ذكريات من استوكهولم

ذكريات من استوكهولم

باولو كويلو

ليس هدفي ممارسة رياضة ما، كما لا أؤمن أن الناس عندما يمشون ” على الطريقة النوردية” لا يفكرون إلا بلذة تلك التمارين وما تحققه من تحسين لتوازنهم وتحريك لجسدهم برمته.. لا أدري حقاً.. لماذا يوجد لدى البشر هذا الميل إلى وضع القواعد لكل شيء؟

في خريف عام 2003، بينما كنت أتنزه في وسط مدينة استوكهولم، في منتصف الليل، رأيت سيدة تسير متكئة على عصوين للتزلج. فأرجعت الأمر على الفور، إلى إصابة ربما تكون تعرضت لها هذه السيدة، ولكنني لاحظتها تسير مسرعة بحركات إيقاعية، وكأنها تتزلج، بينما كل ما يحيط بنا طرقات معبدة. وكان الاستخلاص المنطقي: “ان هذه السيدة مسها الجنون، فكيف بإمكانها التظاهر بأنها تتزلج في المدينة؟”.

وعند عودتي إلى الفندق، أخبرت محرر كتبي بما شاهدت، فقال لي إن المجنون هو أنا، وإن ما رأيته للتو كان نوعاً من النشاط الرياضي يعرف باسم “المشي على الطريقة النوردية”. وأفاد أنه، بالإضافة إلى حركات الرجل والذراع والكتف، تستخدم عضلات الظهر في المشي أيضاً، ما يعني القيام برياضة كاملة.

والنية من وراء ممارستي رياضة المشي، التي تلي القوس والنشاب، باعتبارها الوسيلة المفضلة لدي لتمضية الوقت، تكمن في القدرة على التأمل والتفكير، والنظر إلى الروائع حولي والتحدث إلى زوجتي في ما نحن نسير. واعتقدت بأن تعليق محرر كتبي مثيراً للاهتمام، ولكنني لم أعره كثير اهتمام.

ذات يوم، وفيما كنت في سبيلي لشراء أدوات لسهامي من متجر لبيع الأدوات الرياضية، لاحظت وجود مجموعة عصي جديدة مخصصة لتسلق الجبال.. كانت خفيفة الوزن ومصنوعة من الألمنيوم، ويمكن تعديلها بما يسمح في تطويلها وتقصيرها، باستخدام نظام تصغير مثل عمود التصوير الفوتوغرافي ثلاثي الارتكاز. وتذكرت رياضة “المشي على الطريقة النوردية” وفكرت: لماذا لا أختبرها؟ فقمت بشراء زوجين اثنين من العصي، لي ولزوجتي، وقمنا بتعديل ارتفاعها إلى مستويات مريحة، وقررنا استخدامها في اليوم التالي.

وكان اكتشافا مذهلا! صعدنا ونزلنا الجبل ونحن نشعر بحركة جسدينا، وفعلياً، تحسن توازننا وتقلص شعورنا بالتعب. وكنا نسير ضعفي ما كنا نسير خلال ساعة واحدة في الأيام العادية. وأذكر أنني في إحدى المرات، أردت اكتشاف خور جاف، ولكن صعوبة تجاوز الصخور التي في القاع، حالت دون ذلك، فتخليت عن الفكرة. واعتقدت أنه مع وجود العصوين، سيكون الأمر أسهل تطبيقا، وكنت محقا.

باشرت زوجتي البحث عن توصيفات وسمات تلك الرياضة، عبر الإنترنت، فوجدت أنها تحرق سعرات حرارية أكثر من المشي العادي، بنسبة تصل إلى 46 بالمائة. وكانت متحمسة.. وهكذا أصبحت رياضة “المشي على الطريقة النوردية”، جزءا من حياتنا اليومية.

وفي أحد الأيام، في فترة ما بعد الظهيرة، قررت أن استطلع الأمر في الإنترنت أيضا، وذلك على سبيل الاستمتاع، لا غير، كي أتبين ما يوجد من معلومات حول تلك الرياضة. ودهشت بما وجدت، فهناك صفحات كثيرة، واتحادات ومجموعات ونقاشات ونماذج وقواعد.

لا أدري ما الذي دفعني إلى فتح إحدى الصفحات حول قواعد هذه الرياضة. وفيما أنا أقرأ بدأت أشعر بالذعر، فكل ما كنت أقوم به كان يطبق بطريقة خاطئة! فالعصوان يجب تعديلهما لتصبحا في مستوى أعلى، ويجب أن تتبعا إيقاعا محددا، وأن تكونا على زاوية دعم معينة. واكتشفت أن حركة الأكتاف، الصحيحة، مركبة ومعقدة. وكانت هناك طرق أخرى خاصة بتحريك المرفق. وكل شيء في تلك الرياضة، وجدت أنه ينتظم ويسير بناء على تعليمات تقنية، دقيقة وصارمة. فقمت بطبع كل تلك الصفحات. وفي اليوم التالي، والأيام التي تلته، حاولت اتباع ما قاله لي الخبراء بدقة. وبذا بات السير أقل إثارة، ولم أعد أجد ذلك الإحساس بالدهشة من حولي، وقلما تحدثت إلى زوجتي، ولم أعد أفكر إلا في القواعد. وفي نهاية الأسبوع، سألت نفسي: لماذا أتعلم كل هذه الأشياء؟

ليس هدفي هو القيام بتمارين رياضية. ولا أؤمن بأن الناس عندما يمارسون رياضة “المشي على الطريقة النوردية” يفكرون في البداية بأي شيء، إلا بلذة المشي وتحسين توازنهم وتحريك جسدهم برمته. وبشكل حدسي، عرفنا أنا وزوجتي الارتفاع المثالي للعصوان، تماماً. كما أمكننا أن نستنتج بالحدس، أنهما كلما كانتا أقرب إلى جسدينا، كانت الحركة أفضل وأسهل. لكن الآن، وبسبب القواعد، لم أعد أركز على الأشياء التي أحبها، وكان جل اهتمامي يتركز على خسارة السعرات الحرارية وتحريك عضلاتي، وكذا استخدام جزء محدد من عضلات ظهري للسير.

وقررت أن أنسى كل ما تعلمته عنها. واليوم يمشي كل منا، أنا وزوجتي، باستخدام عصويه، مستمتعين بالعالم المحيط بنا، ونشعر خلالها بسعادة غامرة لرؤية جسدينا يجهدان ويتحركان ويتوازنان. وإذا كنت أرغب في القيام بتمارين رياضية بدلاً من “تحريك حالة التأمل” لدي، لكنت ذهبت إلى قاعة الرياضة أو إلى النادي الرياضي الخاص باللياقة البدنية. وفي هذه اللحظة، أنا مسرور برياضة “المشي على الطريقة النوردية”، بطريقة مريحة وغريزية، ذلك حتى لو كنت لا أخسر 46 بالمائة من السعرات الحرارية.

ولا أدري حقاً.. لماذا يوجد لدى البشر هذا الميل إلى وضع القواعد لكل شيء؟

– البيان

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *