حسين السكاف
في العدد 284 بتاريخ 20 سبتمبر الماضي، نشر “الاتحاد الثقافي” قراءة في رواية الكاتب العراقي عبد الهادي سعدون بعنوان “مذكرات كلب عراقي”. هنا يقدم الأديب والروائي العراقي المعروف حسين السكاف مقاربة شاملة لحضور الكلب في الروايات العراقية الصادرة في السنوات الأخيرة. وقد اختصرت هذه المقاربة لضرورات المساحة.
منذ سقوط نظام الحكم في العراق (أبريل 2003) والرواية العراقية تسجل حضوراً ملفتاً. حضور تمخض من رحم “كبت” أدبي وثقافي استمر لعقود، كبت مزمن أصاب حرية التعبير وجعل التأجيل نصيب العديد من الأفكار والمشاريع الأدبية والثقافية.
صحيح أن الروايات الصادرة في الثماني سنوات الأخيرة، تحمل كماً كبيراً من القصص والمشاهدات والرؤى والأفكار التي تحاكي مضمون ما يحدثنا به واقع العراق وتاريخه القريب، إن كان على شكل سرد ينتمي إلى المدرسة الواقعية، أو سرداً متخيّلاً مادته الأساس معتمدة على الواقع، إلا أن الملاحظ، أن نصيب الروايات التي ينقصها منظر الدم ورائحة الموت، قد ظهرت بشكل خجول جداً، في الوقت الذي نجد فيه أن أغلب الروايات الصادرة كانت حافلة بالموت لدرجة أننا نشمّ رائحة البارود والدم وتراب المقابر من بين سطورها. ومن بين هذه الروايات من ذهب أبعد من هذا، لنراه وقد نسج عالم روايته بأفكارها وأحداثها وحواراتها على لسان جثث العراقيين التي باتت منتشرة كانتشار نخيل العراق، بدءاً من “مشرحة الموتى” وليس انتهاءً بالأرصفة والمزابل… فالروايات تحاكي يوميات بلد عُرف بحروبه ودمه المسفوك بغزارة لسنوات طوال، لذا، لا بد وأن يكون الدم حاضراً ـ حسب ما يراه أغلب الكتّاب ـ في هذا النوع من النتاج الأدبي الذي يحاول محاكاة الواقع العراقي الذي لم يعرف سوى الاضطراب والموت والحروب لسنوات طوال. لذا، ليس من الغريب أن نجد أغلب الروايات وهي تحكي قصة شعب امتد زمنها لأكثر من ثلاثة عقود، قصة ثلاثة أجيال أو أكثر ولدت وكبرت وتعلمت داخل فضاء مشبع برائحة البارود والموت، فضاء موسيقاه دوي انفجارات وأزيز رصاص ونحيب موت وعويل، أجيال تعرف كل أنواع الأسلحة وطرق الموت، ولكنها لا تعرف حقيقة موتها.
العراقي والكلب
عدد لا يستهان به من الناتج الروائي العراقي، نجده وقد تناول ضمن فضائه الروائي، علاقة جديرة بالتأمل، علاقة ملفتة للنظر، تتمثل بعلاقة “العراقي والكلب” العلاقة التي نتلمس حضورها ضمن النصوص، بصورٍ مختلفة، واقعية أحياناً، وخيالية أحياناً أخرى، تتغير حسب مفهوم الكاتب لها، وبما يناسب الفكرة الروائية، فالكاتب أو “الشخصية داخل الرواية” المرتعد خوفاً قد يرى الكلب عابثاً بجثته ممزقاً لها بعد موته، أو يراه بهيئة وحش ضخم يدخل أحلامه ويقلق مناماته ناصباً له محكمة قد تؤدي به إلى الموت في أفضل “الكوابيس”، أما “الشخصية” أو الكاتب المسترخي نسبياً، فيرى في الكلب روحا وعقلا يمكنه أن يشخّص البريء من المجرم الذي غالباً ما يقرر أكل جثته والعبث بها. الحقيقة، أن طبيعة العلاقة بين “العراقي والكلب” التي تطرحها العديد من الروايات، بما فيها من بشاعة ودموية وخوف، تختلف تماماً عن طبيعة العلاقة التي عرفها إنسان بلاد الرافدين في العصور السومرية والبابلية وغيرها، حيث نرى أن صورة الكلب في ذهنية الإنسان العراقي المعاصر باتت مصدر شؤم مرتبط بأبشع صور الموت، بعد أن كانت مصدر سعادة واطمئنان ورمزاً طارداً للأرواح الشريرة في العهد السومري والبابلي، فقد كان الكلب بالنسبة لابن وادي الرافدين صاحباً وحارساً وأنيساً، وقد نقشت هيئته في الأختام وصنعت له التماثيل، كون إنسان بلاد الرافدين كان مؤمناً بأن حضور الكلب في المكان، كفيلاً بطرد الأرواح الشريرة، وتحت سطوة الإيمان هذه كان يصطحبه في سفره أو يحمله معه رمزاً على شكل تماثيل فخارية صغيرة كتعويذة لطرد الشر والشياطين ودرء خطر الموت، في حين نرى أن صورة الكلب برمزيتها قد اختلفت تماماً في عصرنا هذا، فصار رمزاً مقترناً بالموت، خصوصاً في زمن السلطة الزائلة، التي كانت تلقي بالسجين العراقي أو المعتقل لديها طعاماً للكلاب المدربة الجائعة، ولهذا اقترنت الصورة المخيفة للكلب بصورة الجلاد والطاغية وأزلامه، حتى صارت أكثر بشاعة من رصاصات الإعدام وحبل المشنقة، لتسجل حضوراً دامغاً في عالم الكوابيس العراقية، في الوقت الذي نجد فيه الكلب وهو يقود الأعمى ويساعده في معرفة طريقه في بلدان أخرى غير العراق… الصورة البشعة للكلب، تحولت في زمن الاحتلال لتأخذ مكاناً أكثر بشاعة وهلعاً داخل الذهنية العراقية، وأخذت بشاعتها تنتشر متماهية مع انتشار الجثث، حتى بات سماع النباح ليلاً، دليلا على أن هناك جثة لعراقي ملقاة على الطريق تعبث بها الكلاب كما نقرأ في رواية “نجمة البتاوين” حين يصور لنا مؤلفها شاكر النباري حالة الذهول التي تتلبس أحد شخوص روايته… “يقف في الممر مثل شبح، دالية العنب فوق رأسه جافة الأغصان، والهدوء يخيم على حارات مدينة الشعب وأزقتها، وفي مكان ما من هذا الليل، تتعارك الكلاب على الفريسة، والفريسة جثة مجهولة الهوية بكل تأكيد”. وكأنَّ كلاب العراق قد تحولت إلى “كلب الجحيم، سيربيروس Cerber s” الأسطوري ليمرر الأموات وبسرعة إلى قُضاة الموت في العالم السفلي، وليخفف عن المشهد العراقي تزاحم الجثث وانتشارها الملحوظ في الطرقات.
كابوس العلاقة
نجد في بعض الروايات التي يأخذ الإذلال والممارسات القمعية دور البطل الحقيقي فيها، أن العلاقة الكابوسية بين العراقي والكلب قد حُفِرت في الذاكرة العراقية كالنقوش التاريخية، هذه العلاقة التي طالما تعرضها الذاكرة كشريط سينمائي لفيلم مرعب. ومن بين هذه الروايات، رواية “إعجام” لسنان أنطون حيث نقرأ أحد كوابيس الشخصية الرئيسة فيها الذي نتلمس فيه هلعه وشعوره بالفجيعة والإذلال وهو متكور داخل إحدى زنازين معتقلات النظام السابق، مفصحاً للقارئ بأن أغلب كوابيس المعتقلين، غالباً ما يكون بطلها الكلب أو قطيع من الكلاب، نتيجة التفكير الدائم بنهاية مأساوية تنتظرهم، قد تحولهم إلى وجبة طعام ساخنة للكلاب الجائعة، بعد أن يملّ السجان ويضجر من حفلات التعذيب… “سُحبٌ سوداء بدأت تنث مطراً حبريّ اللون. شعرت بقطراته الباردة تنقّط جسدي ومَسحَت واحدة سقطت على جبيني. اسودّت أصابعي ثم تناهى إلى سمعي عواء ونباح. خيِّل إليَّ أن العواء المختلط بالنباح وبأصوات بدت كأنها زمجرة دراجات نارية أخذت تقترب أكثر فأكثر. هاجمني الخوف وبدأت أركض بسرعة بالاتجاه المعاكس. تحوَّل نثيث المطر إلى زخّات وأخذ يتجمع في بحيرات صغيرة، كنت أتعثَّر وأتزحلق بها وأنا أركض بكل ما أوتيت من قوة. سقطت فلطَّخ الرمل المختلط بالمطر الأسود وجهي وصدري وذراعيّ وفخذيّ وركبتيّ. نهضت وواصلت الركض بعيداً عن العواء… لكنّ الكلاب التي اقترب عواؤها ونباحها بسرعة ستشم رائحتي حتماً وتنهشني. ركضت وركضت حتى سقطت في بقعة موحلة. اقترب العواء والنباح أكثر فأكثر. نهضت وواصلت الركض حتى تمكن مني التعب والبرد والرمل الموحل فسقطت مرة أخرى… أدركت من نباح الكلاب بأنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى. التفت لأجد أن واحداً منها كان على وشك الوثوب عليَّ. لمعت أنيابه ورأيت لثته الوردية ذات الحواف السوداء. أخفيت رأسي بين يديّ. ثم فتحت عينيّ لأجد الأوراق البيضاء وسطورها الممتدة ترقد بجانب رأسي. هل أكتب؟”… وهنا يفيق بطل الرواية من كابوس الخيال، ليجد نفسه أمام كابوس الواقع حيث الأوراق المجهَّزة لحمل اعترافاته. وحيث نلاحظ من خلال الصياغة التصويرية ودراماتيكية الكابوس أن صورة الكلب تمثل الجانب الشرير في ذهنية الفرد العراقي وارتباطها بالموت، كما نلاحظ أن حضور الكلاب المختلط بالمطر الأسود يعيدنا إلى زمن احتلال الكويت وحرق آبار النفط، ليشكل المطر الأسود صورة لمشهد مؤلم مرتبط بالموت أيضاً محفور في أذهان العراقيين وذاكرتهم.
كابوس آخر، ولكن بصورة تأخذ طابعاً سياسياً تحليلاً لا يفتقر إلى السخرية رغم كم الهلع الهائل الذي تظهره الرواية، كابوس يصوره لنا مؤلف رواية “مشرحة بغداد” برهان شاوي وهو يحاول طرح فكرته من خلال حوارات تجري في ممر الطابق السفلي المؤدي لمشرحة الموتى. فكرة مفادها أن قوة خفية تحرك العملية السياسية في العراق الجديد، بما فيها عمليات الفساد والقتل والنهب المنظم، قوة تتمثل بالسيد “الكلب الأسود” الذي يدير لعبته بتقنية عالية من خلف ستارة الموت.. “حين وصل آدم الحارس ـ حارس المشرحة ـ أسفل السلم وبداية الممر، نظر إلى عمق الممر، فهاله ما رأى. كلب أسود، هائل الحجم كالجاموس، ينظر إليه بعينيه الفسفوريتين نظرة حاقدة، وكأنه يتأهب للانقضاض عليه. توقف الحارس من هول المفاجأة. سأل نفسه بسرعة خاطفة عن سر هذا الكلب، الهائل الحجم، من أين جاء؟ وكيف دخل إلى هذا الممر؟. ظل كلاهما ينظر إلى الآخر. كان الحارس يقيس المسافة بينه وبين باب غرفته، وبينه وبين الكلب الأسود المرعب… تهيأ الكلب الأسود إلى القفز باتجاه الحارس آدم، بينما تهيأ الحارس آدم بدوره للركض إلى غرفته… واحد، اثنان، ثلاثة. ركض بأقصى ما يمكن، قافزاً بشكل سريع جداً. في اللحظة التي انطلق فيها الحارس آدم راكضاً نحو غرفته، قفز الكلب الأسود قفزة هائلة نحوه، لكنه لم يصل إليه… في اللحظة التي دخل فيها الحارس آدم إلى غرفته أغلق الباب خلفه بالمفتاح. كان قد وصل إلى أعلى درجات الرعب، فهو لم يرتعب من الجثث مثلما ارتعب من هذا الكلب الأسود الهائل الحجم… لا يدري كيف بدرت منه التفاتة عفوية إلى وسط الغرفة، فرأى أن شاشة التلفزيون كانت تنقل ما يجري في الممر!!! وصار يسمع من يخاطب الكلب ويشير إلى بوابة المشرحة… “هنا يا سيدي الكلب تُشرّح الجثث وتؤخذ قلوبهم.” ويتساءل الكاتب هنا، “ترى أي كلب هذا، هل هو الكلب آكل قلوب الموتى في مصر الفرعونية؟” والحقيقة أن هذا الكلب “الرمز” بدأت رمزيته تتضح جلياً للقارئ حين نصب محكمة لمن هم داخل الممر المؤدي إلى المشرحة، وصار يحدثهم بلغة آمرة، يعنف هذا ويمدح ذاك، حتى أفصح أحدهم عن هوية هذا الكلب وهو يخاطبه… “هل رأيت يا سيدي كيف يتحدث هذا التافه ويتطاول علينا وعلى الحكومة؟ كيف يتجاوز على السادة الأشراف، يتهمنا بأننا نريد تقطيع أوصاله بينما كل ما نريده نحن أن يبقى في المشرحة ولا يتسكع في الطرقات يسب هذا ويشتم ذاك، يكشف أسرار الدولة.”
العلاقة والواقع
بعد أن تلمسنا شكل العلاقة في الخيال وما تعرضه الكوابيس العراقية، ترى ماذا عن الواقع؟ هل شكل العلاقة بين العراقي والكلب، أقل وحشية حين نقرأ شيئاً من الواقع داخل الرواية العراقية؟ قد تجيبنا عن سؤالنا هذا رواية “ما بعد الجحيم” لحسين سرمك حسن حين نقرأ ما يصفه لنا بطل الرواية “شامل” عن مقتل صديقه “سلام” في الحرب العراقية الإيرانية… “كنت في أمس الحاجة لصديق وفي وأمين وشجاع… وصديقي هذا أكله الكلب. سحل الكلب الأسود مصرانه أمام عيني ولم أستطع أن أفعل شيئاً. الكلب أقوى من الإنسان. الكلاب هي التي تتحكم بمصائرنا الآن، ولا نستطيع عمل أيّ شيء. أنا ورؤوف لم نستطع فعل أيّ شيء غير ملء القدح الثالث والبكاء على العزيز الغائب الذي لم يأكله الذئب.” هذه الصورة، وصور أخرى يعرضها لنا الراوي عن جثث الجنود الطافية فوق مياه الأهوار التي صارت طعاماً للأسماك والكلاب، جعلت من بطل الرواية يتوقع صورة موته وهو ينظر إلى جسده باحتقار… “أحتقر هذا الجسد. مهما فعل سيبقى منه إصبعان في بطن سمكة أو كلب. وسيرفض الجميع شراء الخاتم الذهبي الذي يعثر عليه الصياد الفقير في بطن السمكة.” ويذهب الكاتب أبعد من هذا حين يصف معركة خرج منها سالماً ـ جسدياً ـ بأعجوبة: “معركة دامت سبعة وأربعين يوماً بين الكلاب، وسقط فيها خمسون ألف كلب من الجانبين وسط الأناشيد الحماسية والهتافات الصاخبة والأوسمة والنياشين.” وهنا نتلمس نظرة أخرى نحو الكلب، نظرة الاحتقار لهذا الحيوان التي أسقطها على الجنود الذين أجبروا على أن يكونوا وقوداً لحرب خاسرة… هذا ما يحدثنا به بطل الرواية وهو داخل أتون الحرب وجحيمها، ولكن ماذا عن حالات الاسترخاء والهدوء التي كان ينعم بها أحياناً؟ هل تستحضر مخيلته صورة الكلب المرعبة؟ يجيبنا بطل الرواية عن سؤالنا وهو يقلّب صور أصدقائه بين يديه، ويحدثنا عن صديق له صار في عداد المفقودين “أما هذا الذي يقف في وسط المجموعة ويحمل فخذ دجاجة فهو شيطان المجموعة بحق (إسماعيل عباس) ملح الحياة الذي لا طعم لها من دونه، لم يسلم من مقالبه أحد، لا طالب ولا معلم ولا جار… هو الآن مفقود، لا أحد يعلم هل هو أسير أم شهيد؟ أم أكلته الكلاب؟ لا أعرف ما معنى كلمة مفقود. أين يذهب إنسان بطوله وعرضه؟ أعتقد أن الكلاب هي المختصة بالفقدان لأنها تقطع الجندي إرباً ويأخذ كل منها حصته إلى مكان بعيد. الكلاب لا تأكل سوية، وإلا لوجدنا آثاره.”…
والحقيقة أن العديد من الروايات العراقية قد تحدثت عن مصطلح “مفقود” كونها باتت حالة شائعة يتناقلها الشارع العراقي، ومثلما قرأنا عن مفقودين أكلتهم الكلاب في ساحات المعارك، نقرأ أيضاً عن مفقودين أكلتهم كلاب السلطة، كما في رواية “أموات بغداد” حين يدين مؤلفها جمال حسين علي السلطة الحاكمة جراء القتل واقتراف المجازر بدم بارد… “في مقبرة الرزازة عثر على قناني مشروبات غازية مع العظام، فهؤلاء كانوا يأكلون ويشربون فوق الجثث مباشرة، وشهد على مراسم الموت في معسكر الفضيلية والرضوانية حيث كانوا يذيبون الأجساد بالتيزاب ويتلذذون بإطعام خصومهم إلى الكلاب في القصور الرئاسية…”
نبقى في المرحلة نفسها، فترة حكم النظام العراقي السابق، لنجد أن الرواية العراقية قد سجلت حضوراً للكلب بصورته المخيفة في الأماكن العامة أو الترفيهية فنقرأ في رواية “إعجام” مشهداً عن مباراة لكرة القدم في الوقت الذي صارت حماية الملعب من اختصاص الحرس الخاص بعد أن ترأس “عدي” ابن الرئيس كل المناصب الرياضية، وصار الحرس الرئاسي هو المسؤول عن حماية الملعب، فيخبرنا بأن الحرس “كانوا يطلقون عنان الكلاب البوليسية لتعض بعض المتفرجين وهم يضحكون بسادية بشعة.” هذه الصورة المخففة نسبياً، عن علاقة الكلب بالعراقي، تأخذنا إلى صور مختلفة تماماً، صور يكون الكلب فيها هو الضحية، فنقرأ في رواية “كوبنهاجن ـ مثلث الموت” (لكاتب هذه المقاربة) كيف يرثي العراقي لحال الكلاب بسبب الحصار الذي استمر لأكثر من عقد… “الكلاب السائبة في العراق تنتحر جوعاً، ظاهرة عرفها العراقيون منذ شهور الحصار الأولى. يقرر الكلب الانتحار فيقف وسط الشارع لتطوّحه في الهواء بعد دقائق أو ثوان صدمة سيارة عنيفة تقذفه إلى جانب الطريق. ربما يقرر الكلب الجائع الانتحار رأفة بأبناء جلدته كي يصبح طعاماً لهم، وإن صح هذا، فتضحية الكلب بنفسه هذه لا يعرفها البشر. حين يجوع الإنسان، يفكر بقتل إنسان آخر كي يستولي على ما بحوزته، أو يقبض أجر فعلته من إنسان آخر، ليؤمن بها لقمة العيش…” صحيح أنها رؤية خاصة جداً، إلا أن النظرة الحانية التي كان العراقيون ينظرونها إلى الكلاب والقطط في زمن الحصار، الزمن الذي لا يجد فيه الإنسان ما يسد به رمقه، فما بالك بهذه الحيوانات التي كانت تعيش على ما يرميه الإنسان إليها من بقايا طعام…
كلاب زمن الاحتلال
قد يرى البعض في الدور الذي لعبته الكلاب في فضيحة “أبو غريب” رمزاً واضحاً لممارسات إذلال الإنسان العراقي، في زمن الاحتلال، ولكن ما كان يدور في الشوارع العراقية وأكوام المزابل والأزقة المظلمة، كان أشد وحشية وإهانة، كونها كانت تجري أمام أنظار الناس وأهل الضحايا، الذين يصلون في الغالب متأخرين بعد انتهاء حفلات الكلاب الليلية وهي ترقص حول الجثث بمتعة ونهم. والحقيقة أن ما جرى من ممارسات وحشية تحت سقوف سجن “أبو غريب” لم يفلت من قبضة الرواية العراقية، حيث نقرأ في رواية “الحفيدة الأميركية” لإنعام كجه جي وعلى لسان بطلة الرواية المترجمة العراقية الأميركية، حيث تربط بين ما شاهدته في فضيحة “أبو غريب” وبين ما كان يحدث في سجون النظام السابق.. “لكن أبو غريب كان بعيداً، والشرف العسكري لم يعد قضية رجال فحسب، بل نساء أيضاً. أمر أصابني بغضب ينزّ صديداً. من أتى بهذه القحبة التي تسحب السجين مثل كلب وراءها… من أتى بها إلى جيشنا؟… تذكرت تعذيب أبي في دائرة أمن السعدون. تخيلت أن المجنّدة ليندسي إنغلاند تربط أبي من رقبته بحزام من أحزمة الكلاب وتجره وهو عارٍ. تصاعد الصديد إلى حلقي وأنفي. كيف سأنظر في وجه بابا؟”.
وهناك صورة أخرى نجدها في رواية “أموات بغداد” تأخذنا إلى وحشية وبشاعة ما تم اكتشافه في العديد من المقابر الجماعية التي اقترفها النظام السابق، حيث نقرأ إن الأمريكية “ساندرا” التي جاءت ضمن إحدى المنظمات الإنسانية والتي تعمل في فريق البحث عن رفات العراقيين في المقابر الجماعية، كانت قد اصطحبت كلبتها معها، هذه الكلبة التي قلبت موازين الفكرة، فبعد أن قرأنا عن الكلاب التي تأكل الجثث العراقية وغيرها التي تفترس العراقيين وهم أحياء، نجد أن الحالة معكوسة تماماً، الكلب هنا يمرض حد الموت لأنه استنشق رائحة الموت المنبعثة من المقابر الجماعية… “أصيبت الكلبة “ماني” التي كانت برفقة ساندرا طوال الوقت، وظن الجميع بمن فيهم صاحبتها بأنها ستدفن هنا، فقد اضطجعت بلا حراك فضلاً عن تلك السوائل الغريبة التي كانت تخرج من فمها وكانت في حقيقة الأمر تنازع أنفاسها الأخيرة، في الوقت الذي كانت ساندرا تجهش بالبكاء…” كلبة أميركية على عكس الكلاب العراقية التي تنبش القبور وتأكل ما تجده من رفات الأموات العراقيين!! ترى لو كانت كلبة عراقية، فهل ستمرض لتصل حد الموت؟.. وفي زاوية أخرى من الرواية، يشبّه المؤلف رجال السلطة الزائلة بالكلاب، تماماً كما نقرأ في رواية “الحفيدة الأميركية” “قيل لنا إنه كلب ابن كلب… كان مسؤولاً أمنياً أيام النظام السابق. واحد من أولئك الذين جئنا لمحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها في حق الأبرياء. شخص لا تأخذك به رأفة. وبوجوده وأمثاله مطلقي السراح لن ينهض العراق ويلهج بنشيد الديمقراطية.” كان هذا على لسان الفتاة العراقية التي غادرت بلدها هاربة إلى أميركا لتعود بعد سنوات مترجمة مع قوات الاحتلال، ولكننا نقرأ في رواية “أموات بغداد” هذه النعوت وقد جاءت على لسان والد بطل الرواية الذي عاش جل عمره على أرض العراق، وهو يحدث ولده العائد من المنفى بعد الاحتلال “أكثر ما حزَّ في نفسي مع أمك، أننا أنجبناكم لكي نفقدكم، وأنكَ تتشرد في الأرض بينما وطنك مقفر مليء بالكلاب، الكلاب الكثيرة جداً.” بينما نلاحظ وفي الرواية نفسها أن مؤلفها وفي وصفه لبعض أحداث انتفاضة آذار 1991 التي عقبت تحرير الكويت بأيام، وقد جعل الكلاب في صف المعارضين للسلطة الحاكمة، حيث إصرار الكلاب على أن لا تعبث إلا بجثث أزلام النظام، بينما تترك جثث الضحايا الأبرياء دون أن تمسها، أو ربما أراد أن يكون أكثر رأفة ورحمة بجثث الأبرياء ـ حسب رأيه ـ وأكثر سخطاً ولعنة صوب أزلام السلطة و”كلابها” كما يصفهم، ولا ندري إن كانت الكلاب تأكل جثث من تحب، أم من تكره!!؟… “سرعان ما انتشرت الجثث في الشوارع، وفهمت عندها أن الحرية في هذه البلاد، تعني المزيد من الجثث في الشوارع. كنا ندفن من تطاله استطاعتنا، وفي الليالي الساكنة كنا ندفع بالجثث صوب النهر، ولكن من قال إن الكلاب لا تفهم ولا تشعر، هل تصدقني لو أخبرتك بأن الكلاب كانت تنهش وتأكل جثث رجال الأمن فقط ولا تمس الجثث الأخرى…”.
لم تنته العلاقة الوحشية بين العراقي والكلب عند هذا، بل استمرت بشكل أكثر وحشية باستمرار سنوات الاحتلال، ففي خضم هذا الوضع المأساوي، كانت جثث العراقيين تتناثر في كل مكان، وما كان من حل أمام الناس، غير دفن الجثث في أقرب مكان متاح، حتى وإن كان حديقة المنزل، أو الحدائق العامة، كحل مؤقت، إلى حين تغير الوضع ليتسنى لهم نقل الرفات ودفنها في الأماكن المخصصة، فنقرأ في رواية “أموات بغداد” أيضاً، أن الناس صاروا “يدفنون الجثث، خوفاً من أن تأكلها الكلاب، كما أن للموتى ميزة مزاحمة الأحياء بروائح خاصة منحهم إياها الرب لكي يجبر الناس على دفنهم، فقام الناس بالدفن في أقرب مكان خالٍ من بيوتهم… الجثث التعيسة ممن بقيت في الساحات والطرق والتي أُنقذت من الكلاب، وعثر عليها من يهمه أمرها، ابتليت بمشكلة أخرى، هي نبشها مجدداً لتدفن في المقابر بدلاً من وجودها في مدرسة أو حديقة أو غيرها.” ثم يخبرنا بأن الأميركيين أيضاً صاروا يدفنون جثث العراقيين، بعيداً عن وحشية الكلاب، إلا أن للكلاب مواهبها! “بعض الجثث دفنها الأميريكيون في أماكن عشوائية كالبساتين والأراضي غير السكنية، بعد أن يغلفوها بأكياس خاصة خصصت للجثث… ولكون الكلاب العراقية جائعة بسبب الحصار المضروب على البلاد لأكثر من عقد، فقد كانت تشم من بعد وعمق حفر الأكياس الأمريكية هذه وتنبشها، والكثيرون يتذكرون تلك الأيام التي كانت تعبث فيها الكلاب بجماجم وأياد وأفخاذ بشرية مقطعة.”.
وتخبرنا رواية “أموات بغداد” أيضاً، إن فكرة الكلب الملتهم لجثة العراقي باتت ومنذ زمن، مخزونة في ذاكرة كل عراقي خصوصاً الأطباء منهم، الذين طالما عرض عليهم العديد من الجثث الممزقة بأنياب الكلاب…”بدأ الطبيب يتصفح ذاكرة الموت صورة إثر أخرى، للذين حالفهم الحظ كثيراً وجلبوا إلى المشرحة ليتم تنظيفهم ودفنهم على حساب البلدية أو أقاربهم، ولم يتركوا في الحدائق والشوارع تلتهمهم كلاب المدينة المحاصرة…”
لقد أثبت الروائي العراقي بعد تغيير النظام، من خلال الأعمال الروائية الصادرة، أن الرواية العراقية التي صدرت خلال الأعوام التي أعقبت سقوط النظام العراقي، ما هي إلا رواية الذاكرة العراقية، الذاكرة التي شيدت لنفسها صرحاً أدبياً يصدح بآلامها وما كان يجثم على صدرها من محاولات التشويه والإذلال… لتظهر لنا على شكل ذاكرة سردية تهتم بتقديم النموذج المثالي لآلامها.
( الاتحاد الثقافي )