صورة العربي في الأدب الإيراني

( ثقافات )

صورة العربي في الأدب الإيراني

د. فاطمة الصمادي *

ينبيء مجمل السلوك فيما يتعلق بالعلاقات العربية الإيرانية، من كلا الجانبين (العرب و إيران)،بالطريقة التي يرى كل طرف فيها الآخر، و التي تتم من خلالها عملية الإدراك، وهذه العملية تحمل اشكاليات ثقافية و إجتماعية و سياسية لم تأت وليدة الحرب العراقية الإيرانية ، أو مشكلة الجزر مع الإمارات، و لا ثورة البحرين، أو الموقف من ثورة سوريا، والحديث عن مشروع إيراني، وليست وليدة إيران الخمينية ولا حتى إيران في زمن الشاه بل تحفر قديما قدم التجاور.

إن مايصرح به رجال السياسة بشأن العلاقات بين العرب و إيران لا يعد مجرد تعبير عن موقفهم، بشكل عقلي مباشر ، بل إن ذلك يمكن قراءاته من خلال ما يسمى بالخريطة الإدراكية حينما يأتي السلوك كرد فعل للواقع كما يدركه الإنسان بكل تركيبيته، ومن خلال ما يسقطه على هذا الواقع من رموز وذكريات، وأحقاد وتسامح، ونوايا، و أطماع و مخاوف ومن خلال مجموعة من المنظومات الأخلاقية والرمزية والأيديولوجية.
وعندما تسود الظروف المليئة بالمنافسة و التصادم فإن من الطبيعي أن يلجا الدبلوماسيون و السياسيون في محادثاتهم إلى استخدام أدبيات معادية وغير متفائلة. و هو في حقيقته انعكاس لحالة القلق السائدة التي تتولد لدى القوى الإقليمية من خلال عمليات التقييم والتفسير التي تجرى لسلوك الطرف الآخر. وهكذا ، فإن رد الفعل المتشائم من طرف دول الخليج والشرق الأوسط تجاه إيران يعود في جزء كبير منه إلى الطبيعة التاريخية – والمفاهيمية الإدراكية التي تحكم علاقة كل طرف بالآخر.
وتشكل المقولات والصور لدى كل من العرب و الإيرانيين عن بعضهم البعض خريطتهم الإدراكية التي يحملونها في عقولهم، ومن خلال هذه الخريطة الإدراكية تجري عملية استبعاد و تهميش للكثير من القضايا و التفاصيل و يقود هذا في النهاية إلى عدم رؤيتها، وفي الوقت ذاته يجري التركيز على بعض القضايا وتضخيمها فتصبح مركزية في عملية الرؤية،فالمواقف العربية من قضية مايسمى “النفوذ الإيراني” وكذلك ردود الفعل الإيرانية عليها، و الحديث الإيراني الدائم عن “العربي الذي لايملك القرار” و “العربي المستلب من الخارجي”، و “العربي الغارق في المال و الجهل”، ليست غريبة إذا ما نظرنا إليها ضمن مقولة الخريطة الإدراكية؛ فظاهرة الحذر و الخوف و الشك و التقليل من شأن الآخر كلها جزء من المخزون الإدراكي لكل من العرب و الإيرانيين،مع ملاحظة أن الإدراك متحيز وغير واع، ولهذا نجد أن الإدراك يوجه بهذا الشكل العدائي. و الخريطة الإدراكية نفسها هي التي تفسر تلك النظرة المشوبة ب”الإحترام ” لمصر و المصريين حتى قبل ثورة 25 يناير التي جعلت من التقارب المصري – الإيراني قضية يمكن الحديث عنها.

صادق هدايت

يحمل الإيرانيون في خريطتهم الإدراكية للمصريين، صورة إيجابية، تضعهم في “خانة التفوق العرقي” ، وهي العقدة التي لم يفلح الإيرانييون في تجاوزها، فالمصري ،بالنسبة للإيرانيين من أصحاب التوجه القومي، هو صاحب حضارة و تمدن قديم بصورة تضعه بمستوى الإيراني،و بالنسبة لذوي التوجه الديني، فالمصري هو الأكثر تسامحا مع التشيع، و لم تمحى من ذاكرته تأثيرات الفترة الفاطمية، و أرض مصر تضج بالمزارات التي تحمل أسماء أهل البيت، و المصري يقدم النذور و يقوم بالزيارات للأولياء كما يفعل الإيراني.

و عملية الإدراك هذه، تجد صداها حتى في الجانب المعرفي، فمعظم انتاج المفكرين و الأدباء و حتى السياسيين المصريين تمت ترجمته إلى الفارسية، بصورة تستحق التوقف ، وعلى سبيل المثال ينظر إلى تجربة جمال الدين الأفغاني، الذي تسميه إيران جمال الدين أسد آبادي- بأنها تجربة لاتقرأ إلا بشقيها الإيراني و المصري..
هنا لا يمكننا نزع هذه العدائية من سياقها الحقيقي (الحوادث التاريخية) ومحاولة ربطها بأسباب أخرى. فالزعامات العربية اسقطت مخزونها الإدراكي على ما تراه بصورة مادية( التفوق الإيراني في مجالات عدة ..السعي لدور مؤثر في العالم ، الدور في العراق..مسألة الجزر..تسمية الخليج) وحددت خريطتها الإدراكية ، وو ضعت الصورة التي تراها لإيران في مجال الرؤية . ويؤثر والواقع المادي الموجود و الملموس فيما يتعلق بإيران بصورة كبيرة في تحديد أفكار و مواقف سلوكيات الزعماء العرب تجاه إيران بدرجة تتفاوت من زعيم عربي إلى آخر ، ومن لحظة زمنية إلى أخرى.

كثيرة هي المقولات العنصرية التي يرددها الإيرانيون بحق العرب، ، من أبرزها تلك المقولة التي تقول :”عرب در بیابان ملخ می خورد سگ اصفهان آب یخ می خورد” (العرب في الصحراء يأكلون الجراد و كلب اصفهان يشرب الماء المثلج” و في رواية أخرى “الماء المحلى”، وكذلك الحال فيما يتداوله العرب بحق الإيرانيين، و بعض الأمثال العراقية على سبيل المثال من السوء بمكان، لدرجة يتعذر معها ذكرها.
ويبدو الأدب الإيراني الساحة الأساسية للتعبير عن الصورة الإدراكية ، و يمكن في هذا السياق الرجوع إلى دراسة هامة لجويا سعد، حملت عنوان “”The Image of Arabs in Modern Persian Literature، وفيها نجد أن بعض الكتاب و الشعراء الإيرانيين من أمثال محمد علي جمال زاده ، وصادق هدايت ومهدي اخوان ثالث، يقومون برسم صورة ايجابية متفوقة للإيراني، ويضعون معيارا عكسيا للعربي “الآخر”، لكن بيان الهوية القومية لم يكن شأنا أدبيا خالصا ، فتنامي القومية الإيرانية في القرنين التاسع عشر و العشرين ، لايخرجان عن كونهما جزءا من المشروع الإيديولوجي، وفقا لنظرية بندكت اندرسون ، الذي يرى أن “الأمة” لايمكن تعريفها ، فقط بالإستفادة من معايير و تعاريف “متخيلة” و “خارجية” ،ممزوجة بكم من الحقائق الإجتماعية ، فالأمة بدلا من ذلك هي نوع من الإجتماع السياسي ، وهي مقولة ابداعية و محسوبة ، ولذلك فالآثار الأدبية هي جزء من الخطاب الأيديولوجي الذي يدخل في تكوين “الهوية القومية الإيرانية” و أيضا ” الهوية القومية الإيرانية الحديثة”.

في قصته القصيرة “فارسي شِکَر است” (الفارسية سكر ) يضع الروائي محمد علي جمالزده، “العربي” مرادفا للخرافة و التحجر، و “الإيراني” مرادفا “للفارسي و المسلم” وينظر إلى الإسلام بإعتباره ركنا أساسيا في الهوية الإيرانية. و لا يخفي صادق هدايت كراهيته للعرب و نفوره من الإسلام بوصفه “دينا عربيا”.يصف هدايت العرب في كتابيه “الطاعة العمياء” و “بروين ابنة ساسان” بأنهم موجودات مريضة، بشعة ، حمقاء و خشنة ، و مسلمو اليوم ، فاسدون وأهل رياء ، و بالنسبة له فالفترة الأثيرة من تاريخ إيران هي الفترة الساسانية فالإيراني خلالها :” شجاع ، ذكي ، مثقف وفنان و صاحب فضيلة”. ويعتقد هدايت أن تمدن الإيرانيين تم سحقه على يد العرب ، كما يعتقد بتفوف العرق الإيراني “الآري” على العرق “العربي” السامي. ويشاركه في هذه النظرة الشاعر ،مهدي اخوان ثالث،الذي يحمل العرب مسؤولية افناء حضارة و هوية الإيرانيين قبل الإسلام وفي کتابه “آخر شاهنامه” ،”كتاب الملك الأخير”،يرى أن على إيران أن تعود إلى “عصرها الذهبي” قبل الإسلام ، و الإيراني كما يراه :طاهر، أصيل، وجميل ، كما يعتقد مثل هدايت بتفوق العرق الآري.
و تميل الشاعرة فروغ فرخزاد إلى اعتبار العداء الإيراني العربي ، كمقولات ناشئة عن السياسة و التاريخ ، و أنها مقولات ذكورية ، لا علاقة للنساء اللواتي ابعدن إلى الحاشية بها، و في ديوانها “قلبي يحترق من أجل الحديقة” تنتقد فرخزاد الإسلام بوصفه مؤسسة ايرانية، خلافا لهدايت الذي يراه مؤسسه عربية غريبة .
لكن الشاعرة طاهره صفارزاده، تقف موقفا مختلفا بالكامل ،فالإسلام بالنسبة لها ظاهرة عالمية، وليست عربية، وترى أن اسلاميتها تتقدم على ايرانيتها. و يغيب “العربي الآخر” من شعرها، لكنه يحضر كأخ و اقع تحت الظلم، و تغيب أيضا من شعرها تلك الرؤية و الرواية التاريخية التي تشيع عند هدايت واخوان ثالث. وعلى العموم تحمل الشاعرات و الأديبات الإيرانيات فكرا غير متعصب، انساني أو اسلامي شمولي.
لم تنجز دراسة مماثلة لتكشف عن صورة الإيراني في الأدب العربي، لكن دراسة أنجزها الدكتور طلال عترسي عنوانها: صورة الإيرانيين في المناهج الدراسية العربية ، تكشف بصورة كبيرة عن تعصب عرقي أيضا ، خاصة و أن الدراسة ركزت على مناهج التاريخ و الجغرافيا، وبعض هذه المناهج ، تصور الإيراني ك”معتد و خالق للفتن و شر مطلق و أنه كان عدوا و سيبقى كذلك ” ، أما الدور الذي قام به الفرس فهو ، و كما تقول بعض هذه المناهج ،فكان “تشويه وجه الإسلام ، وخدش وحدة العرق العربي، و تلويث أنساب العرب وقيمهم الأصيلة، كالكرامة و الشجاعة و الأمانة بالكذب و النفاق”و بينما يقرأ كثر من المراجع التاريخية ما قام به مختار الثقفي على أنه “ثورة لنصرة الحسين و الثأر له” تقرأها مناهج عربية على أنها “فتنة ” لم تكن اليد الإيرانية بعيدة عنها. و إن كان الأدباء الفرس يحملون العرب مسؤولية انهيار ثقافتهم و حضارتهم ، فالعرب أيضا يرون أن الفرس وقفوا دائما ضد حضارتهم . و لايرى العرب في قوميتهم ، قومية عرقية متعصبة كالفرس، بل يرونها قومية انسانية .
لاتبقى هذه الصور و الإستعارت و الكيانات المهينة، في إطار الرؤية الثقافية للآخر، لكنها تتعدى لتصل المجالات السياسية.
تعبر النظرة العدائية من جانب العرب نحو الإيرانيين عن نفسها في مناسبات عدة ، فهم يطالبون “بقطع رأس الأفعى(الجارة) كما كشفت وثائق ويكي ليكس ، وتعبر النظرة الدونية الإيرانية للعرب في الخليج عن نفسها في مناسبات عدة ، فهم “عبيد أمريكا و الغرب”، و هذه النظرة ذات الصبغة السياسية ، لها وجوه أخرى لدى عامة الناس ..
تاريخيا ،لايقف الإدراك للأنا و الآخر ببعيد عن مساحة العداء، لكن الواقع يتحدى الخارطة الإدراكية لكلا الطرفين ،و تغيير الخارطة ممكن بالحوار السلمي أو “الحوار العنيف” ، و الجيران هم أنفسهم من يقرر أيهما أجدى نفعا للمنطقة و العالم والإنسانية.

* باحثة وأكاديمية أردنية خريجة الجامعات الإيرانية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *