّعاءات والمبالغات، لبثّ الرُّعب في نفوس مناوئيهم، والثقة في أبناء أُمَّتهم. حتى ليقول أحد ملوكهم في مدوَّنات انتصاراته – على سبيل المثال- إنه استأسر 43 مَلِكًا، مع المَلِكات (أزواجهم)، خاضعين عند قدمَيه. أو أن ملوك الشعوب الأخرى كانوا يُـقدِّمون إليه الهدايا، والإتاوات، ويقبِّلون قَدَمَه. إلى درجة أن مَن ينظر في هذا التاريخ المدوَّن، سواء لدى الآشوريّين أو اليهود، يخيَّل إليه أن تاريخهم كان محض انتصارات متوالية، وتاريخ خصومهم محض هزائم مطَّردة. وهذا ما يخرج به مِن انطباع مَن يُطالع النقوش الآشوريَّة التي خلَّدت انتصارات الآشوريّين، وكأن الأُمم الأخرى، وعلى رأسها العرب في شِبه الجزيرة العربيَّة، كان أبناؤها مجرد عبيدٍ تابعين، يدفعون الإتاوات الطائلة للآشوريِّين، لا تاريخ لهم إلَّا تاريخ التآمر والخيبات والهزائم.
وهناك من المؤرِّخين مَن يتَّكئ على تلك المدوَّنات دون تمحيصٍ في أهدافها (الدعائيَّة السياسيَّة)، فيأخذون المعلومة عنها على أن كاتبها إنما أراد بها وجه الحقيقة التاريخيَّة. على حين تَغيب مدوَّنات أُمم أخرى، كالأُمَّة العربيَّة، فيتشوَّه تاريخها، أو يغيب عن الساحة التاريخيَّة، وكأنهم لم يكونوا شيئًا مذكورًا، أو كانوا لا أكثر من مشاغبين، وقُطَّاع طرقٍ حضاريَّة، سرعان ما يقعون في شرِّ أعمالهم.
هذا، وما أكثر ما رأينا الشعوب تتحشّد، في كلّ زمان ومكان، من أجل شعارات رنّانة ورموز وهّاجة، وربما ترَّهات وأكاذيب، جاعلين إيّاها بواعث تستنهض همم أجيالهم نفسيًّا واجتماعيًّا. ولذلك تراهم أحيانًا يصطنعون تلك الشعارات والرموز اصطناعًا، إنْ لم يجدوها، ويرسخونها عبر وسائل إعلامهم وتعليمهم، حتى لتصل في بعض الحالات إلى ضروب من المقدّسات لديهم. لا يفعلون ذلك عن سفاهةٍ أو جهلٍ، لكنهم يدركون أن النفس البشريَّة في حاجةٍ إلى مُثُلٍ ونماذج عُليا تثير فيها الحميَّة والغيرة ودوافع الفعل والصبر والصمود والتحدّي.
أمَّا نحن، العرب، فدعوى «العقلانيَّة» و«الموضوعيَّة» والابتعاد عن «العاطفيَّة» و«الشعارات»، كلّ أولئك قد صارت تسوَّق علينا زورًا وبُهتانًا، لنبقى بلا عقول تبني ولا أرواح تحفز.. إنه القتل المتعمَّد، ماديًّا ومعنويًّا.
-3-
ومن هذا المنطلق فليس من فراغٍ أن يسعى الساعون إلى قتل الشِّعر العربي، وتحييد الفنّ العربي، لكي لا يهيِّجا العواطف، فيُقِضّا المضاجع. وإنْ لم يمكن قتل الشِّعر، باسم الرواية، مثلًا، أو تحييد الفنّ باسم الموضوعيَّة، فليُصرفا إلى التوافه من الأغراض، وإلى سراديب العبث، والغموض الفارغ، واللا معقول، واللا شيء، باسم اللاهوت الحداثي وتجلِّياته «الماورائيَّة».
ومثل ذلك كان يُعدّ من أحاديث الجنون قديمًا، ولوثاته. بل إن ممّا يُنسب في نوادر الأعراب لبعض الحمقى والمجانين، ليبدو في غاية الطرافة اليوم والدِّلالة الشِّعريَّة. وذلك من قبيل ما نُسب إلى الشاعر (أبي حيَّة النُّميري المجنون)، الذي قال مرّةً:
«عَنَّ لي ظَبْيٌ يومًا فرميته، فراغ عن سهمي، فعارضه السهم، ثم راغ، فعارضه السهم، فما زال، والله، يروغ ويعارضه حتى صرعه ببعض الجبانات… وقال يومًا: رميت، والله، ظبيةً، فلمّا نفذ سهمي عن القوس، ذكرتُ بالظبية حبيبةً لي، فعدوتُ خلف السهم، حتى قبضتُ على قذذه قبل أن يُدركها.»
وهو المشهور بسيفه لُعاب المنيّة، شهرة (دونكيشوت) أو أشهر. «قالوا: كان لأبي حيَّة سيف يسمِّيه لُعاب المنيّة، ليس بينه وبين الخشبة فرق. وكان من أجبن الناس. قال [الرواي]: فحدّثني جار له قال: دخل ليلةً إلى بيته كلبٌ، فظنّه لِصًّا، فأشرفتُ عليه، وقد انتضَى سيفه لُعاب المنيَّة، وهو واقف في وسط الدار، وهو يقول: أيّها المغترّ بنا، والمجترئ علينا، بئس، والله، ما اخترتَ لنفسك، خير قليل، وسيف صقيل، لُعاب المنيّة الذي سمعتَ به، مشهورةٌ ضربته، لا تُخاف نبوته. اخرج بالعفو عنك، قبل أن أدخل بالعقوبة عليك! إني، والله، إن أَدْعُ قيسًا إليك لا تَقُم لها! وما قيس؟ تملأ، والله، الفضاء خيلًا ورَجْلًا. سبحان الله، ما أكثرها وأطيبها! فبينا هو كذلك إذ خرج الكلب، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبًا، وكفاني حربًا!»
قيل وكان أبوحيّة النُّميري مجنونًا يُصرع. وقد أدرك هشام بن عبدالملك. وذكر الجاحظ: أنه كان أجنّ من (جعيفران، الشاعر الموسوس)، وكان أشعر الناس. ولعلّه لم يكن مجنونًا بمقدار ما كان كذوبًا، فهو من أكذب الناس كما يصفه الأصفهاني. وهذا النمط من الجنون والكذب لا يخلو، إذن، من فنٍّ وطرافة. والفنون جنون، وبين العبقريَّة والجنون شَعرة، كما قيل.
وهكذا كانت فنون الجنون جميلةً طريفةً مدهشةً، كما في جنون أبي حيّة النُّميري. أمّا بعض جنون ما يُكتب في العصر الحديث باسم الحداثة، فيتدنَّى عن ذلك كثيرًا، فيبدو عَتَهًا خالصًا، لا أقلَّ، وربما أكثر. لأجل هذا اشترطتْ البلاغةُ العربيَّة أن يكون بين طَرَفَي التشبيه في الاستعارة نَسَبًا، أو عُرْفًا، وإلَّا آلت إلى التعمية والإلغاز، وخرجت عن أُفهوم الاستعارة والتمثيل. كأن تقول: «شممتُ أسدًا»، وأنت تعني إنسانًا أبخر الفم، أو تقول: «رأيت غُصنًا طيّبًا أوان الغرس»، أي غُلامًا مؤدَّبًا. ونحو هذا، ممّا يضرب الذهن في إدراك مغزاه أخماسًا بأسداس.
ولهذا عاب بعضهم أبا تمام في قوله:
لا تَسقِني ماءَ المَلامِ فَإِنَّني ** صَبٌّ قَدِ اِستَعذَبتُ ماءَ بُكائي
لفُقدان التناسب بين «ماء» و«ملام». ولو قال «صابَ الملام»، مثلًا، لقبلوه. كلّا، اليومَ ما عاد (تناسب) مرعيًّا في الشِّعر، ولا (مراعاة نظير)، ولا (تفويف)، ولا (إرصاد) أو (تسهيم) أو (توشيح). وما عاد قول ابن نباتة السعدي:
خُذها، إذا أُنشِدَتْ في القومِ من طَرَبٍ ** صُدورُها، عُلِمَتْ منها قَوافيها
مأخوذًا به، أو مقبولًا، أو مثار طَرَبٍ، إنْ لم يكن مثار شَجْبٍ وإنكار. صحيح أن البلاغة العربيَّة القديمة كانت تُبالغ في الشكلانيَّة كثيرًا، وصحيح أنها كانت تُبالغ أحيانًا في تطلُّب الوضوح والتناسب، وتبني مقاييسها على نماذج محدودة زمانًا ومكانًا وثقافة وحتى عددًا، غير أنها تظلّ مُحِقَّة في رؤيتها إجمالًا؛ لأن التعبير البلاغي، مهما رَكِبَ المجاز، ليس بخبط عشواء، ولا بهذيان مخبول، وإنْ باسم المجاز والشِّعر.
وبضِدّ ذلك العتيم المعمِّي لوظيفة الشِّعر الفنيّة والثقافيّة، يسعى آخرون ليُسهم الوضوح والمباشرة في تضليل الوعي العامّ وتخدير الضمائر بمنبريّات من الجعجعة الخطابيَّة والنفاق ودغدغة العواطف.
إشكالات العرب في الأوطان، وفي المواجهات مع العدوّ والعالم، وإشكالاتهم في الآداب والفنون، لَبِنات من بناء واحد، كثيرًا ما انهار على رؤوسهم؛ فمتى يلتئم الإنسان العربي، سويًّا، عقلًا وروحًا؟!
_______
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *