الكتب التي تبكينا

*روجيه عوطة

ذات يوم، أرسلت لي إحدى صديقاتي كتاباً، وفي داخله، سجلت على ورقة صغيرة ملاحظةً، تنبهني فيها بأن قراءتي لذلك الكتاب ستجعلني أبكي. قرأته، وفي أثناء هذا، كنت أتذكر تنبيهها لي، وأحاول تلمس أي شعور فيّ قد يدفعني إلى البكاء، لكني فشلت. خانني وجداني، ولم أبكِ، لكن ملاحظة صديقتي أحالتني إلى كتب، ارتبطت قراءتي لها بالبكاء.

ففي إحدى المرات، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كنت أقرأ كتيب مهدي بلحاج قاسم عن الأدب في مقهى، ولما وقعت على مقطع من نصه، يتحدث فيه عن المعاناة، سال دمعي بغزارة. طبعاً، هذا الكتيب، أو بالأحرى المحاضرة المنشورة فيه، ألّفها بلحاج قاسم لكي يبكي سامعيها. هذا ما قاله في إحدى مقابلاته، وهو، بلا شك، نجح في تحقيق بغيته. إلا أن ثمة كتب، لم يدبجها أصحابها حول موضوعات مؤلمة، ولا بنبرة حزينة، ولا بهدف الإبكاء، لكننا عندما نقرأها، تصيبنا بأثرٍ، لا يمكننا أن نتحمله سوى بالبكاء، ولو الخفيف منه.

على أن البكاء من جراء القراءة هو استعاضة عن فعل آخر. ففي بعض الأحيان، وخلال قراءة أحد الكتب، قد نسرع إلى إغلاقه، ثم الوقوف، والتحرك من موضعنا جيئةً وذهاباً، وغالباً ما يترافق سلوكنا هذا مع نطقنا بعبارة: “كم أن هذا الكتاب فظيع!”. أما حين لا نقدم على ذلك، فنبقى جالسين في موضعنا أمام الكتاب، الذي، ومن شدة وطأته علينا، يثيرنا، ويحركنا حتى يبدأ دمعنا بالإنسكاب على صفحاته.

فـ”الكتاب الفظيع” هو الذي لا يتركنا عالقين فيه، لكنه يحيلنا إلى خارجه، أي يحثنا على تركه للنظر في شؤوننا من جديد. وذلك بعد أن يمدنا بجملة، أو فكرة، لطالما كنا نحتاج إليها، لكننا لم نقدر على صياغتها أو قولها بلا عونه. البكاء في إثر قراءة هذا “الكتاب الفظيع” هو شكل من أشكال الإنصراف، بحيث أننا بدلاً من أن نغلق دفتيه، لندور في موضعنا لكي نتحمله، نصبّ ماء عيوننا عليه، وبهذا، لا نشكو منه، لكننا، نعبّر عن لقائنا معه: “يا له من كتاب، كأنه يتكلم معنا، كأنه يتكلم في مكاننا!”.

هناك، في اللسان المحكي عبارة “بيفتح النفس”، التي يجري استخدامها لوصف أي شيء رائع. وبالفعل، “الكتاب الفظيع” يفتح نفوسنا، وعندها، نبكي، وعندها، لا نعود مثلما كنا قبل قراءتنا له. وفي المقلب إياه، وإذا كان البكاء في إثر القراءة نوعاً من “الكثارسيس”، فهو نوع مختلف عن التطهير المبتذل، الذي نمارسه حين نتفاعل مع موضوع درامي، بحيث أنه لا ينم عن حزن، بل، بالعكس، عن جذل.

وللأخير معنيان. الأول، هو الإنشراح. والثاني، هو الثبات. فلما نلتقي “كتاباً فظيعاً”، فهذا لأننا نتصل بأنفسنا عبره، ما يشرحها فينا بسببه، وما يثبتنا بها بعيداً منه. كما لو أن ذلك الكتاب يساعدنا على الإقامة في أنفسنا والقيام بها بعد خوائها أو حصرها. البكاء، هنا، إشارة إلى أننا شرعنا في التحول من القراءة المنفعلة إلى القراءة الفاعلة، من محايدين إلى جذالى.

نبكي لنتحمل هذا التحول، ونبكي لنتحمل أمراً محدداً، وهو أن الإحساس، الذي لطالما اعترانا وشغلنا، ولطالما حاولنا التعبير عنه، والحديث فيه، لكننا لم نقدر، ها نحن نجده مؤكداً وموسعاً في كتاب تحت أنظارنا. وحينها، قد نشعر بأننا كاتبوه، لا صاحبه، وحينها، قد تلتقطنا كليشيه “موت الكاتب”. لا بأس. لكن دموعنا، تدلنا على موتنا كقراء أيضاً. فالقارئ، عندما يلتقي بكتاب، يبكي، ويدر دمعه لأنه مات، وبالفعل اياه، ولد ككاتب للحظات قليلة، للحظات خلابة، إما أن يلتقطها، أو يتركها تتبدد. “الكتاب الفظيع” هو الذي يقول لقارئه: “أنت كاتبي”، وهذه العطية تستحق البكاء من الفرح.

___
*المدن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *