الكتاب الخفيّون.. والنخاسة الأكاديميّة

الكتاب الخفيّون.. والنخاسة الأكاديميّة

د. حكمت النوايسة *

آن لنا أن نصدّق الخبر الذي قال إن الجاحظ كان في أوّليّات نبوغه يؤلف الكتب وينسبها لغيره، بلا بحث في الأسباب التي يمكن أن تدفع إنسانا إلى ذلك، ولعلّها في عصر الجاحظ غيرها في عصرنا؛ ذلك أن الزمان غيرُ الزمان، والإنسان غيرُ الإنسان.
نحن أدرى بزماننا
وهم – الجاحظ وسارقيه – أدرى بزمانهم.
أما زماننا، فإنّ تاج الدوافع فيه المال والسلطان؛ المال أساسًا، والسلطان ثانيًا؛ فثمّة فقراء كثيرون يتقنون الكتابة، والبحث العلمي الرّصين، لكنّهم غير قادرين على الإخلاص لما يتقنون، والسبب وقوعهم تحت ضغط الحاجة في زمن لا تقود فيه الكتابة إلا إلى الفقر، ومن أراد فيه – هذا الزمن – أن يكون كاتبًا، فعليه أن يوفّر قبل ذلك مصدر دخل يحفظ له كرامته، وحقوقه الأساسيّة التي تحفظ بقاءه، ثم ينطلق بعد ذلك للكتابة غير المشروطة بالعرض والطلب، وحاجة السوق سلطة أو جماهير تريد أن تقرأ ما تحبّ أن تقرأ! !
ولا يستهيننَّ أحدٌ بحجم ما نحن بصدده؛ ذلك أنّه كثير بالحجم الذي يشكّل فيه ظاهرة تستحق التناول والدرس؛ لأنها أساس الزيف شديد الوطأة القادم إذا ما استفحلت.
أما مصدر هذه الطاهرة السلبيّة، فهو الجامعات العربيّة – مع الأسف-؛ ذلك أن التنافس في الحصول على الشهادات العليا قد قاد من يعرف ومن لا يعرف إلى الانخراط في قوائم طلبة الدراسات العليا، وعندما كانت هذه الدراسات تحتاج إلى أن يثبت الطالب جدارة وأهليّة لحمل شهادتها، ويتوّج ذلك بالرسالة التي يكتبها الطالب، فإن قانصي الفرص ممّن ليس لديهم الأهليّة للبحث والإبداع في العلوم الإنسانية لم يعدموا الوسيلة إلى تخطّي حاجز الكفاية؛ فثمّة فقراء لديهم الكفاية والقدرة، ويخبّئونها في قلوبهم حسراتٍ في ظلّ عدم تكافؤ الفرص، وغياب التنافس الشريف في شغل المواقع الأكاديميّة والبحثيّة، وعدم وجود مؤسسات داعمة للكفاءات غير الميسورة، وهكذا تكتمل الدائرة: غبي متسلّق لديه مال، وفقير لديه الكفاءة معروضة للبيع من أجل لقمة عيش أو حليب لطفل، أو مبلغ يسهم في عش الزوجية، أمّا النتيجة، فإنها تخرّج الأول يحمل شهادة تؤهله لموقع إداري أو أكاديمي، وبقاء الفقير منتظرًا عارضًا إبداعه ووعيه للبيع، وهؤلاء المبدعون في الغالب من حملة ” البكالوريس”، وأحيانا من حملة الشهادات العليا، الذين لم يجدوا من يشدُّ على أيديهم ليأخذوا أماكنهم أو فرصهم في مواصلة التعليم، أو العمل في التعليم الجامعي، وهم، على ذلك، الكتّاب الخفيّون لكثير من الرسائل الجامعيّة التي تحوّلت إلى كتب يفاخر بها من دُمِغت أسماؤهم على أغلفتها.
أتحدّث عن معظم الجامعات العربيّة، ولا أتحدّث من فراغ؛ فهناك كثيرٌ من القصص حول هذه الظاهرة، لكنَّ ما يثقل على النفس ليس تلك القصص والظاهرة، وإنّما استفحالها، مع عجزي الآن عن اقتراح حلول لمثل هذا الزيف الذي سيملأ علينا جامعاتنا في مضمار العلوم الإنسانيّة، إذ إنّنا بدأنا نرى بعض مدرّسي الجامعات ممّن يدرسون تخصّصًا لا يعرفون أساسيّاته، ومدرّسين يدرّسون الإبداع وهم لا يستطيعون كتابة صفحة خالية من الأخطاء في النحو والصّياغة أو المعرفة!!!

* شاعر وأكاديمي من الأردن

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *