الرحيل إلى المجهول

الرحيل إلى المجهول

آرام كرابيت*

نزلت من الحافلة وسرت إلى بيت أختي القريب، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة ليلاً، لم يكن في الشارع أحد من الناس الذين أعرفهم، دخلت باب الحديقة وقرعت الباب، خرجت أختي فاتحة الباب، ونظرت إلي ملياً، رجل عجوز، وزنه لا يتجاوز الأربعين كيلوغرام، يلبس الأسمال البالية وينتعل الشحاطة والبنطال المقطوع، سألتني أختي زوفينار، ماذا تريد يا عم، ما هي حاجتك؟ وقفت مبتسماً، نظرت إليها ملياً وهي تنظر إلي مستغربة، اقتربت أخت زوجها ووقفت بجانب أختي موجهة سؤالها لأختي، ماذا يريد هذا العم العجوز؟ ردت أختي عليها، لا أدري؟ أسأله، لكنه لا يجيب، تدخلت الأخرى وقالت، ماذا تريد يا عم؟ هل تريد خبزاً، حاجة ما يمكننا أن نقدمها لك! وجهت كلامي باتجاه أختي وقلت لها، أنا أخيك، هل نسيت؟ نسيت شكلي! وقفت مذهولة، وضعت يدها على فمها مستغربة، قالت، أخي، غير معقول، ثم راحت تولول وتقول، لست الذي أعرفه، لقد تغيرت كثيراً، ماذا فعلت بك الأيام يا أخي؟ ثم سقطت على الأرض مغشياً عليها، التم الجيران والناس، لا أعرف من أين جاءت الناس كلها في تلك الساعة، رشوا الماء على وجه أختي التي كانت ترجف من الخوف والقلق والذهول وصدمة المفاجأة، قلت لها، هل أبي وأمي على قيد الحياة؟ أخوتي البنات، أخي، قالت، نعم،، إنهم على قيد الحياة، لا تقلق، إنهم مسافرون، ثم أردفت، لقد تغيرت كثيراً، قلت، هذا قدر، علينا التأقلم معه، طوال الوقت كانت فاغرة فاها، تنظر إلي مستغربة، تغطي فمها بيديها من هول التغير الذي طرأ على شكلي ولوني وملامحي.

امتلأت الناس في البيت وفي الشارع، حدث هرج ومرج، صراخ من هنا وزعيق من هناك، بكاء الأطفال الصغار، المحادثات بين الناس بصوت عالي، دعاء من امرأة، وزغردة من أخرى، كنت أقول بين الفينة والأخرى، خففوا الصوت أيها الأخوة، صوتكم عال، لا أستطيع سماع الأصوات العالية، سنوات طويلة عشناها في صمت مطلق، إنني متعب، خففوا الصوت العالي قليلاً، الأصوات العالية تتعب أعصابي، رد أحدهم، إننا فرحون بك، بخروجك من السجن بالسلامة، قلت، شكراً لكم من كل قلبي، الفرح أيضاً يتعبني، كنت أخرج الكلمات من حنجرتي بصعوبة بالغة، لارتخاء عضلات الحبال الصوتية، لأن الكلام كان ممنوعاً في ذلك الجب العميق، لذلك لم أستطع التكلم إلا بصعوبة، كانت الكلمات تخرج من فمي كحشرجة مبحوحة الصوت، أنظر إلى الناس باستغراب، لقدرتهم على لملمة العتمة المسدلة بين عينيهم وجفونهم.

عندما اقتربت الساعة من الرابعة صباحاً استأذنت أختي ودخلت لأنام، لكني لم استطع، حاولت مرات كثيرة، تمددت على الفراش، لكن سلطان النوم بقي بعيداً، غائباً، قلت لنفسي، إنها المرة الأولى التي تستلقي فيها على فراش نظيف منذ عدة سنوات دون طماشة، دون رقيب يحسب عليك خطواتك ويعد عليك أنفاسك، حاول أن تنام وتسترخي بعد هذا العناء الطويل. ها، إنك خارج السجن وسط أهلك، لماذا لا تنام، ما الذي يشغل ذهنك وروحك، كل شيء على ما يرام، لكن صوتاً آخر كان يطرق أذني ويمنعني من النوم، لم أكن أعرف هذا الآخر الذي يرشق جفوني باليقظة والأرق، بقيت سهراناً، أمسك حبال الفجر ورداً ليتدلى ويقترب من هضابي وسفوحي، كنت متوتراً، مستفز الأعصاب، قلقاً دون سبب محدد، تقلبت مرات كثيرة على الميمنة والميسرة، على الظهر والبطن، لكن سلطان النوم لم يأت، قلت لأختي سأذهب إلى بيتنا، أريد مفتاح البيت، عندما لفظت اسم البيت أحسست بالرهبة والخوف، راح قلبي يخفق بين ضلوعي بسرعة، مشيت في الشارع المفتوح على نفسه، غارفاً الصمت، الشارع خال من المارة، منتظراً انقشاع الليل المتدحرج إلى الزوال والإنهاك، الحرارة لافحة تكاد تقطع أنفاسي، سرت في الشارع الذي لفني تحت عباءة جناحيه الواسعتين، وحضنني تحت قبة سراجه المضيء فيما مضى من الزمن، راح قلبي يأخذني إلى بيت حبيبتي، وقفت أنظر ملياً إلى الحيطان النائمة على الحيطان، إلى شحوب الصمت، كان قلبي يدق في صدري كإيقاع الأجراس القديمة، قلت، أنا غريب،، غريب، لا أحد يعرفني،، وأنا لا أعرف من أنا؟.

تابعت المشي على الأرض الإسفلتية الصلبة، مطأطأ الرأس، مستغرباً من قدرة الناس على دفن أصواتها في حنجرتها وصدرها وروحها، رحت أمشي شارداً، أراقب الطريق الأسود، مستعذباً قافلة الزمن التي أخذتني من جذوري ورحلتني إلى الغياب الطويل، لم أر الحبيبة! قنديل بيتهم كان غارقاً في العتمة، طأطأت رأسي مرة أخرى، مستسلماً، مشيت باتجاه بيتنا الكائن على الصفحة اليمنى من خد الخابور، تنهدت طويلاً، سرت في لجج الشوارع، أتنفس زغب الشمس النائمة وراء نبيذها الخمري المشرئب، أتدلى كناقوس مضجر في خمرة السكون، مسكون بالأسئلة النائحة النائمة وراء شح الصمت وأرقْ الكلمات، قامتي منكسرة ومنكسة، مخنوقة الصوت.
لاح بيتنا من بعيد، متألقاً بصمته وسط الأشجار، أحسست بالارتباك وضراوة اللهفة التي تأخذني إلى مزالق متعددة. لم يكن بمقدوري أن أبدد السكون المنتشر في كل مكان، اقتربت من المدخل، صعدت الدرج المضني، وقفت على المصطبة متهامساً مع نفسي على قدرة المكان على تهييج الخواطر ورفع نبرة الآهات الخارجة من الصدر، طوال القوت كنت حاملاً روحي بيدي.

فتحت الباب بهدوء ودخلت ببطء شديد، كنت خائفاً من نفسي، مستغرباً، متمهل المشية، مغموراً ومخموراً بشهق الأنفاس، مندفعاً بسيل من الاحاسيس المركبة تتداخل في نفسي كنار تلجّ في خنق خفقان قلبي، عيوني تتأمل الفراغ، تتأمل أغصان الماضي ووشوشاتها، أنظر إلى البيت، الحيطان والصمت في مهابة، ناثراً شحوبي وحزني على الألوان الغائبة، مشيت خطوة إلى الأمام ووقفت منكمشاً، متدفق الخلجات العارمة، أسراب من الأفكار الغريبة تدخل وتخرج من وإلى عقلي وفكري، غمامة من الوميض الغامض ينهض من بين الأوتار النائمة فوق فلوات الريح داخل داخلي، ينتشر على شكل شريط من الذكريات والحيرة، يغرقني لينتشلني ثم يحطني في القاع ليدفعني إلى مجريات مختلفة، غرقت في كومة من الضباب الكثيف، محمولاً على ثوب منثور في الهواء، كل شيء كان يخلد إلى الصمت، مرتدياً بحة موجعة ملتصقة في أنفاس الجدران وأنفاسي المتقطعة، رحت أشهق وأزفر بصعوبة، عائداً إلى الصور، هنا كان يجلس أبي، أمي، هناك أخي، أختي، هنا المدفأة وهناك الكرسي، الطاولة، ركوة القهوة، إبريق الشاي، رائحة الجدران تنطق بإيقاعات الفصول المتبدلة، تبددت تلك الحركة التي كانت تضج بالحياة والحيوية، أرى وجوه الجميع غائبة، غائمة في غابات الذكرى، دخلت غرفة النوم رأيت كل شيء مرتب ونظيف، رائحة أمي وخواتي وأخي جاءت كغيمة محملة بالأمطار الغزيرة فوق ترانيم المرايا العاكسة لوشوشات الألفة والمودة.
تمددت على السرير الذي رتبته لي والدتي قبل سفرها، صوري، عندما كنت شاباً معلقة على الجدران، كانت في كل ركن وزاوية، على السرير والحيطان، حاولت النوم مرة أخرى لكني لم أستطع، جلست على طرف السرير، فتحت النافذة المطلة على الجنينة الموردة، هبت رائحة طين طري معجون بالماء والهواء الطلق، شممت طراوته الممزوجة برائحة الأعشاب الملتصقة بقطرات الندى، الأشجار كبرت وعمرت، ظلالها معرشة على أطراف بيتنا وبيوت الجيران، كان التراب الحنون يصرخ بعذوبته ورقته، راسماً على صدره لون الماء المنهمر في قلب التراب والأرض، قلبي أخدود عميق متلهف لغرف منحوتات الزمن، أبحث عن معبر يدلني على إيقاف التبعثر في حواسي.
حاولت مرة أخرى أن أنام لكن لم استطع، تمددت على الفراش مرة بعد مرة، لكن عيوني بقيت سهرانة، دخلت غرفة الاستقبال والحمام، لقد غيرت والدتي كل حاجيات البيت، غرفة النوم، الفرش، الكراسي، النوافذ وورق الجدران، لم تقبل روحي ذلك الخلاء وذلك الصمت، تهزني ملامح أهلي وغيابهم.
نزلت إلى الشارع مرة أخرى وحيداً، ذهبت إلى بيت صديقي ضياء القريب من بيتنا، قرعت باب بيته لكن لا من مجيب، عدت إلى الرصيف المضني، أتدلى كعنقود حطب جاف، مشيت باتجاه نهر الخابور الذي لا يبعد عن بيتنا سوى مئتي متر، سرت في الشوارع الصامتة، أنظر إلى نفسي، إلى الأماكن التي احتضنت بوحي في غابات الوقت المندرسة، سار السكون والهدوء معي موزعاً فضائه على الجنبات، اقتربت من الجسر المنحني، أحسست بالحرارة العالية تلفح وجهي، مددت بصري لأرى الماء، الخابور، الزمن والطفولة والذكريات والفرح، رأيت ما لم يكن في الحسبان، رأيت أرضاً جافة لا حياة فيها، أرض منكسة الجدايل، حسناء ممزقة الوجه والأنفاس، متكورة، منتهكة الجسد، دمها يسيل على فخديها وساقيها، مرمية تحت نار الشمس الحارقة كجثة متحللة، ميتة تحت قلاع الموت والصمت المخنوق، أرض مضطجعة على نفسها ملفوظة الاحشاء والقلب، أخاديد الأرض منبهقة كالجراح المفتوحة، جسد الخابور ينام فوق الرمال والغبار، على ثغور الجهات الأربعة، قابعاً تحت رماد السنين الثقيلة، قلت بصوت متقطع حزين، رباه أين الخابور، أين الماء، أين الشجر والسمك، أين الجمال والبهاء، أين ذلك الخابور الساحر وألقه وتألقه في المساءات المفرحة، عند المشاوير أو تدويرة الصباحات الرائعة، أين ذهب هذا كله، كيف غرق الخابور ومات، وقفت مذهولاً أنظر إلى الخراب الساكن على طول حدود رؤيتي، قلت، كان الخابور طفلاً، شاباً يافعاً في عمر الصبا والورد، فتنة الوجود، ذرية من خلايا الكون مكنون في هذا السمت المكنون، أين راح، من قتله، من ذبحه، من فرغ حقده في قلبه، أين دفن، إلى أية بقعة من العالم سافرت جثته، أي يد غادرة هتكت عرضه وقلبه وروحه، أعلم أن يد المنون أخذته، ويد الغدرسوحت دمه حتى لا يعيش بين أحضان بلادي وأرضي، لماذا سكتت الناس؟ لماذا لم ينحب عليه أحد، لماذا لم يبكوه، لماذا لم يمشوا في جنازته؟ من هو القاتل؟ هل طعنه في خاصرته أم ظهره أم قلبه؟ أين بقايا جسده وروحه لأصلي عليه وأصرخ؟ تلفت حولي كثيراً لعل هناك خطأ ما أو ضيعت السبيل.
لم يكن هناك ماء على الأطلاق على طول المجرى، أرض جافة تماماً، كأنما لم يكن هذا النهر موجوداً في ضيافة الجزيرة في يوم الأيام، نزلت الدرجات التي تؤدي إلى أرضه، وقفت على ضفة الخابور التي كانت تضمنا، توقف بصري على الصمت والفراغ، أنظر إلى تباريح الأرض والماء، إلى الخريف الطاغي الذي يزرع أنفاسه في جذور الأرض، وقفت مشدوداً مدهوشاً للقوافل الراحلة. قلت، أين أنت يا عيد الحياة، يا رمز الصور الحلوة، يا باقة البقاء، كنت نجماً من السماء، نيزك مضيء من وهاد الكون، عشت كقامة عالية فوق أرض الجزيرة مئات الآلاف من السنين واليوم رحلت كأنك لم تكن، يا خابور، يا حبيبة، يا عرش السماء على الأرض، يا كوكباً فوق الكواكب، كنت عرافة الغيوم، سحابة من جمال، عرين الآلهة فوق قطرات الشفق، أين أنت، أين سأخبئ وجدي وحزني بعد اليوم، لمن أحكي وأشكي خيالات بحثي عن ملاذ أحتمي به، رحت أمشي داخل المجرى الجاف، أبكي بحرقة ومرارة، أقول، هنا كنا نسبح، هنا نلعب، هنا نركض ونغني ونرقص مع الصبايا قصائد الشوق للحنين، نبث لبعضنا سكرات أيامنا وليالينا، أين قلبك يا مهاجر؟ هل رحلت إلى كون آخر وربوع بلاد لم تلد؟ مسكت حفنة من ترابه وقلبه ورحت أحضنه وأشمه وأضعه تحت كبدي وقلبي، بكيت طويلاً، بكيت ونحت، حلقت كالبوم فوق شقوقه، وضعت يدي وزندي وساعدي في شقوق مجراه الغائرفي العمق لعلّ تبقى منه رائحة ماء، رطوبة أو سحابة عابرة أو ملامح حياة، لعل في قلبه بقايا نبض أو حركة.

كان الخابور تأريخاً ونبضاً ووجداناً، أين ذهب هذا الكائن الجميل، أين رحل، لماذا لم يودعني، لماذا لم يقل إنه مسافر أو مغادر أو راحل أو مريض أو مقبل على الموت.
آه على آه، لو تدري يا نهر الخابور مقدار حزني عليك وعلى نفسي، كانت ماؤك شرايين ينبض في خاصرتي وفؤادي، عندما كنت أحزن أو أتوجع أو تهجرني الحبيبة أعود إليك وأحضن ماءك وترابك وأتطهر بك لأنسى النسيان والهم الذي يلاحقني، كنت حبيباً وملاذا آمناً وقلباً يحمل الأسرار.

كانت أرض الخابور قلقة وكنت قلقاً، أنفاسي مضطربة، ضربات قلبي مثل الصاعقة في قلبي، لاح المجرى وادياً فارغاً، متعباً، منهكاً، عابساً غاصاً في الحزن، بقع الجفاف موزعة على شكل أشكال هندسية غير متناسقة، تفسح لضربات الجفاف بالتمدد على طول المكان، تحول حضنه إلى خربة خرابة يحمل في طياته لون الكآبة والضنى. صار مثل الذبيحة، أشجاره ميتة، زلّه وصفصافه رماد، أرضه تستنبئ الطوز والعجاج، رياحه رمال مدورة وجسده امرأة مغتصبة. لم أر طيراً أليفاً أو جارحاً في السماء أو على طول المدى، كأنها هاجرت أو ماتت هي الأخرى.
كنت واقفاً أوساجداً أو راكعاً أعيد رحى الذاكرة والذكرى إلى بصري في ذلك الامتداد الغامض للأرض الجافة، هبت سحابة من الحرارة اللاسعة على شكل موجات دافقة، محملة بالغبار الأحمر الداكن، رأيت نيرون يخرج من بين شقوق الأرض المتيبسة يزغرد ساخراً، قال:
فتكت بالخابور، شربت دمه ودموعه، عينيه وقلبه، شرايينه وأوردته، خلعت عنه الماء والرطوبة والمطر، رملت زوجته، سبيت بناته وقتلت أولاده، لم يبق لي إلا تصحير الأرض والسماء والتراب والروح ليحل الخراب في كل مكان، ثم أردف:
لدي الكثير لأعمله، سأزرع الملح في كل بقعة خضراء. وقال:
أما زلت تحلم بالنجوم والخير والحرية والجمال، ألم تشبع من الخيبات والهزائم، ها هو حلمك يخبو بين يديك، ويموت تحت أفق نظرك، ماذا ستفعل بعد اليوم، قلت:
لا أعرف، لكني سأبدأ من جديد.

*اديب سوري مقيم في السويد

( النص من رواية للكاتب بالاسم ذاته )

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *