وليد سليمان*
( ثقافات )
-1-
عندما قدّم “يوهان غوتنبرغ” للإنسانية خدمته الجليلة المتمثلة في اختراع المطبعة، والتي ستساهم في وصول الكتاب بسهولة وبسعر زهيد إلى ملايين البشر، لا شك أن هذا الألماني الطيب لم يكن يدري أنه سيتسبب، باختراعه هذا، في ظهور مرض جميل يصعب الشفاء منه هو “البيبليوفيليا” (bibliophilia) أو “الحبّ المرضي للكتب”.
-2-
لا أدري إن كنت مصابا بـ”البيبليوفيليا”، لكن ما أعرفه هو أن شغفي بالكتب يعود إلى سنّ مبكرة، حيث اكتشفت لذة القراءة في السادسة من عمري، أي حالما صرت قادرا على فك رموز الكلمات. وفي سنّ المراهقة، تحوّل هذا الشغف إلى حبّ جارف وصل حدّ الهوس، وصرت أقرأ كل ما تقع عليه يدي إلى درجة أن والدي أصيب بالفزع أمام هذا الداء المستفحل فقرر منعي من القراءة خوفا من أن أضيع دراستي.
-3-
تحتوي اليوم مكتبتي على آلاف الكتب التّي تتكدّس في بيتي بلغات عديدة وفي كلّ مكان، حتى تحت سرير غرفة نومي. وهو ما جعل زوجتي تقول لي يوما بيأس: “لو واصلت شراء الكتب بهذه الوتيرة فسنجد أنفسنا يوما في الشارع.”
غير أنني لم أحاول يوما معرفة عدد الكتب التي أملكها بدقّة لأن لديّ اعتقاد غريب بأنني إذا ما حاولت إحصاءها فسوف أفقدها.
-4-
عندما اشتريت جهاز “آيباد” لاح لي بصيص أمل في أن أخفف الحمل قليلا عن مكتبتي، لكن سرعان ما تبيّن لي أنه أمل خادع. ذلك أنني قد أدركت مع الوقت أن الكتاب الالكتروني، بدلا من أن يعوّض الكتاب الورقي، كثيرا حرّضني على شراء نسخة ورقية من الكتاب نفسه. وهذا ما جعلني أشبّه الكتاب الإلكتروني بفاتح للشهية.
-5-
أعترف أنني أعشق رائحة الكتب، وملمس الورق، وفن تصميم أغلفة الكتب، لكنني أعترف في المقابل أن الكتاب الإلكتروني سهّل عليّ الحياة كثيرا، أنا الذي أسافرا بكثرة ولا أستطيع أن أحمل معي كلّ كتبي.
والواقع أنني لا اتفق مع أولئك الذين يقسّمون الكتاب باحتقار إلى فئتين: ورقي وإلكتروني. وأتعجّب من أولئك الذين يشيطنون الكتاب الإلكتروني، بدعوى أنه سيتسبب في اندثار الكتاب الورقي.
-6-
الكتاب، في اعتقادي، هو “المحتوى” وليس “الوعاء”. وفعل القراءة يمكن أن يتحقّق بسبل شتّى.
لنأخذ مثلا ملحمة “جلجامش” التي تعتبر من أقدم الآثار الأدبية التي بقيت شاهدة على عظمة العراق القديم: يمكن للإنسان أن يقرأ هذا العمل الأدبي على ورق البردي، أو في كتاب جلدي، أو في كتاب ورقي، أو في كتاب مسموع أو كتاب إلكتروني، إذ أن “الوعاء” أو “الحامل” لا يغير شيئا في إدراكنا للمحتوى.
وأعتقد أن ملحمة “جلجامش” التي كتبت في الأصل على “ألواح طينية” وصارت تقرأ اليوم في “ألواح إلكترونية” هي أفضل برهان على أن الكتاب يبقى كتابا، مهما كانت التقنية التي يقدّم بها إلى القارئ والتي من البديهي أن تختلف من عصر إلى آخر.
لذلك أنا أؤمن بالتعدد وبالتعايش بين مختلف الوسائل التي تمكّننا من القراءة. وقد يأتي يوم يتم فيه اختراع أداة جديدة تسمح لنا بالقراءة، فهل سيغير ذلك شيئا؟
-7-
إن عشقي للكتاب ينحدر جزئيا من عشقي للكلمات.
يذهلني ما للكلمات من قدرة لانهائية على توليد المعاني. وتفتنني الفكرة المتمثلة في أن عددا محدودا من المفردات يمكن أن يولّد عددا لامحدودا من الكتب.
-8-
ختاما، إذا كان لا بد من قول كلمة في حق “غوتنبرغ”، مخترع المطبعة، فإنني أقرّ بأنني واحد من ضحاياه، وواحد من ملايين القراء الشغوفين بالكتب في العالم الذين حلت عليهم لعنته الجميلة. غير أنني سعيد بهذه اللعنة لأنها تؤكد قناعتي بأن الكتاب لن ينقرض أبدا مادام هناك بشر يعشقون الكتب.
_____
*كاتب ومترجم من تونس