كتابات سُفلية …!

(ثقافات)

 

كتابات سُفلية …!

يحيى القيسي

 


يبدو فعل الكتابة عند الكثير من الكتاب العرب عملاً تفريغياً لاحتقانات نفسية وعقد تاريخية واضطرابات سلوكية، ولم يرقَ بعد ليكون فعلاً تنويرياً يقود القُرّاء إلى فضاءات عليا تحلق بهم، أو على الأقل تُثير فيهم المعرفة، وتحرّضهم على التفكير، وتدلهم على الطريق.

وإن لم يحصل أيّ شيء مما أشرت إليه، فليكن على الأقل قادراً على أن يُحقّق متعة القراءة والغبطة المنثورة بين سطوره ضمن قاموس لغوي ثري، وصور مبتكرة، وحكاية شائقة. ويبدو مثل هذا الطرح طوباوياً مع إصرار بعض الكاتبات والكتاب العرب على الدخول إلى عوالم قاتمة، تبعث الانقباض في النفس، فكأنَّ المرء في رحلة إلى مقبرة أو مذبحة تفوح برائحة الموت والجثث المتناثرة.

أما بعضهم الآخر أو بعضهن، فيذهب إلى أجواء عطنة للشوارع الخلفية، والحياة الهامشية بمفرداتها الصادمة، وأذكر في هذا السياق أنني قرأت رواية لكاتبة نثرت مفردة “المرحاض” على مدار صفحات روايتها، فكلما انتهينا من نسيان هذه المفردة والدخول إلى عوالم جديدة عادت من جديد لتذكر هذه الكلمة ومرادفاتها وما يجري فيها بكل تفاصيله، وللقارئ تخيل مقدار الرائحة التي تثير الغثيان والقرف وهي تفوح من وصفها، بحيث يمكن أن يقيء على الكتاب نفسه..!

أما القسم الثالث من هذه الكتابات “الإبداعية” المُخصَّصة لمدح الحضيض، فهي تتعلق بالكتابة “الإيروتيكية” أو التهتك الجنسي، وأستثني هنا الكتابات ذات الطابع الرومانسي أو “فن الهوى” بمعناه الإشراقي والراقي معاً الذي ينتصر للحياة واشتراطاتها الجميلة، وللرغبات الأساسية للجسد البشري دون تدنيس. طبعاً يبدو هذا النوع من الكتابات وصفة جاهزة في هذه الأيام للكثير من الروائيين والروائيات من أجل الظهور أمام الغرب أو أبناء جلدتهم العرب بمظهر الجرأة وهتك المستور، أو ما يسمى فنياً بطريقة مغلفة بالسوليفان “اختراق التابو”.

ومن المعروف أن الغرب قد مرّ على هذه الكتابات وأشبعها من الإصدارات عبر القرنين الماضيين على الأقل، لا بل وصل الأمر إلى تخصيص جوائز أدبية لأفضل الروايات المخصصة للأدب الموجه للمثليين من الجنسين، وهناك ما يدعى “الواقعية القذرة”، وأكبر مثال عليها روايات هنري ميلر في ثلاثيته الشهيرة، والتي ظلت ممنوعة في أميركا حتى السبعينيات من القرن الماضي.

وأياً كانت دوافع هذه الكتابات ومقصد كتابها في نشرها على الملأ، فإنّ ما يعنينا هنا الإشارة إلى فعل الكتابة نفسه، كحالة راقية في الأساس على المستوى الكوني، تصدر من مبدع حقيقي غالباً، يعرف كيفية إبداع عوالم جديدة بكلماته، أو بناء فضاءات موازية تنقل الواقع وتشير إلى خلله، وتحرك مشاعر القراء بالتعاطف معها أو رفع معنوياتهم أو الإطاحة ربما بالطمأنينة التي تسكنهم.

لهذا فإنّ فعل الكتابة يبدو عملاً خطيراً لمن ينتبه إليه، فعبر صفحات رحلة القراءة يقوم الكاتب بالتأثير في القارئ والتجول معه عبر اللغة والمضامين الظاهرية والباطنية إلى ما يريد الوصول إليه، وهذا الأمر يبدو في حالة الكاتب الواعي أساساً لفعل الكتابة وأثره الكوني العميق، بينما يمكن للكاتب أن ينشر الفوضى وحالة الإحباط والحيرة والتقلب في نفس القارئ أيضاً، ولا يوصله إلى بر الأمان، ولا يشير إلى أي ضوء في النفق، بل يتركه يتخبط في عتمة الكلمات ودونية التعابير، ويزيده قلقاً على قلق.

“الكتابة السفلية” هنا ليس المقصود بها الحكم الأخلاقي على ما يفعله الكاتب أو يبدعه من أجواء، بل تبيان مقدار تخبط الكاتب ودونية أجوائه الفكرية والوجودية وعفونة عوالمه وحضورها في كتاباته، وبالتالي توريط القارئ الغرّ غالباً فيها.. فإن رافقت هذا التوجّهَ المُبيّت للخطاب الدوني ركاكةٌ في الأسلوب، وضعف في أوصال العمل من ناحية تقنيات السرد، وفقر المفردات، وشح التعابير، فإنّ هذا الأمر يعدّ كارثة حقيقية، أي تقديم بضاعة مغشوشة من ورق وحبر للقارئ المفترض، حتى لو كانت مغلفة بشكل جميل، ولو أثير حولها الكثير من الإعلام أو الإعلان، وفي النهاية سيظهر للناس من يُميز جيد الأدب من رديئه، كما قال الجاحظ يوماً، وسيدركون الحقيقة ولو بعد حين….!

 

*مؤسس  ( ثقافات ) 

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *