عقيل أبو الشعر.. المهاجر إذ يعود
د.هند أبو الشعر *
قرن كامل من الغياب ومن الترقب والانتظار، انتقل من جيل إلى جيل.. غابت أجيال انتظرته، ووُلدت أجيال لا تعرفه، وهاجس غياب «عقيل» وغربته يصاحب عائلته، ويطرح الأسئلة.
كان غياب هذا الرجل الغامض يؤرقني ويلاحقني في الوسط الأدبي والأكاديمي، بأسئلة لا أجد عنها جوابا غير بطاقاته الأنيقة التي وجدنا بعضها، كان يرسلها من باريس في فترة الحرب العالمية الأولى إلى أمه المنتظِرة، وشقيقه الكبير (جدي «سليم»).. كان الهاجس يكبر معي، وكانت مصادر معلوماتي للروايات العائلية غير قابلة للشك، وكان المصدر الوحيد الذي وثّق السيرة الأدبية لعقيل أبو الشعر هو يعقوب العودات في «القافلة المنسية»، وما أورده العودات كان أشبه بأسطورة لعبقريٍّ مهاجر، واعتدنا أن نركن إلى ما ذكره العودات كلما سألونا عن «عقيل»!
ولأن بعض تراثه في الرواية صار بين أيدينا، لا بد من توثيق لسيرته، فالجيل الذي عرفه غاب عن هذا العالم غيابا أبديا، وربما أصبحتُ الآن مصدرَ المعلومة عن أسرته وحياته قبل هجرته، وهي مسؤوليتي ككاتبة أولا، وكموثقة تكتب التاريخ، إضافة إلى ما يجمعني به من قرابة الدم والحرف.
ولا بد من الإقرار بأن وعيي تفتّح على أزمة غياب «عقيل» وهجرته، وأن هذا الغياب دفعني للاهتمام بموضوع الهجرة والمهاجرين، فنشرت «أوراق المهاجر الأردني سلمان عبده النمري» المهاجر إلى أميركا العام 1913، في «الرأي» ضمن زاوية «أوراق الأجداد». وسلمان ابنُ خال عقيل. ثم تابعت دراسة ونشر مذكرات المهاجر الأردني المبدع خليل سليم سماوي إلى المكسيك في العام 1922، ونشرتها في أربع وأربعين حلقة في «الرأي» أيضا..
لقد أصبح موضوع الهجرة هاجسي الذي يلاحقني، وتبين لي أن جيل عقيل أبو الشعر عرف الهجرة إلى أوروبا والأميركيتين، وأن هذه الظاهرة مثّلت بلاد الشام قبل «السفربرلك»، وبعده.
مسقط الرأس
كانت الحصن زمن ولادة عقيل أبو الشعر قد تحولت من قرية إلى بلدة. وتوثق السجلات العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر، أن الحصن من القرى الكبيرة التي اجتذبت أهالي بلاد الشام، وتحديدا من جبل لبنان ودمشق وماردين والناصرة وحوران، وتُبين سجلات مدرسة دير اللاتين للعام 1885 أنها كانت تضم 110 طالبا وطالبة، وفيها تحديد لأصول طلبتها، وكان فيها زمنَ ولادته التي نرجّح أنها سنة 1890، مدرسةٌ أرثوذكسية، وأخرى للبروتستانت، ومكتب حكومي عثماني، وهذا يعني أن بيئة الحصن كانت منفتحة على التعليم والبيئات المجاورة في بلاد الشام، وتحديدا دمشق والناصرة والقدس وجبل لبنان.
كانت الحصن تضم عددا من الحارات: الشرقية، والقبلية، والغربية، والشمالية، ووسط البلد، والسوق القبلي، والسوق الوسطاني، وشارع كنيسة الروم واللاتين، وجوار البركة. ويبين سجل الأملاك أن عدد الدُّور في العام 1892 بلغ 271 داراً، وأن عدد الغرف المنفردة 78 «أوضة» بحسب التعبير العثماني، وهذا يعني أن الحصن كانت في حينه بلدة وليست قرية.
وقد قدّرت المصادر عدد سكان الحصن بشكل متتابع، فراعي طائفة اللاتين قدّرهم في العام 1885 بأكثر من ألفي نسمة، وفي العام 1905 زارها الأب «إليكس مالون» وقدّر عدد سكانها ب 2500 نسمة، في حين بلغ عددهم في العام 1913 أكثر من 4000 نسمة. وأشار الأب «مالون» الذي زار الحصن في العام 1905 ، في مقالته المنشورة في مجلة «المشرق»، إلى أن أهالي الحصن «ازدادوا في ثماني سنوات بمقدار ألف نسمة»، وأن الأهالي «يشيدون البيوت الرحبة ويفتحون الدكاكين»، وأن التجار «يأتونها من دمشق»، وأن مدارسها «على قدم النجاح».
ورصدَ السجل المالي في الحصن وجود 75 دكانا موزعة على الحارات سابقة الذكر، ومنها من كانت ملكيتها لتجّار «شوام»، وهذا العدد كان أكبر من عدد دكاكين إربد مركز قضاء عجلون، بما يؤشر على أن بيئة عقيل أبو الشعر كانت منفتحة.
أسرة عقيل
تعود جذور عائلة «أبو الشعر» في الحصن إلى بصرى الشام أو «بصرى اسكي شام» بحسب التعبير العثماني، وترجح الرواية العائلية التي دوّنها بيك باشا في كتابه «تاريخ شرقي الأردن وقبائله» أن الأصول تعود إلى الغساسنة، وهذا أمر مقبول تماما، لأن هذه هي أراضي الغساسنة، وكانت الهجرة زمن حصار نابليون لعكا، هربا من ضغوط قبيلة عنزة التي هاجمت بصرى آنذاك، فوصل جد العائلة -واسمه عبدالله القلزي- إلى قرية صخرة عند الأمير الغزاوي، وعمل كاتبا لديه. وتشير الرواية المحلية إلى استقرار أبناء القلزي في كل من الحصن والناصرة ويافا، وبقيت العلاقات بين عائلات الإخوة متينة، خصوصا بين الناصرة والحصن.
وكان الاستقرار بالحصن قبل مولد عقيل بأقل من قرن، وقد سكن الجد المهاجر قرب البرْكة الرومانية، وبنى منزله هناك، ومن الملاحَظ أن المسيحيين والمسلمين سكنوا متجاورين في حارات الحصن، وكانت البرْكة من المعالم الرئيسة التي تجمع الأهالي لسقاية المواشي، في حين أنهم قاموا بحفر آبار في بيوتهم للشرب، وما تزال معالم بعض بيوت هذه الفترة قائمة، ومنها بيت «سليم» -شقيق عقيل- وفيه المضافة التي عرفها عقيل وجيله، وكانت مركزا لزوار الحصن، وكان فيها شاعرٌ ومعه ربابته لسمر الليالي.
وفي هذه المضافة كانت اجتماعات سياسية زمن انتخابات أول مجلس تشريعي أردني، وكذلك أول مجلس نيابي أردني. فالمضافات كانت مراكز الاتصال والعلاقات داخل القرى وخارجها، وأتذكر أنني رأيت في طفولتي صورة زيتية كبيرة ومهيبة للجد سليم معلّقة في المضافة مرسومة في القدس، وهذا يعني أن بيئة عقيل كانت محفزة له في طفولته، وهناك قائمة بأسماء زوار هذه المضافة وممن أقاموا فيها مثل نجيب نصار صاحب «الكرمل»، وكذلك صاحب صحيفة «الجامعة» العربية المقدسية، وقنصل ألمانيا في القدس الذي التقط لجدي صورة وهو يجلس على سيارة القنصل وجعلها غلافا لأحد أعداد مجلة «البرليني» الصادرة في برلين، وهي محفوظة لدي.
والد عقيل هو سليمان عبدالله عيسى النمر، وتذكر الرواية أن نمر كان جريء القلب، وأنه قتل نمرا في طريق هجرته في منطقة الأغوار ولبس جلده، فسُمي «النمر» وعُرف أعقابه بالنمورة، أما ابنه عيسى فكان ينزل للسباحة في البرْكة قرب داره ليغسل شعر رأسه، وكان له شعر طويل كعادة رجال ذلك العصر، فسماه الناس: «أبو الشعر» وعُرف فيه أعقابه، وقد استخدم عقيل الكنية المعروفة آنذاك وهي «النمر» وليس «النمري» التي تشيع الآن.
حكاية عجيبة
تزوج والد عقيل من امرأة حورانية من إحدى قرى سهل حوران، وأنجب منها بنات ولم ينجب ذكورا، وكان ملاّكا وصاحب ثروة، فعملت الزوجة الحورانية على تزويج زوجها من امرأة تهبه الذكور من الأبناء، وكان في السبعين من عمره، وتم تزويجه من صبية في العشرين، ووُلد له من زوجته الجديدة، ابنة وأربعة أبناء ذكور، وكان جدي «سليم» هو الثاني، وعقيل الابن الأصغر، وربما كانت ولادة عقيل في العام 1890، وقد عمّرت الزوجة حتى جاوزت المائة، وبقيت تسأل في آخر أيامها عن ابنها الذي هاجر ولم يعد، وظلت تبكيه وهي في أيامها الأخيرة بحسب ما يروي أحفادها.
ومن أحفاد هذا الرجل الذي أنجب «عقيل» وهو في مطلع الثمانين من عمره، رجالات لهم حضورهم في تاريخ الأردن السياسي والثقافي، فحفيده المحامي والقانوني والسياسي نجيب أبو الشعر، الذي حصل على الإجازة في الحقوق وهو في الثالثة والعشرين من عمره وأصبح أول عضو في المجلس التشريعي الأردني الأول في العام 1929، وهو المعارض المعروف للمعاهدة البريطانية-الأردنية، وكان محاميَ المقر العالي للأمير عبدالله، ومحامي مجلس بلدية الخليل، وقنصلا فخريا للأردن في مصر، وأخيرا عضوا في مجلس الأعيان الأردني قبل اغتياله الفاجع، وهو شخصية تستحق الدراسة في تاريخ الأردن الحديث.
أما حفيده الثاني، فالمحامي والإعلامي أمين أبو الشعر، صاحب مجلة «الرائد»، وعضو أول مجلس نيابي أردني ومدير المطبوعات والنشر ومدير الإذاعة الأردنية ومؤسس صحيفة «الرأي»، ومؤسس مطبعة الجمعية العلمية الملكية، ومن أحفاده د.نادر أبو الشعر الجراح المعروف، وعضو مجلس النواب وعضو مجلس الأعيان الأردني.
عقيل قبل الهجرة
ما وصلنا من معلومات عن عقيل قبل هجرته يعتمد الروايات العائلية التي أثق فيها رغم أنه لا يحمل طابع التوثيق، لذلك لا بد من إيراد الملحوظات الآتية:
– لم أجد في سجل نفوس الحصن أي توثيق لهذه الفترة، لذلك لم أتمكن من تأكيد زمن ولادة عقيل، علما أن الدولة أصدرت سجلات نفوس، ولكنها مفقودة، وقد حاولت الحصول عليها عند زيارتي للأرشيف العثماني بأسطنبول، فلم أوفَّق.
– المصدر الثاني لتأكيد زمن ولادة عقيل، هو السجل الكنسي للعماد، ويبدو أن عائلة سليمان أبو الشعر أجرت طقس العماد لأبنائها في الكنيسة الأرثوذكسية، وهي غير متوفرة، وربما كانت مفقودة.
– لا شك لدينا بأن عقيلا درس في مدرسة دير اللاتين التي تم تأسيسها في العام 1885، وقد أطلعني الأب (المرحوم) نعوم كرادشة على سجل المدرسة للعام 1885، لكنه لم يسمح لي بتصويره كاملا وصوّر لي بعض صفحاته.
– يستند اليقين في موضوع دراسته في مدرسة دير اللاتين، إلى العلاقة المتينة بين شقيقه «سليم» وبين الأب هولندي الجنسية «أدريانوس سمتس» الذي بقي في الحصن كاهنا في الفترة (1900-1910)، وهو الذي جمع تبرعات من الغرب لبناء كنيسة اللاتين الحالية، ونشر إعلانات في صحافة الغرب للحصول على التبرعات، وأحضر بعد ذلك مواطنه الرسام «بيتر جيرتس» الذي أقام في الحصن لمدة ست سنوات، قام خلالها برسم الكنيسة الجديدة ونقشها بلوحات رائعة من الفريسكو ما تزال قائمة بشكل جميل. وقد رأيت صورته المهداة إلى جدي «سليم» في المضافة بالحصن، ثم رأيتها محفوظة بدير اللاتين بعد خراب المضافة وهجرها، ويبدو أن الأب «سمتس» هو الذي أرسل الطالب النبيه «عقيل» إلى القدس أملاً في أن يدخل سلك الكهنوت، وهذا يعني أن «عقيل» كان أحد طلبة مدرسة دير اللاتين حكما، لأنه أُرسل للدراسة في القدس مبعوثا من المدرسة.
– العلاقة بين القدس وأبناء الطوائف من أهالي شرقي الأردن كانت قوية، خصوصاً بين أهالي الحصن والسلط ومادبا والفحيص والرميمين، وهو ما تبينه مصادر المرحلة، ومن المعروف أن أهالي السلط والفحيص يَعدّون سوق القدس سوقا يومية لهم ولبضائعهم، وقد هاجر أهالي السلط والفحيص في العام 1918 -في ما عُرف باسم «سنة الفلّة»- إلى القدس وقضوا فيها قرابة العام حتى انتهت الحرب العالمية الأولى، وكانت القدس هي محطة المهاجر الأولى من شرقي الأردن إلى الأميركيتين وأوروبا، وهو المبرر المعقول لمسيرة عقيل المبكرة التي انتقل فيها من الحصن إلى القدس.
ومن المعروف أن العائلة أرسلت أبناءها إلى القدس للدراسة منذ عقيل، فدرس فيها أبناء سليم (نجيب وأمين وابن ابنه غسان- وهو والدي)، في مدارس الفرير وتراسانطة، ومن المؤكد أن «عقيل» كان قد هاجر مع قدوم أبناء شقيقه للدراسة في القدس.
– كان عقيل يزور عائلته وهو يدرس علوم الكهنوت في مدرسة الساليزيان، لكن هذه الزيارات كما هو معروف محدودة بزمن، وكان عقيل يعزف على الكمان، وكان تعليم الموسيقى في المدارس معروفا آنذاك، خصوصا في مدارس الطوائف، لأغراض دينية، فالطقس الكنسي يقوم على العزف المصاحب للصلوات باستخدام آلة الأورغ، وكان ابن شقيقه أمين يعزف على آلة الكمان، وهذا يفسر اتجاه عقيل نحو التأليف في الموسيقى وتعليم الموسيقى في غربته ودار هجرته.
– المرحلة الضائعة في حياة عقيل هي فترة مغادرته للقدس إلى إيطاليا، مبعوثا من قبل دير الفرنسيسكان لدراسة اللاهوت والفلسفة والموسيقى، وهو إجراء متبع في الكنيسة لتأهيل الكهنة، وليس معروفا على وجه التحديد الجامعة التي تخرج فيها، غير أنني وجدت في بيت جدي «سليم» صورة لعقيل وهو يلبس الببيون والقبعة ومكتوب عليها في الخلف بقلم الرصاص اسم أستوديو بميلانو، وهذا ليس مبررا للقول إنه درس هناك، لكنني على يقين بأنه ذهب إلى روما وتحديدا إلى الكلية التي يدرس فيها كهنة روما (كلية دي لاتان دي روما)، والتي وردت الإشارة إليها أكثر من مرة في رواية «الانتقام»، فهي المكان المرجح لدراسة الكهنوت.
– المرحلة الموثقة لدينا تبدأ بإقامة عقيل في باريس مع الحرب العالمية الأولى، إذ تم تهريبه من وجه السلطة قبل الحرب على إثر نشر روايته «الفتاة الأرمنية في قصر يلدز»، وذلك في الفترة التي قرر فيها أن يترك الكهنوت، فأين أقام؟ وماذا عمل؟ المؤكد أنه كان لا يتمكن من العودة إلى مسقط رأسه وأهله، وأنه بدأ ببناء حياته العملية والفكرية في باريس، ومن المؤكد أنه كان عضوا في جمعية «من أجل فلسطين» في باريس، في شارع «ستراسبورغ» (شارع الصحافة)، وكانت بطاقاته تحمل هذا العنوان، كما أن الإشارة إلى هذه الجمعية ورد على الغلاف الداخلي لروايته «القدس حرة»، وهذا يعزز ما وصَلنا عن نشاطه السياسي مع أحرار العرب في باريس.
– لدينا بطاقات بريدية محدودة أرسلها عقيل إلى أمه وإلى شقيقه الكبير سليم، تحمل إحداها تأكيدا أنه نجح أثناء الحرب العالمية الأولى في نشر كتاب «ضد الأتراك»، وقد أشار البدوي الملثم في ترجمته لسيرة عقيل إلى مقطع من هذا الكتاب وعنوانه «العرب تحت النير التركي»، وفيه يشبّه عقيل العربَ بحقل سنابل، كلما نبتت سنبلة حصدها منجل السلطة العثمانية، ولم يذكر البدوي الملثم إن كان قد اطّلع على الكتاب أم لا، ومن أي لغة نقل النص الذي قرأه. وأرجح أن البدوي الملثم الذي كان على اتصال ومعرفة وثيقة بالمحامي نجيب أبو الشعر الذي أتقن الفرنسية إتقانا تاما، وأنه رأى الكتاب عند نجيب الذي كان يحتفظ بمكتبة في بيته بالقدس، فقدها في حرب العام 1948، وعاد إلى عمّان وقد خسر كل شيء تماما كخسارة كل العرب!
ومن المؤسف أنني لم ألتق البدوي الملثم، لكنني تعرفت إلى زوجته (المرحومة) نجلاء ابنة بولص شحاده صاحب صحيفة «مرآة الشرق»، والتي اعتادت أن تتصل معي هاتفيا أسبوعيا وتنقل إلى ما حفظته ذاكرتها عن العلاقة الطيبة بين نجيب والبدوي الملثم وتجاورهما في القدس، وهو التفسير الوحيد لإيراد البدوي الملثم للنص المذكور، وقد بتنا الآن نثق تماما بكل ما أورده البدوي الملثم في «القافلة المنسية» في ترجمة حياة عقيل، ونؤكد مصداقية ما أورده.
– من المؤكد أن «عقيل» وصل أثناء الحرب العالمية الأولى إلى القدس، وكان عندها صحفيا يعمل مراسلا لصحف غربية، وهو ما وثقه في روايته «القدس حرة» التي نشرتها وزارة الثقافة مترجمة عن الإسبانية في أيار 2012. وتأكيدا لهذه الحادثة، عثرت على مفكرة لجدي «سليم» تعود إلى العام 1913 وقد سجل فيها ملحوظات متتابعة لم يذكر تاريخها، يشير فيها إلى دهشته وهو ينزل في «لوكانده الشرق» في القدس عندما وجد شقيقه «عقيل» وقد وصل القدس ونزل فيها، وقد استغل الشقيق الكبير عودة عقيل ليزوجه من إحدى «بنات العرب» فوافقه عقيل، وعاد جدي إلى الحصن للبحث عن العروس المناسبة، لكن «عقيل» سافر دون أن يتزوج. ويذكر البدوي الملثم أنه تزوج من «كونتيسة» فرنسية، وهو ما نرجحه، لأن «عقيل» استقر زمنا طويلا في مرسيليا قنصلاً لجمهورية الدومينيكان.
– آخر ما وصلنا عن سفر عقيل، ما سمعته مرارا من جدي «غازي» -وهو ابن شقيقه- إذ روي لي أنه وهو ابن أحد عشر عاما، ذهب مع جدته إلى حيفا، لرؤية عقيل الذي أرسل لأمه رسالة يبدي رغبته بوداعها قبل هجرته، وأنه ينتظرها في ميناء حيفا حيث ستبحر سفينة الهجرة، وهذا يعني أنه لا يستطيع دخول الحصن، فأخذت الأم حفيدها وسافرت إلى حيفا، وكان السفر يبدأ من الحصن إلى درعا حيث ركبت الأم وحفيدها القطار، ووصلا حيفا ونزلا ب «لوكانده»، وأخبرني جدي أنهم سهروا في الليلة الأخيرة مع عقيل وتناولوا طعام العشاء، وكان عقيل يُطعم أمه بيديه، ويبدو أنه خطط للسفر دون أن يخبرها، وقد رفض أن يأخذ النقود الذهبية التي أحضرتها له، وفي الصباح سلّم النادلُ في غرفة الطعام للأم رسالةَ وداعٍ كتبها عقيل ومعها حزمة نقود، وكان عندها يركب الباخرة في طريقه لهجرة أبدية!
أتذكر وصف جدي لعمه، فقد كان «عقيل» بحسبه، حضاريا ورقيقا وعاطفيا، طويل القامة ومعه آلة الكمان في بيتٍ جلدي، وأرجح أن زمن هذه الحادثة كان في العام 1912، لأن جدي من مواليد العام 1900، ويبدو أن عدم ذهاب عقيل إلى الحصن كان لأسباب أمنية بعد نشر روايته «الفتاة الأرمنية في قصر يلدز»، وبالمناسبة فقد عثرت على دليل ربما يقودنا في زمن قريب إلى هذه الرواية، وهي بالتأكيد منشورة في العام 1912.
ويبدو أن العلاقة بين عقيل وشقيقه الكبير «سليم» كانت وثيقة، فجدي «سليم» كان متنورا وتاجرا وعضو مجلس إدارة قضاء عجلون، وهو الذي اعتاد أن يراسل «عقيل» ويدعمه منذ طفولته، وقد انقطعت مراسلات عقيل بحسب ما لاحظتُ مع وفاة شقيقه «سليم»، ولا أدري إن كنا سنعثر على رسائل أو أوراق جديدة بعد العام 1935، وهو عام وفاة جدي «سليم»، ومن المؤسف أننا فقدنا محتويات مكتبة الجد، ومعها ضاع تاريخ عقيل بضياع رسائله.
عقيل كما أراه
كتبت ثلاث مقدمات للروايات الثلاث التي تُرجمت ونُشرت لعقيل، وقدمت من خلالها قراءتي للروايات ولزمن عقيل وتوقفت عند المفاصل الآتية:
– في رواية «القدس حرة.. نهلة غصن الزيتون» وجدت أن مفتاح شخصية عقيل هو كره الاضطهاد، والدعوة إلى الحرية تحت أي سماء وفي أي مكان.. كرهَ عقيل الظلم العثماني وحاربه، وكره الظلم البريطاني وندد به وحاربه بقلمه في الصحافة والأدب، وكره احتلال الأميركان لجمهورية الدومينيكان وجاهرَ بطلب حريتها من رأس الدولة علنا في باريس في بهو قصر فرساي، في وقت كان فيه الرئيس «ودرو ولسون» يعرض مبادئه الإنسانية وجيشُه يحتل جمهورية الدومينيكان.. هذا الرجل يحمل في أعماقه العشق العظيم للحرية، وهذا هو مفتاح شخصيته.
ومن المفاصل الرئيسة للرواية موضوع الهجرة الصهيونية وتهويد القدس، حيث يصل الراوي الصحفي «حربا الأردني» إلى القدس، مندوبا عن صحيفتين غربيتين لتغطية وصول أربع عشرة سفينة محملة بالمهاجرين إلى ميناء يافا، فيذهب من القدس إلى يافا لتغطية الحدث، ويصف «طوربيدات» الإنجليز التي تحميهم وتتبعهم وهم ينتقلون بالقطار من يافا إلى القدس ويحتلون المقاعد والفنادق ويزاحمون الأهالي.
وقد أصر عقيل وهو ينقل هذه الأحداث بعين الصحفي والروائي أيضا، على تقديم صورة بشعة لكل عناصر الاحتلال، فقد قدم القادة والجنود الإنجليز بصورة مشوهة، وأبدى تهكمه على العنصر الأنجلوسكسوني مقابل تعاطفه مع العنصر اللاتيني، وقد تبين لي أن صورة أهالي القدس محدودة هنا، لكنه قدم نماذج بهية للناس، فالشيخ المقدسي الذي قدّمه وهو يقرأ في الشارع بصوت عال وصايا النبي محمد «صلى الله عليه وسلم» لابنِ عمه وزوج ابنته علي بن أبي طالب، يعطي صورة ناصعة لوصايا إنسانية رفيعة المستوى، وقد نقلها عقيل بنصها في إشارة لإعجابه الشديد فيها.
أما الرواية الثانية التي تحمل عنوان «إرادة الله»، والتي تعود إلى العام 1917، والمترجمة عن الإسبانية، فقد وجدتُ فيها حالة متميزة من تقديم التاريخ بصورة روائية، وهو تصور مبكر لعقيل، الذي أهدى الرواية إلى: «شباب بلدي المبعثرين في الأميركيتين، تحية أخوية». هذا الإهداء يختصر حال الهجرة التي تحولت إلى ظاهرة في بلاد الشام، ومكان الرواية هو الجليل والقدس، وعقدة الرواية تقوم على مأساة «سارة» ابنة العائلة الكاثوليكية من الجليل، والتي يرفض والدها الصياد البسيط على ضفاف بحيرة طبريا أن يزوجها من شاب جليلي ينتسب للمذهب البروتستانتي، ملتزما بتعليمات بطريرك القدس بعدم إباحة تزويج بنات الطائفة الكاثوليكية من شباب البروتستانت، حتى لو كانوا من العائلة نفسها.
وتصبح سارة الجليلية الحسناء هي القضية وكأنها الجليل الذي يتحكم فيه القائد التركي القاسي أحمد أفندي، والذي يطمع بجسد سارة، التي تتعرض لاغتصاب بشع منص قبل الماركيز ابن شقيقة البطريرك القادم من نابولي وهو من نسل قائد الحملة الصليبية الرابعة، وكأن «عقيل» أراد أن يصرخ بوجه العالم على الترتيب المسبق باغتصاب فلسطين، وكأن مصير سارة الجليلية يمثل تاريخ فلسطين التي جاءها الصليبيون غزاةً ويحكمها الأتراك بلا شرعية..
ولا شك أن «عقيل» انتقى شخصياته ليوصل أفكاره المتنورة، فالرواية ابنة زمنها -العام 1917- وتعكس حال فلسطين آنذاك، وفيها إدانة واضحة لتعسف رجال الدين، وتكشف الصراع بين رجال الدين من غير العرب وبين الأهالي في مشهد مؤثر يروي أحداث ليلة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد في بيت لحم، حيث منع البطريرك الأهالي العرب من الترتيل باللغة العربية، وأجبرهم على الصلاة باللغة اللاتينية، ما أدى إلى صدام بين الأهالي ورجال البطريرك، انتهى بتدخل «رجال الانكشارية» الأتراك.
التاريخ حاضر في هذه الرواية باستحضار شخصيات تاريخية بطرق ذكية، مثل نابليون بونابرت وهو يحاصر عكا، وأحمد باشا الجزار بوحشيته في قمع عبيده. ومن المفاصل الذكية والجريئة في الرواية موقف عقيل من الهجمة الفرنجية على بلاد الشام، ومن محاولات تقزيم دور العرب بنقل الحضارة اليونانية إلى الحضارة الغربية، من خلال ترجمتهم لكتب الفلسفة إلى العربية. وانتصر عقيل من خلال الحوارات الفكرية التي أدارها على لسان الشخصيات العربية من أهالي فلسطين للعرب ضد الصليبيين، ووصف الشخصَ الذي اغتصب سارة الفلسطينية ب «الخائن الغريب»، وهو توظيف واضح للفكرة التي تستوطن عقل عقيل في فلسطين العام 1917، بأن فلسطين ستُنتزع من أهاليها في إشارة إلى قدوم الإنجليز والصهاينة في آخر العهد العثماني، وكان عقيل يراقب الهجرة الصهيونية وقد وصف اليهود ب «الغاصبين» في إشارة مبكرة لوعيه بالمصير القادم الذي ينتظر فلسطين.
استوقفني في الرواية موقف عقيل من المرأة من خلال شخصية سارة، التي تختصر سيرتها الروائية سيرة فلسطين، وقد قدم رؤية معاصرة واعية، قائلا: «سعيد ذلك الرجل الذي يفهم روح المرأة جيدا ويغفر لها أخطاءها.. أعطوا المرأة الحرية التي تتمتعون بها أنتم.. لماذا تتوقعون منها حملا من الفضائل أثقل مما تستطيعون أنتم حمله؟ وفي الحقيقة أقول لكم إنه وبسبب الظلم سوف تُحرمون من أسمى درجات البهجة التي يمكن أن توجد على وجه الأرض، ألا وهو حب صادق لامرأة».
ورغم المبالغات في تضخيم بعض المواقف والشخصيات، ورغم السخرية الواضحة، إلا أننا أمام عمل رائد كتب بحبكة ذكية كُتب العام 1917.. ومن هنا جاء امتياز هذا العمل الروائي الرائد.
أما الرواية الثالثة لعقيل، والتي وصلتنا بالفرنسية، فتحمل عنوان «انتقام الأب كريستوبال»، إلى جانبه عنوان مصغر هو «مأخوذة عن يوميات مهاجر فرنسي إلى سان دومانج»، وهي منشورة في مرسيليا بفرنسا، حيث كان عقيل قنصلا لجمهورية الدومينيكان. ومرسيليا هي محطة المهاجرين العرب إلى الأميركيتين، وقد أهدى عقيل الرواية لرئيس جمهورية الدومينيكان، ويبدو بوضوح أن هذه الرواية تحمل النضج الفني لرواية مكتملة في عناصرها الفنية، وربما تمثل السيرةَ الذاتية لعقيل نفسه، وهو بالتأكيد «السيد بيرنار» الذي هاجر من فرنسا إلى الدومينيكان، والذي ارتبط بالأب «كريستوبال»، الشخصيةِ الرئيسة في الرواية. و «الانتقام» رواية للنخبة، أبطالها من النخبة السياسية والقيادات الدينية والفكرية في الجمهورية، ويحس القارئ أنه لا يستطيع أن يستثني أي فقرة أو كلمة منها.. إنها رواية فيها من العمق في الطرح و التعبير أكثر مما نتصور لرواية كُتبت في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين.
أبرزت الروايةُ حاضر جمهورية الدومينيكان والصراع الدائر بين السياسي والديني، ويبدو من الرواية تأثير الثقافة الفرنسية عند النخبة من أهالي الجزيرة. وهي تستوقف القارئ الذي يجد فيها حالة نادرة من النسيج الاجتماعي المتعدد والمتين ما بين أصول السكان من أهالي هايتي ومن الأصول الهندية ومن المهاجرين الفرنسيين وبقايا الحكام من الإسبان، وكلها تختصر تاريخ الجمهورية التي مرت عليها عهود السلطة الإسبانية والهايتية والأميركية والفرنسية..
من أجمل المشاهد التي تجمل خصوصية الرواية، انتصار عقيل لشخصية الزعيم الهندي الدومينيكاني «كاونابو» الذي أسره المحتل الإسباني، وحمله معه «كريستوفر كولمبوس» المكتشف العظيم (…!) مقيدا بالأصفاد ليهديه لملكة إسبانيا، لكن الزعيم الذي غلبته أصفاد المحتل الأوروبي وحملته في السفينة، رفض أن يبتسم ولو لمرة واحدة لأعدائه ومات مقهورا في سفينة المحتلين، غير أنه في ليالي الشتاء والعواصف، وعندما تكون البلاد على وشك الدخول في الحروب الأهلية، يسمعه أهالي الجمهورية يزمجر غاضبا ويهز سلاسل السفن، ويعرفون عندها أنه عاد ليدعوهم إلى حل خلافاتهم قبل أن يُهدر الدم الدومينيكاني على أيدي أصحابه.
وقد رأيت في رواية «الانتقام» مقدرةً فنية مميزة لعقيل على انتقاء المواقف بلا تكلف، وتوظيفها لتسريب أفكاره وشطحات خياله، بلا تكلف أو تسطيح. إنه يملك مقدرة عجيبة على دمج الفني بالفكري، فتنبعث أفكاره وهواجسه ضمن مخزون عجيب وعميق من الثقافات التي تطل من الشعر والمقولات التي يستذكرها عبر شخصياته، مثل الموقف من الحرية ودرجاتها، ورأيه في ممارسة الديموقراطية، وتباين الآراء حول إحراق الموتى والمواقف من الحروب..
جميع الحوارات التي تجريها شخصيات الرواية، عميقة وتبعث على التفكير والتحليل.. الكل محاور ومثقف ومفكر.. وكل ما يقولونه عميق وبسيط في آن، وهذا سر امتياز شخصيات عقيل.. إنها شخصيات حية مفكرة ومؤثرة، وهذا سر امتيازها.. إنها لا تُنسى.
كانت الحصن زمن ولادة عقيل أبو الشعر قد تحولت من قرية إلى بلدة. وتوثق السجلات العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر، أن الحصن من القرى الكبيرة التي اجتذبت أهالي بلاد الشام، وتحديدا من جبل لبنان ودمشق وماردين والناصرة وحوران، وتُبين سجلات مدرسة دير اللاتين للعام 1885 أنها كانت تضم 110 طالبا وطالبة، وفيها تحديد لأصول طلبتها، وكان فيها زمنَ ولادته التي نرجّح أنها سنة 1890، مدرسةٌ أرثوذكسية، وأخرى للبروتستانت، ومكتب حكومي عثماني، وهذا يعني أن بيئة الحصن كانت منفتحة على التعليم والبيئات المجاورة في بلاد الشام، وتحديدا دمشق والناصرة والقدس وجبل لبنان.
كانت الحصن تضم عددا من الحارات: الشرقية، والقبلية، والغربية، والشمالية، ووسط البلد، والسوق القبلي، والسوق الوسطاني، وشارع كنيسة الروم واللاتين، وجوار البركة. ويبين سجل الأملاك أن عدد الدُّور في العام 1892 بلغ 271 داراً، وأن عدد الغرف المنفردة 78 «أوضة» بحسب التعبير العثماني، وهذا يعني أن الحصن كانت في حينه بلدة وليست قرية.
وقد قدّرت المصادر عدد سكان الحصن بشكل متتابع، فراعي طائفة اللاتين قدّرهم في العام 1885 بأكثر من ألفي نسمة، وفي العام 1905 زارها الأب «إليكس مالون» وقدّر عدد سكانها ب 2500 نسمة، في حين بلغ عددهم في العام 1913 أكثر من 4000 نسمة. وأشار الأب «مالون» الذي زار الحصن في العام 1905 ، في مقالته المنشورة في مجلة «المشرق»، إلى أن أهالي الحصن «ازدادوا في ثماني سنوات بمقدار ألف نسمة»، وأن الأهالي «يشيدون البيوت الرحبة ويفتحون الدكاكين»، وأن التجار «يأتونها من دمشق»، وأن مدارسها «على قدم النجاح».
ورصدَ السجل المالي في الحصن وجود 75 دكانا موزعة على الحارات سابقة الذكر، ومنها من كانت ملكيتها لتجّار «شوام»، وهذا العدد كان أكبر من عدد دكاكين إربد مركز قضاء عجلون، بما يؤشر على أن بيئة عقيل أبو الشعر كانت منفتحة.
أسرة عقيل
تعود جذور عائلة «أبو الشعر» في الحصن إلى بصرى الشام أو «بصرى اسكي شام» بحسب التعبير العثماني، وترجح الرواية العائلية التي دوّنها بيك باشا في كتابه «تاريخ شرقي الأردن وقبائله» أن الأصول تعود إلى الغساسنة، وهذا أمر مقبول تماما، لأن هذه هي أراضي الغساسنة، وكانت الهجرة زمن حصار نابليون لعكا، هربا من ضغوط قبيلة عنزة التي هاجمت بصرى آنذاك، فوصل جد العائلة -واسمه عبدالله القلزي- إلى قرية صخرة عند الأمير الغزاوي، وعمل كاتبا لديه. وتشير الرواية المحلية إلى استقرار أبناء القلزي في كل من الحصن والناصرة ويافا، وبقيت العلاقات بين عائلات الإخوة متينة، خصوصا بين الناصرة والحصن.
وكان الاستقرار بالحصن قبل مولد عقيل بأقل من قرن، وقد سكن الجد المهاجر قرب البرْكة الرومانية، وبنى منزله هناك، ومن الملاحَظ أن المسيحيين والمسلمين سكنوا متجاورين في حارات الحصن، وكانت البرْكة من المعالم الرئيسة التي تجمع الأهالي لسقاية المواشي، في حين أنهم قاموا بحفر آبار في بيوتهم للشرب، وما تزال معالم بعض بيوت هذه الفترة قائمة، ومنها بيت «سليم» -شقيق عقيل- وفيه المضافة التي عرفها عقيل وجيله، وكانت مركزا لزوار الحصن، وكان فيها شاعرٌ ومعه ربابته لسمر الليالي.
والد عقيل هو سليمان عبدالله عيسى النمر، وتذكر الرواية أن نمر كان جريء القلب، وأنه قتل نمرا في طريق هجرته في منطقة الأغوار ولبس جلده، فسُمي «النمر» وعُرف أعقابه بالنمورة، أما ابنه عيسى فكان ينزل للسباحة في البرْكة قرب داره ليغسل شعر رأسه، وكان له شعر طويل كعادة رجال ذلك العصر، فسماه الناس: «أبو الشعر» وعُرف فيه أعقابه، وقد استخدم عقيل الكنية المعروفة آنذاك وهي «النمر» وليس «النمري» التي تشيع الآن.
تزوج والد عقيل من امرأة حورانية من إحدى قرى سهل حوران، وأنجب منها بنات ولم ينجب ذكورا، وكان ملاّكا وصاحب ثروة، فعملت الزوجة الحورانية على تزويج زوجها من امرأة تهبه الذكور من الأبناء، وكان في السبعين من عمره، وتم تزويجه من صبية في العشرين، ووُلد له من زوجته الجديدة، ابنة وأربعة أبناء ذكور، وكان جدي «سليم» هو الثاني، وعقيل الابن الأصغر، وربما كانت ولادة عقيل في العام 1890، وقد عمّرت الزوجة حتى جاوزت المائة، وبقيت تسأل في آخر أيامها عن ابنها الذي هاجر ولم يعد، وظلت تبكيه وهي في أيامها الأخيرة بحسب ما يروي أحفادها.
ومن أحفاد هذا الرجل الذي أنجب «عقيل» وهو في مطلع الثمانين من عمره، رجالات لهم حضورهم في تاريخ الأردن السياسي والثقافي، فحفيده المحامي والقانوني والسياسي نجيب أبو الشعر، الذي حصل على الإجازة في الحقوق وهو في الثالثة والعشرين من عمره وأصبح أول عضو في المجلس التشريعي الأردني الأول في العام 1929، وهو المعارض المعروف للمعاهدة البريطانية-الأردنية، وكان محاميَ المقر العالي للأمير عبدالله، ومحامي مجلس بلدية الخليل، وقنصلا فخريا للأردن في مصر، وأخيرا عضوا في مجلس الأعيان الأردني قبل اغتياله الفاجع، وهو شخصية تستحق الدراسة في تاريخ الأردن الحديث.
أما حفيده الثاني، فالمحامي والإعلامي أمين أبو الشعر، صاحب مجلة «الرائد»، وعضو أول مجلس نيابي أردني ومدير المطبوعات والنشر ومدير الإذاعة الأردنية ومؤسس صحيفة «الرأي»، ومؤسس مطبعة الجمعية العلمية الملكية، ومن أحفاده د.نادر أبو الشعر الجراح المعروف، وعضو مجلس النواب وعضو مجلس الأعيان الأردني.
ما وصلنا من معلومات عن عقيل قبل هجرته يعتمد الروايات العائلية التي أثق فيها رغم أنه لا يحمل طابع التوثيق، لذلك لا بد من إيراد الملحوظات الآتية:
– لم أجد في سجل نفوس الحصن أي توثيق لهذه الفترة، لذلك لم أتمكن من تأكيد زمن ولادة عقيل، علما أن الدولة أصدرت سجلات نفوس، ولكنها مفقودة، وقد حاولت الحصول عليها عند زيارتي للأرشيف العثماني بأسطنبول، فلم أوفَّق.
– المصدر الثاني لتأكيد زمن ولادة عقيل، هو السجل الكنسي للعماد، ويبدو أن عائلة سليمان أبو الشعر أجرت طقس العماد لأبنائها في الكنيسة الأرثوذكسية، وهي غير متوفرة، وربما كانت مفقودة.
– لا شك لدينا بأن عقيلا درس في مدرسة دير اللاتين التي تم تأسيسها في العام 1885، وقد أطلعني الأب (المرحوم) نعوم كرادشة على سجل المدرسة للعام 1885، لكنه لم يسمح لي بتصويره كاملا وصوّر لي بعض صفحاته.
– يستند اليقين في موضوع دراسته في مدرسة دير اللاتين، إلى العلاقة المتينة بين شقيقه «سليم» وبين الأب هولندي الجنسية «أدريانوس سمتس» الذي بقي في الحصن كاهنا في الفترة (1900-1910)، وهو الذي جمع تبرعات من الغرب لبناء كنيسة اللاتين الحالية، ونشر إعلانات في صحافة الغرب للحصول على التبرعات، وأحضر بعد ذلك مواطنه الرسام «بيتر جيرتس» الذي أقام في الحصن لمدة ست سنوات، قام خلالها برسم الكنيسة الجديدة ونقشها بلوحات رائعة من الفريسكو ما تزال قائمة بشكل جميل. وقد رأيت صورته المهداة إلى جدي «سليم» في المضافة بالحصن، ثم رأيتها محفوظة بدير اللاتين بعد خراب المضافة وهجرها، ويبدو أن الأب «سمتس» هو الذي أرسل الطالب النبيه «عقيل» إلى القدس أملاً في أن يدخل سلك الكهنوت، وهذا يعني أن «عقيل» كان أحد طلبة مدرسة دير اللاتين حكما، لأنه أُرسل للدراسة في القدس مبعوثا من المدرسة.
– العلاقة بين القدس وأبناء الطوائف من أهالي شرقي الأردن كانت قوية، خصوصاً بين أهالي الحصن والسلط ومادبا والفحيص والرميمين، وهو ما تبينه مصادر المرحلة، ومن المعروف أن أهالي السلط والفحيص يَعدّون سوق القدس سوقا يومية لهم ولبضائعهم، وقد هاجر أهالي السلط والفحيص في العام 1918 -في ما عُرف باسم «سنة الفلّة»- إلى القدس وقضوا فيها قرابة العام حتى انتهت الحرب العالمية الأولى، وكانت القدس هي محطة المهاجر الأولى من شرقي الأردن إلى الأميركيتين وأوروبا، وهو المبرر المعقول لمسيرة عقيل المبكرة التي انتقل فيها من الحصن إلى القدس.
ومن المعروف أن العائلة أرسلت أبناءها إلى القدس للدراسة منذ عقيل، فدرس فيها أبناء سليم (نجيب وأمين وابن ابنه غسان- وهو والدي)، في مدارس الفرير وتراسانطة، ومن المؤكد أن «عقيل» كان قد هاجر مع قدوم أبناء شقيقه للدراسة في القدس.
– كان عقيل يزور عائلته وهو يدرس علوم الكهنوت في مدرسة الساليزيان، لكن هذه الزيارات كما هو معروف محدودة بزمن، وكان عقيل يعزف على الكمان، وكان تعليم الموسيقى في المدارس معروفا آنذاك، خصوصا في مدارس الطوائف، لأغراض دينية، فالطقس الكنسي يقوم على العزف المصاحب للصلوات باستخدام آلة الأورغ، وكان ابن شقيقه أمين يعزف على آلة الكمان، وهذا يفسر اتجاه عقيل نحو التأليف في الموسيقى وتعليم الموسيقى في غربته ودار هجرته.
– المرحلة الضائعة في حياة عقيل هي فترة مغادرته للقدس إلى إيطاليا، مبعوثا من قبل دير الفرنسيسكان لدراسة اللاهوت والفلسفة والموسيقى، وهو إجراء متبع في الكنيسة لتأهيل الكهنة، وليس معروفا على وجه التحديد الجامعة التي تخرج فيها، غير أنني وجدت في بيت جدي «سليم» صورة لعقيل وهو يلبس الببيون والقبعة ومكتوب عليها في الخلف بقلم الرصاص اسم أستوديو بميلانو، وهذا ليس مبررا للقول إنه درس هناك، لكنني على يقين بأنه ذهب إلى روما وتحديدا إلى الكلية التي يدرس فيها كهنة روما (كلية دي لاتان دي روما)، والتي وردت الإشارة إليها أكثر من مرة في رواية «الانتقام»، فهي المكان المرجح لدراسة الكهنوت.
– المرحلة الموثقة لدينا تبدأ بإقامة عقيل في باريس مع الحرب العالمية الأولى، إذ تم تهريبه من وجه السلطة قبل الحرب على إثر نشر روايته «الفتاة الأرمنية في قصر يلدز»، وذلك في الفترة التي قرر فيها أن يترك الكهنوت، فأين أقام؟ وماذا عمل؟ المؤكد أنه كان لا يتمكن من العودة إلى مسقط رأسه وأهله، وأنه بدأ ببناء حياته العملية والفكرية في باريس، ومن المؤكد أنه كان عضوا في جمعية «من أجل فلسطين» في باريس، في شارع «ستراسبورغ» (شارع الصحافة)، وكانت بطاقاته تحمل هذا العنوان، كما أن الإشارة إلى هذه الجمعية ورد على الغلاف الداخلي لروايته «القدس حرة»، وهذا يعزز ما وصَلنا عن نشاطه السياسي مع أحرار العرب في باريس.
– لدينا بطاقات بريدية محدودة أرسلها عقيل إلى أمه وإلى شقيقه الكبير سليم، تحمل إحداها تأكيدا أنه نجح أثناء الحرب العالمية الأولى في نشر كتاب «ضد الأتراك»، وقد أشار البدوي الملثم في ترجمته لسيرة عقيل إلى مقطع من هذا الكتاب وعنوانه «العرب تحت النير التركي»، وفيه يشبّه عقيل العربَ بحقل سنابل، كلما نبتت سنبلة حصدها منجل السلطة العثمانية، ولم يذكر البدوي الملثم إن كان قد اطّلع على الكتاب أم لا، ومن أي لغة نقل النص الذي قرأه. وأرجح أن البدوي الملثم الذي كان على اتصال ومعرفة وثيقة بالمحامي نجيب أبو الشعر الذي أتقن الفرنسية إتقانا تاما، وأنه رأى الكتاب عند نجيب الذي كان يحتفظ بمكتبة في بيته بالقدس، فقدها في حرب العام 1948، وعاد إلى عمّان وقد خسر كل شيء تماما كخسارة كل العرب!
ومن المؤسف أنني لم ألتق البدوي الملثم، لكنني تعرفت إلى زوجته (المرحومة) نجلاء ابنة بولص شحاده صاحب صحيفة «مرآة الشرق»، والتي اعتادت أن تتصل معي هاتفيا أسبوعيا وتنقل إلى ما حفظته ذاكرتها عن العلاقة الطيبة بين نجيب والبدوي الملثم وتجاورهما في القدس، وهو التفسير الوحيد لإيراد البدوي الملثم للنص المذكور، وقد بتنا الآن نثق تماما بكل ما أورده البدوي الملثم في «القافلة المنسية» في ترجمة حياة عقيل، ونؤكد مصداقية ما أورده.
– من المؤكد أن «عقيل» وصل أثناء الحرب العالمية الأولى إلى القدس، وكان عندها صحفيا يعمل مراسلا لصحف غربية، وهو ما وثقه في روايته «القدس حرة» التي نشرتها وزارة الثقافة مترجمة عن الإسبانية في أيار 2012. وتأكيدا لهذه الحادثة، عثرت على مفكرة لجدي «سليم» تعود إلى العام 1913 وقد سجل فيها ملحوظات متتابعة لم يذكر تاريخها، يشير فيها إلى دهشته وهو ينزل في «لوكانده الشرق» في القدس عندما وجد شقيقه «عقيل» وقد وصل القدس ونزل فيها، وقد استغل الشقيق الكبير عودة عقيل ليزوجه من إحدى «بنات العرب» فوافقه عقيل، وعاد جدي إلى الحصن للبحث عن العروس المناسبة، لكن «عقيل» سافر دون أن يتزوج. ويذكر البدوي الملثم أنه تزوج من «كونتيسة» فرنسية، وهو ما نرجحه، لأن «عقيل» استقر زمنا طويلا في مرسيليا قنصلاً لجمهورية الدومينيكان.
– آخر ما وصلنا عن سفر عقيل، ما سمعته مرارا من جدي «غازي» -وهو ابن شقيقه- إذ روي لي أنه وهو ابن أحد عشر عاما، ذهب مع جدته إلى حيفا، لرؤية عقيل الذي أرسل لأمه رسالة يبدي رغبته بوداعها قبل هجرته، وأنه ينتظرها في ميناء حيفا حيث ستبحر سفينة الهجرة، وهذا يعني أنه لا يستطيع دخول الحصن، فأخذت الأم حفيدها وسافرت إلى حيفا، وكان السفر يبدأ من الحصن إلى درعا حيث ركبت الأم وحفيدها القطار، ووصلا حيفا ونزلا ب «لوكانده»، وأخبرني جدي أنهم سهروا في الليلة الأخيرة مع عقيل وتناولوا طعام العشاء، وكان عقيل يُطعم أمه بيديه، ويبدو أنه خطط للسفر دون أن يخبرها، وقد رفض أن يأخذ النقود الذهبية التي أحضرتها له، وفي الصباح سلّم النادلُ في غرفة الطعام للأم رسالةَ وداعٍ كتبها عقيل ومعها حزمة نقود، وكان عندها يركب الباخرة في طريقه لهجرة أبدية!
أتذكر وصف جدي لعمه، فقد كان «عقيل» بحسبه، حضاريا ورقيقا وعاطفيا، طويل القامة ومعه آلة الكمان في بيتٍ جلدي، وأرجح أن زمن هذه الحادثة كان في العام 1912، لأن جدي من مواليد العام 1900، ويبدو أن عدم ذهاب عقيل إلى الحصن كان لأسباب أمنية بعد نشر روايته «الفتاة الأرمنية في قصر يلدز»، وبالمناسبة فقد عثرت على دليل ربما يقودنا في زمن قريب إلى هذه الرواية، وهي بالتأكيد منشورة في العام 1912.
ويبدو أن العلاقة بين عقيل وشقيقه الكبير «سليم» كانت وثيقة، فجدي «سليم» كان متنورا وتاجرا وعضو مجلس إدارة قضاء عجلون، وهو الذي اعتاد أن يراسل «عقيل» ويدعمه منذ طفولته، وقد انقطعت مراسلات عقيل بحسب ما لاحظتُ مع وفاة شقيقه «سليم»، ولا أدري إن كنا سنعثر على رسائل أو أوراق جديدة بعد العام 1935، وهو عام وفاة جدي «سليم»، ومن المؤسف أننا فقدنا محتويات مكتبة الجد، ومعها ضاع تاريخ عقيل بضياع رسائله.
كتبت ثلاث مقدمات للروايات الثلاث التي تُرجمت ونُشرت لعقيل، وقدمت من خلالها قراءتي للروايات ولزمن عقيل وتوقفت عند المفاصل الآتية:
– في رواية «القدس حرة.. نهلة غصن الزيتون» وجدت أن مفتاح شخصية عقيل هو كره الاضطهاد، والدعوة إلى الحرية تحت أي سماء وفي أي مكان.. كرهَ عقيل الظلم العثماني وحاربه، وكره الظلم البريطاني وندد به وحاربه بقلمه في الصحافة والأدب، وكره احتلال الأميركان لجمهورية الدومينيكان وجاهرَ بطلب حريتها من رأس الدولة علنا في باريس في بهو قصر فرساي، في وقت كان فيه الرئيس «ودرو ولسون» يعرض مبادئه الإنسانية وجيشُه يحتل جمهورية الدومينيكان.. هذا الرجل يحمل في أعماقه العشق العظيم للحرية، وهذا هو مفتاح شخصيته.
ومن المفاصل الرئيسة للرواية موضوع الهجرة الصهيونية وتهويد القدس، حيث يصل الراوي الصحفي «حربا الأردني» إلى القدس، مندوبا عن صحيفتين غربيتين لتغطية وصول أربع عشرة سفينة محملة بالمهاجرين إلى ميناء يافا، فيذهب من القدس إلى يافا لتغطية الحدث، ويصف «طوربيدات» الإنجليز التي تحميهم وتتبعهم وهم ينتقلون بالقطار من يافا إلى القدس ويحتلون المقاعد والفنادق ويزاحمون الأهالي.
وقد أصر عقيل وهو ينقل هذه الأحداث بعين الصحفي والروائي أيضا، على تقديم صورة بشعة لكل عناصر الاحتلال، فقد قدم القادة والجنود الإنجليز بصورة مشوهة، وأبدى تهكمه على العنصر الأنجلوسكسوني مقابل تعاطفه مع العنصر اللاتيني، وقد تبين لي أن صورة أهالي القدس محدودة هنا، لكنه قدم نماذج بهية للناس، فالشيخ المقدسي الذي قدّمه وهو يقرأ في الشارع بصوت عال وصايا النبي محمد «صلى الله عليه وسلم» لابنِ عمه وزوج ابنته علي بن أبي طالب، يعطي صورة ناصعة لوصايا إنسانية رفيعة المستوى، وقد نقلها عقيل بنصها في إشارة لإعجابه الشديد فيها.
أما الرواية الثانية التي تحمل عنوان «إرادة الله»، والتي تعود إلى العام 1917، والمترجمة عن الإسبانية، فقد وجدتُ فيها حالة متميزة من تقديم التاريخ بصورة روائية، وهو تصور مبكر لعقيل، الذي أهدى الرواية إلى: «شباب بلدي المبعثرين في الأميركيتين، تحية أخوية». هذا الإهداء يختصر حال الهجرة التي تحولت إلى ظاهرة في بلاد الشام، ومكان الرواية هو الجليل والقدس، وعقدة الرواية تقوم على مأساة «سارة» ابنة العائلة الكاثوليكية من الجليل، والتي يرفض والدها الصياد البسيط على ضفاف بحيرة طبريا أن يزوجها من شاب جليلي ينتسب للمذهب البروتستانتي، ملتزما بتعليمات بطريرك القدس بعدم إباحة تزويج بنات الطائفة الكاثوليكية من شباب البروتستانت، حتى لو كانوا من العائلة نفسها.
وتصبح سارة الجليلية الحسناء هي القضية وكأنها الجليل الذي يتحكم فيه القائد التركي القاسي أحمد أفندي، والذي يطمع بجسد سارة، التي تتعرض لاغتصاب بشع منص قبل الماركيز ابن شقيقة البطريرك القادم من نابولي وهو من نسل قائد الحملة الصليبية الرابعة، وكأن «عقيل» أراد أن يصرخ بوجه العالم على الترتيب المسبق باغتصاب فلسطين، وكأن مصير سارة الجليلية يمثل تاريخ فلسطين التي جاءها الصليبيون غزاةً ويحكمها الأتراك بلا شرعية..
ولا شك أن «عقيل» انتقى شخصياته ليوصل أفكاره المتنورة، فالرواية ابنة زمنها -العام 1917- وتعكس حال فلسطين آنذاك، وفيها إدانة واضحة لتعسف رجال الدين، وتكشف الصراع بين رجال الدين من غير العرب وبين الأهالي في مشهد مؤثر يروي أحداث ليلة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد في بيت لحم، حيث منع البطريرك الأهالي العرب من الترتيل باللغة العربية، وأجبرهم على الصلاة باللغة اللاتينية، ما أدى إلى صدام بين الأهالي ورجال البطريرك، انتهى بتدخل «رجال الانكشارية» الأتراك.
التاريخ حاضر في هذه الرواية باستحضار شخصيات تاريخية بطرق ذكية، مثل نابليون بونابرت وهو يحاصر عكا، وأحمد باشا الجزار بوحشيته في قمع عبيده. ومن المفاصل الذكية والجريئة في الرواية موقف عقيل من الهجمة الفرنجية على بلاد الشام، ومن محاولات تقزيم دور العرب بنقل الحضارة اليونانية إلى الحضارة الغربية، من خلال ترجمتهم لكتب الفلسفة إلى العربية. وانتصر عقيل من خلال الحوارات الفكرية التي أدارها على لسان الشخصيات العربية من أهالي فلسطين للعرب ضد الصليبيين، ووصف الشخصَ الذي اغتصب سارة الفلسطينية ب «الخائن الغريب»، وهو توظيف واضح للفكرة التي تستوطن عقل عقيل في فلسطين العام 1917، بأن فلسطين ستُنتزع من أهاليها في إشارة إلى قدوم الإنجليز والصهاينة في آخر العهد العثماني، وكان عقيل يراقب الهجرة الصهيونية وقد وصف اليهود ب «الغاصبين» في إشارة مبكرة لوعيه بالمصير القادم الذي ينتظر فلسطين.
استوقفني في الرواية موقف عقيل من المرأة من خلال شخصية سارة، التي تختصر سيرتها الروائية سيرة فلسطين، وقد قدم رؤية معاصرة واعية، قائلا: «سعيد ذلك الرجل الذي يفهم روح المرأة جيدا ويغفر لها أخطاءها.. أعطوا المرأة الحرية التي تتمتعون بها أنتم.. لماذا تتوقعون منها حملا من الفضائل أثقل مما تستطيعون أنتم حمله؟ وفي الحقيقة أقول لكم إنه وبسبب الظلم سوف تُحرمون من أسمى درجات البهجة التي يمكن أن توجد على وجه الأرض، ألا وهو حب صادق لامرأة».
ورغم المبالغات في تضخيم بعض المواقف والشخصيات، ورغم السخرية الواضحة، إلا أننا أمام عمل رائد كتب بحبكة ذكية كُتب العام 1917.. ومن هنا جاء امتياز هذا العمل الروائي الرائد.
أما الرواية الثالثة لعقيل، والتي وصلتنا بالفرنسية، فتحمل عنوان «انتقام الأب كريستوبال»، إلى جانبه عنوان مصغر هو «مأخوذة عن يوميات مهاجر فرنسي إلى سان دومانج»، وهي منشورة في مرسيليا بفرنسا، حيث كان عقيل قنصلا لجمهورية الدومينيكان. ومرسيليا هي محطة المهاجرين العرب إلى الأميركيتين، وقد أهدى عقيل الرواية لرئيس جمهورية الدومينيكان، ويبدو بوضوح أن هذه الرواية تحمل النضج الفني لرواية مكتملة في عناصرها الفنية، وربما تمثل السيرةَ الذاتية لعقيل نفسه، وهو بالتأكيد «السيد بيرنار» الذي هاجر من فرنسا إلى الدومينيكان، والذي ارتبط بالأب «كريستوبال»، الشخصيةِ الرئيسة في الرواية. و «الانتقام» رواية للنخبة، أبطالها من النخبة السياسية والقيادات الدينية والفكرية في الجمهورية، ويحس القارئ أنه لا يستطيع أن يستثني أي فقرة أو كلمة منها.. إنها رواية فيها من العمق في الطرح و التعبير أكثر مما نتصور لرواية كُتبت في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين.
أبرزت الروايةُ حاضر جمهورية الدومينيكان والصراع الدائر بين السياسي والديني، ويبدو من الرواية تأثير الثقافة الفرنسية عند النخبة من أهالي الجزيرة. وهي تستوقف القارئ الذي يجد فيها حالة نادرة من النسيج الاجتماعي المتعدد والمتين ما بين أصول السكان من أهالي هايتي ومن الأصول الهندية ومن المهاجرين الفرنسيين وبقايا الحكام من الإسبان، وكلها تختصر تاريخ الجمهورية التي مرت عليها عهود السلطة الإسبانية والهايتية والأميركية والفرنسية..
من أجمل المشاهد التي تجمل خصوصية الرواية، انتصار عقيل لشخصية الزعيم الهندي الدومينيكاني «كاونابو» الذي أسره المحتل الإسباني، وحمله معه «كريستوفر كولمبوس» المكتشف العظيم (…!) مقيدا بالأصفاد ليهديه لملكة إسبانيا، لكن الزعيم الذي غلبته أصفاد المحتل الأوروبي وحملته في السفينة، رفض أن يبتسم ولو لمرة واحدة لأعدائه ومات مقهورا في سفينة المحتلين، غير أنه في ليالي الشتاء والعواصف، وعندما تكون البلاد على وشك الدخول في الحروب الأهلية، يسمعه أهالي الجمهورية يزمجر غاضبا ويهز سلاسل السفن، ويعرفون عندها أنه عاد ليدعوهم إلى حل خلافاتهم قبل أن يُهدر الدم الدومينيكاني على أيدي أصحابه.
وقد رأيت في رواية «الانتقام» مقدرةً فنية مميزة لعقيل على انتقاء المواقف بلا تكلف، وتوظيفها لتسريب أفكاره وشطحات خياله، بلا تكلف أو تسطيح. إنه يملك مقدرة عجيبة على دمج الفني بالفكري، فتنبعث أفكاره وهواجسه ضمن مخزون عجيب وعميق من الثقافات التي تطل من الشعر والمقولات التي يستذكرها عبر شخصياته، مثل الموقف من الحرية ودرجاتها، ورأيه في ممارسة الديموقراطية، وتباين الآراء حول إحراق الموتى والمواقف من الحروب..
جميع الحوارات التي تجريها شخصيات الرواية، عميقة وتبعث على التفكير والتحليل.. الكل محاور ومثقف ومفكر.. وكل ما يقولونه عميق وبسيط في آن، وهذا سر امتياز شخصيات عقيل.. إنها شخصيات حية مفكرة ومؤثرة، وهذا سر امتيازها.. إنها لا تُنسى.