موسى أبو رياش*
ثقافات- تفوق إبراهيم نصرالله على نفسه في رواية متكاملة لا شيَّة فيها، استوت لغوياً وفنياً وموضوعياً. تناولت فترة ضبابية من تاريخ فلسطين وما جاورها، من خلال سيرة شخصية وطنية مجهولة عند معظم الفلسطينيين، ناهيك عن العرب الآخرين، شخصية ظاهر العمر الزيداني، التي استحوذت على مساحة واسعة من الاهتمام في عصرها، ونالت احترام الجميع وتقديرهم رغم اختلافهم وصراعهم معها.
وعلى الرغم من أنَّ الرواية ليست تاريخاً توثيقياً، إلا إنَّها تستند إلى تاريخ مؤكد، وأحداث حقيقية، وجغرافيا معروفة، وبلدات ما زالت شاهدة على ذلك، وشخوص حقيقيين في معظمهم، بل إنَّ حكاية ظاهر العمر ما زالت مصدر فخر قومه واعتزازهم حتى اللحظة، كونه شخصية استثنائية، تمردت على الظلم والطغيان والاستبداد، الذي تمارسه سلطة غاشمة حكمت باسم الدولة العثمانية، واستعبدت الناس، وحولتهم إلى أقنان يعملون لها ومن أجلها. وهي شخصية تتقاطع مع شيخ العرب همام في صعيد مصر الذي حاول بناء دولة مستقلة في الجنوب، لا تخضع لعبودية وتبعية المماليك في الشمال، وذلك قبل ظهور ظاهر العمر، وأجهضت أحلام الاثنين جرَّاء خيانة المقربين منه، فمن مأمنه يُؤتى الحذر!
رواية “قناديل ملك الجليل” تصلح ميداناً خصباً لدراسات نقدية متعددة، من جوانب كثيرة، وبمستويات مختلفة. وستتناول هذه المقالة سمات الزعامة التي تمثلت في ظاهر العمر، وبرزت بشكل واضح ولافت في الرواية. هذه السمات التي ظهرت عليه منذ نعومة أظفاره، ولم تفارقه حتى لحظة مماته، طوال ستة وثمانين عاماً (1689م-1775م).
إنَّ السمة الأبرز لظاهر العمر تتبدى في الجانب الإنساني الذي وسم الرواية نفسها بهذا الطابع الذي فاض وشمل الإنسان والحيوان والأرض والبحر. فقد احترم وقدَّر الإنسان باعتباره إنساناً حراً لا عبداً، فرفض كل مظاهر العبودية، وبثَّ فيمن حوله قيم التحرر، وعدم القبول بالظلم والضيم، وإنْ كان المرء ضعيفاً، فقد وقف إلى جانب الضعفاء، وأكرمهم وناصرهم، ليعيشوا حياتهم كغيرهم من البشر. كما حرص على الوفاء لأهله وزوجاته وكل صاحب فضل عليه، فلم يهملهم مهما كانت الظروف، ويتحين الفرص للتواصل معهم، ومشاركة الآخرين أفراحهم ومناسباتهم. وكان يستميل من حوله بالهدايا؛ ليكسبهم إلى جانبه أو يكافئهم على أعمالهم وخدماتهم. وكان عجباً وفاؤه النادر للفرس البيضاء التي رضع من حليبها بعد وفاة أمه منذ ولادته، ورفضه حليب كل المرضعات، وبقي حريصاً على التواصل معها وإكرامها كأم حقيقية بادلته حباً بحب، وبكى عليها عندما ماتت كما يبكي الحبيب حبيبه. ومما يُلفت هذه العلاقة الوثيقة بين ظاهر والأرض التي يعيش عليها، وذلك عندما يمشي على الأرض حافياً ولمسافات طويلة أحياناً كنوع من التواصل السحري؛ يستمد منها العزم والثبات والقدرة على مواجهة الصعاب.
ونلمس في سيرة ظاهر العمر حرصه على قيم التسامح وتقبل الآخر والبعد عن التعصب، وظهر ذلك في علاقاته الطيبة مع جميع الطوائف والديانات والبلدان من مسيحيين ومتاولة وبدو وفرنسيين وروس وغيرهم ممن تعامل معهم. ولم يتردد في دعم بناء الكنائس وترميمها، واحترام مشاعر وطقوس المسيحيين، وتحالف مع المتاولة والبدو لتحقيق مشروعه الإنساني التحرري من الهيمنة والتبعية.
وحرص ظاهر العمر على إرساء قيم العدالة ورفض الظلم وإحقاق الحق حتى على المقريين منه، ومن ذلك محاسبة ابنه عثمان، ولم يقبل إلا بحكم الفتاة المظلومة التي صفحت عنه بعد أن أخذ نصيبه من العقاب. وكان يرفض أن يستغل أعوانه السلطة لتحقيق أي مآرب شخصية. ولم يتردد عن نصرة المظلوم ووقف الظالم عند حدة، ولو أدى إلى قتله مضطراً. ويحرص على أداء الواجبات قبل أخذ الحقوق.
ومن سمات الزعامة عند ظاهر العمر استشارته الثقات ومن يتوسم فيهم الخير، وخاصة أمه(مربيته) نجمة التي كان يرجع إليها في كل أموره. وكان حريصاً على توظيف أصحاب الكفاءات والتخصص كما فعل مع إبراهيم الصباغ الذي اتخذه وزيراً لقدراته المالية والاقتصادية الكبيرة، وأحمد الدنكزلي المغربي الذي عينه قائداً لجيشه لما شاهد شجاعته وفروسيته وقتاله الشرس، بعد أن كان أسيره وعدوه.
ويتبدى جلياً اهتمام ظاهر العمر بأسباب القوة والمنعة، فقد اتخذ من صديقه بشر معلماً له يعلمه فنون القتال والفروسية. واتصف بالشجاعة والجرأة دون تهور. واهتم ببث العيون في كل مكان لنقل أخبار الأعداء أينما كانوا، ووضع لهم نظاماً للاتصالات يكفل وصول المعلومة بسرعة. وكان لا يلجأ للقتال إلا إذا سُدَّت في وجهه سبل السلم والتفاهم “ما تستطيع الحصول عليه بالسِّلم، لا تخُضْ من أجله حرباً!”(489)،
يحرص على استمالة خصومه بالهدايا ليكف عنه وقومه شرهم وعدوانهم. وعمل على تحصين المدن، وتزويد جيشه بالأسلحة المتوفرة وتدريبهم وتنظيمهم، وفرض الأمن والأمان في البلدان التي تقع تحت سيطرته، ويتجلى ذلك في تلك الفتاة الجميلة التي أرسلها بعد أن ألبسها الحلي لتطوف بالجليل راجلة وحيدة، فلم يعترضها إلا اثنان الأول بسؤال: إلى أين تذهبين، والثاني سألها فأخبرته أن ظاهر العمر هو الذي أرسلها، فكان عقابهما الموت شنقاً بباب عكا، كي لا يفكر أحد أن يعكر صفو أو أمن غيره.
ومن سمات الزعامة أيضاً عند ظاهر العمر اهتمامه بالبنية التحتية لمنطقة حكمه، وتجفيف المستنقعات، والاهتمام بالزراعة وحث الناس عليها، وتأمين الطرق، وتوفير السلع للمواطنين، وكفالتهم أحياناً، وتنشيط التجارة، وبناء المدن.
وقد اتصف ظاهر العمر بمجموعة من الصفات الشخصية مثل الذكاء والفطنة والفراسة، والغيرة، والكرم، والتواضع، وثقته بنفسه، وعدم تصديق الخزعبلات والأوهام وتنبؤات القناديل والمشعوذين، فقد تنبأت له القناديل أن يكون أول اخوته موتاً، ولكنه مات آخرهم وعمَّرَ طويلاً.
الكمال لا يكون إلا لله وحده، ومقتل ظاهر العمر كان في الأساس بسبب مثالية زائدة، فلم يتخذ موقفاً حاسماً وقاطعاً ممن خانه من أولاده وناصر أعداءه عليه وخاصة علي وعثمان. وكذلك موقفه من خيانة أحد قادته أحمد الدنكزلي التي كانت محسوسة ومعروفة لديه، إلا إنه لم يتصرف إزاءه بأي شيء، وكانت نهايته على يده على الرغم أنه كان يتوقع ذلك.
سمات الزعامة كما تمثلت في ظاهر العمر، تكاد تكون مفقودة في قادة العصر، ولا وجود لزعامات حقيقية تُجمع عليها الشعوب، وإنما سلطات فرضت على شعوبها، ولم يكن لها رأي في اختيارها.
وبعد، فإنَّ “قناديل ملك الجليل” رواية تأسيسية رائدة، وملحمة تاريخية إنسانية، نجح إبراهيم نصرالله فيها في إيصال رسالته على الرغم من شح المصادر. وهي رواية تصلح لأن تكون فيلماً سينمائياً مدهشاً، أو مسلسلاً تاريخياً رائعاً، أو كليهما.