إحياء كتابات منسية


*إبراهيم صموئيل

( ثقافات )

حين ينال الكاتب الشهرة ويصعد نجمه، يصبح من الطبيعي ألا يلتفت إلى تجاربه الأولى ومحاولاته المبكرة في الكتابة، سواء لحفنة قصائد نظمها يوما، أو بضع قصص متناثرة، أو مشاهد مسرحية لم تكتمل، لأنه يكون منكبا بكليته على تطوير تجربته الأدبية، شغوفا بتجديدها، مهموما بالعمل على رفع سويتها الإبداعية عملا بعد عمل.
وحين لا يلتفت الكتاب إلى محاولاتهم المتعثرة الأولى فلأنهم -على نحو مضمر أو معلن- لا يرون فيها أهمية تُذكر من جهة، ولأن نجوميتهم لم تعد تقبل بتقديم كل ما خطته أيديهم إلى قرائهم أثناء بحثهم وتجريبهم في حقول أدبية مختلفة من جهة أخرى.
وفي الواقع، حسنا ما يفعلون، فبواكير تدريباتهم في مطلع شبابهم لا تعني القراء بشيء، بل ولا تعني الكتاب أنفسهم، إذ هي لا تضيف إلى منجزهم بعد أن اختطوا دروبهم وباتوا أعلاما مبدعين، اللهم إلا أن يكون من باب الاطلاع الشخصي على ما كانت عليه صورهم أيام المراهقة الأدبية.
أهذا ما يفسر إغفال عدد من الكتاب -سواء في أحاديثهم عن سيرهم الأدبية أو في معلومات بطاقاتهم الشخصية- عملا أو أكثر كانوا في شبابهم تسرعوا في نشره، تلهفا منهم للظهور وتلبية لشهوتهم إلى المطبوع، ثم ندموا جراء تعجلهم؟
في أسواق النشر والاتجار بالنجومية لا يجري الأمر على هذا النحو، إذ يحدث أن تعلن دور النشر، وتساندها وسائل الإعلام، عن صدور “عمل جديد” لشاعر كبير معروف أو لروائي شهير، في حين يكون “العمل الجديد” هو الأقدم للكاتب أيام محاولاته البكر في شبابه، حيث أهمله لسنوات طويلة، حتى إذا ما تقدم في السن ونال الشهرة عاد للتفتيش عنه وتقديمه لدار نشر كبيرة، ليس لأهميته في ذاته بل لكون اسمه النجم سيتصدر الغلاف.
دور النشر من جهتها لا يهمها زمن كتابة العمل، إذ يكفيها أن اسم صاحبه بات “بياعا” يترصد القراء أي صادر له لاقتنائه، فتراها تسعى إلى الكتاب النجوم وتحثهم على التنقيب في أدراجهم ومكتباتهم علهم يقعون على كتاب يكون “صيدا ثمينا” في سلسلة مطبوعاتها الصادرة.
يُسهم في توريط الكاتب الأتباعُ والمعجبون المقربون منه، الذين يبخرون له ولكل ما يكتبه أو ينطق به، حيث يوقعون في وهمه أن محاولاته وتجاربه الكتابية الأولى بالغة الأهمية، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تبقى أسيرة الرفوف والغبار والعتمة.
ولكن، ما الذي يجعل الكاتب يثمن -هو أيضا- ما حاوله أيام مراهقته وصباه، في حين يدرك -قبل غيره وأكثر من غيره- أن نصه ذاك لا يحمل في ذاته قيمة أدبية إبداعية تستحق الذكر -والنشر تاليا- وإنما يستمد “قيمته” من الشهرة التي نالها الكاتب خلال ثلاثين أو أربعين عاماً وبات عليها اليوم؟
ليس مصادفة أن معظم -أو كل- من أعادوا إحياء رميم نصوصٍ قديمة لهم متدنية القيمة الإبداعية، إنما هم من الذين بلغوا سنا متقدمة من العمر، ومرحلة عالية من الإبداع والشهرة، الأمر الذي يضعهم في خانة لم يقصدوها، ربما هي عودة التاجر المفلس إلى دفاتر حساباته القديمة لاسترداد ديونه الماضية.
بالطبع، لا يتم الإقرار بذلك لا من قِبَل الكاتب ولا من جهة المعجبين بأدبه، إذ يحال الأمر إلى ضرورات تتمثل في حاجة النقاد والدارسين إلى الاطلاع على بواكير أعمال الكاتب لمعرفة كيفيات تطوّره، ومسالكه الفنية التعبيرية التي سلكها للوصول إلى مرحلته الراهنة.
كان يمكن للحجة السابقة أن تبدو وجيهة لولا شكوى الكتاب من انحسار المشهد النقدي وتراجع الدراسات المعمقة في الثقافة العربية المعاصرة عامة، إذ باتت تغلب على البحث النقدي الجاد -كما يقولون- سمة المراجعات الصحفية الخفيفة، والتقصير في المواكبة الحثيثة للأعمال الإبداعية الصادرة حديثاً.
ولا شك أن ظاهرة التراجع صحيحة إلا فيما ندر، غير أنها تحيل -في موضوعنا هنا- إلى مفارقة تتمثل في التالي: إذا كان البحث النقدي الجاد قد أُصيب بالانحسار إزاء الأعمال الإبداعية الرفيعة، فما حاله -إذن- إزاء الأعمال الأولى المتعثرة والفجة لهذا الكاتب أو ذاك؟
وعلى سبيل المثال، فقد شكا علم كبير مثل فؤاد زكريا في حوار منشور من أن النقاد لم يولوا أعماله وكتبه الاهتمام اللازم رغم ما قدمه من كتابات وآراء في شؤون الفكر، وعبر إحسان عبد القدوس في حوار متلفز معه عن استيائه البالغ من عدم نيل أعماله ما تستحق من دراسات متأنية رغم غزارة إنتاجه، وانضمّ إليهما الشاعر الأشهر نزار قباني في حوار متلفز، حين كشف عن استيائه المرير من الإهمال النقدي لأعماله النثرية بالذات رغم أنها -بحسب قوله- تفوق أهمية أعماله الشعرية.
هذه آراء كوكبة من أشهر النجوم في واقع حال المشهد النقدي من أعمالهم الناضجة، رغم ما نالته أسماؤهم من الاهتمام البالغ، فما الذي سيكون عليه المشهد إزاء بواكير أعمالهم التجريبية القديمة أو التجارب المبكرة لكتاب آخرين؟
ثمة أسئلة لا بد من طرحها: ما الذي يرنو إليه الكتاب من عودتهم إلى دفاترهم القديمة؟ وإلى ماذا يسعون وقد جنوا من الشهرة ما جنوا وباتوا أغنياء عن التعريف؟ أبسبب فراغ جعبتهم من جديد يضيفونه؟ حتى لو كان لهذا السبب، فما العيب في نفاد الجعبة الأدبية وكل طاقة بشرية إلى نفاد، ولا سيما في النشاطات الفنية والأدبية والرياضية وغيرها؟ أم أن الكاتب يرى في خلع قميص الكتابة والاعتزال -على غرار الرياضيين- رذيلة لا يريد ممارستها ما دام حيا؟
_______________
كاتب وقاص سوري/ الجزيرة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *