قصص قصيرة من مجموعة ( صحو )

(ثقافات)

قصص قصيرة من مجموعة ( صحو )

أميمة الناصر

 

دمية

فجأة رأى نفسه متصلبا أمامها.
لم تزحزحه الأكتاف والأيدي الكثيرة التي اصطدمت به وهي تمر سريعا من على رصيف السوق المزدحم.
لم يأبه لشيء.
ظل متصلبا أمامها، كانت تعطيه جهة من وجهها، وكان شعرها القصير المنسدل يغطي جبهتها وجزءا من وجهها، وكانت لها أصابع مترفة.
أصوات الباعة حوله لم توقظه من غفوته، والكثير من الأرجل داست قدميه المثبتتين على أرض الرصيف.
حين حانت منه إلتفافة إلى قميصه شعر بالخجل، كان باهتا ولا يتناسب مع بنطاله الباهت هو الآخر.
نظر إليها كمن يعتذر.
– تحرك يا رجل، انت تعطل المارة.
أيقظه الصراخ من وقفته الأبدية. حرك رجليه بصعوبة، كان فستانها يعصر قلبه ويرميه نحو هاوية سحيقة، باذخا كان كأنه قطعة من حلم منسي.
– تحرك!
حرّك رجليه خطوتين، وكان يخشى إن جاء غدا أن يبدلوا لها الفستان. كان يريدها بذات الثوب، دمية العرض الواقفة أبدا على و اجهة المحل.

شرفة

حملت المرأة الشابة سلة غسيلها بتثاقل الى الشرفة، نشفت يديها المبتلتين بأٍسفل ثوبها المهترئ، عدّّّلت منديل رأسها مخبأة بعض الخصلات التي تناثرت بنزق على عينيها، كان الجو خريفيا مهيأ لزخات من المطر.
أمسكت أولى قطع غسيلها، نفضتها جيدا قبل أن تنشرها، توالت القطع بين يديها، وكادت الحبال أن تمتلئ قبل أن تبدأ زخات من المطر بالهطول.
المرأة الشابة المنهمكة، توقفت فجأة عن نشر غسيلها.
كان الأفق أمامها ممتدا وكان المطر بكرا وعذبا وذا نكهة خاصة.
أدهشها المطر المنهمر من دون وعي.
بدت فرحة، شقاوة منسية طلت برأسها من أعماقها.
في الداخل وحين وقفت أمام المرآة بدت امرأة مختلفة بالثوب الوردي وتسريحة الشعر الأنيقة والمطر المنهمر غزيرا في أعماقها.

المدينة الكبيرة

حملت حقيبتي الصغيرة. أشياء قليلة رميتها فيها؛ بعض الثياب، فرشاة أسنان، مسجلة صغيرة، العديد من الأقلام، وبعض ألواح من الشوكلاتة.
في الحقيقة لم أكن أعرف ماذا أحتاج.
اتجهت مباشرة الى الشارع الرئيس. سيارات كثيرة تمر في الاتجاهين. الوقت ما يزال مبكرا: الحادية عشرة صباحا. وفي الواقع لا أدري كم سأحتاج من الوقت كي أصل.
أشرت الى سيارات أجرة، لم تقف أيا منها رغم خلوها من الراكبين.
– لا بأس، الجو جميل، التأخر قليلا لن يعني شيئا.
مرة أخرى أشّرت إلى سيارة أجرة قادمة. وقف السائق في محاذاتي تماما ونظر اليّ مباشرة.
– لو سمحت، أريد الذهاب إلى المدينة الكبيرة.
بسرعة جاء الرد صادما: أنا لا أعرفها.
وانطلقت السيارة بأقصى سرعتها.
– لا بأس
بدأ الناس يتوافدون، كلهم يريدون الذهاب إلى المدينة الكبيرة. السيارات تقف ثم تمضي مسرعة من دون أن تحمل أيا من الركاب المنتظرين على الأرصفة.
لم أتذمر. الحق أن ليس لدي رغبة في الذهاب، لكن يجب أن أذهب، كنت مرغما تماما على الذهاب.
امتلأت الأرصفة بالناس الذين يريدون الذهاب، طال انتظارهم ولم يبدُ على أحدهم التذمر، كأنهم سعداء أن السيارات لا تقف لهم كي تحملهم إلى مبتغاهم.
أخيرا وقفت إحدى السيارات..
كان السائق متعبا وزائغ العينين. نظر اليّ بحزن وقال: هل تريد المدينة الكبيرة.
قلت أجل وأنا أدس بجسدي سريعا مع اثنين آخرين صعدا قبلي.
***
في المدينة الكبيرة كان ثمة أناس كثيرون، وحقائب مبعثرة، وحيرة عظيمة لم ينجُ منها إلا القليلون.

حلوى

كانوا خمسة، وكان سادسهم.
في المساءات المترهلة وقرب منتصف الليل كانوا يجيئون. ينسلون من بيوتهم تاركين فوق الوسائد ومقابض الأبواب وزجاج الساعات المشروخ، دبق نهار ممل.
كانوا خمسة.
عيون سوداء وأحذية مطفأة، نقود قليلة توزع على شرابهم وأكياسهم الصغيرة يأتي بها أحدهم من بقالة صغيرة تقع في آخر الحي.
وكان سادسهم شابا وسيما، منذ عامين بلغ العشرين، شيء في العينين الحائرتين يجذبك إليه، لكنك لا تلبث أن تتراجع إلى الوراء حين يبتسم لك. عندئذ فقط تدرك أنه ابن عامين ليس إلا.
في الليالي الصيفية الطويلة، كان يفترش الرصيف، بتلعثم واضح كان يعد المارة، أحيانا كان يغني وغالبا ما يلوذ بدكان قريب كلما تعرض له أحدهم بسخرية لزجة.
بكروا الليلة بالحضور.
خمسة رجال ومزاج سيء للعب الورق، استعاضوا عنه بالمشروب، ثرثروا كثيرا وحين بدأ الملل يأخذ شكل النعاس، انتظروا أحدهم أن يطلق تلك الجملة التي لا بد أن تقال حين يجتمعون:
– من يأتي به؟
– دور من؟
وكما أن السهرة ستبدأ من جديد، دبت في الأوصال حماسة ملعونة، خطوات سريعة نحو الباب لم تترك لصاحبها أن يقول “أنا” فيما البقية أخذهم ضحك مجنون وهم يتذكرون.
كطفل مدلل كان يقضم حلواه المفضلة. اشتراها بعد أن ألقى له أحدهم بعشرة قروش. بدا سعيدا، ظهر ذلك جليا بابتسامته العريضة وهزة رأسه بدلال ذات اليمين وذات الشمال.
– تعال
خفق قلبه للصوت الهامس، وحين تبينه ببلاهة، نهض سريعا، فرحا بما ينتظره من حلوى وضحك ولعب.
ما أن ولج بابهم حتى صفقوا له. اتسعت ابتسامته، أجلسوه وسطهم، رمى له أحدهم بحبة فستق، مشى على أربع خلفها.
كانوا خمسة وكان سادسهم
” عو” ابتسم ببلاهته المعهودة، ثم علا عواؤه. ضحكوا، ثم رمى له الخمسة بحبات الفستق والشوكولا. أكل فرحا وكاد يغص.
” ما رأيكم بلعبة جديدة ” قال أحدهم ولم ينتظر جوابا.
أحضر حبلا، صنع منه ما يشبه المشنقة وربطه جيدا بحديد النافذة من أعلاها واضعا أسفلها طاولة صغيرة.
– “اصعد”.
تردد قليلا ونظر بطفولية إلى الوجوه الخمسة ذات الإبتسامات الساخرة. شجعه أحدهم بأن مد أمام ناظريه قطعة كبيرة من الحلوى.
صعد
– “ضع الحبل حول رقبتك ”
لم يتردد، وضعه.
همس صوت ” يكفي هذا يا جماعة ”
ضحكوا..”مزح يا زلمة”.. “اشرب”.
– “اقفز ”
رفع كتفه الأيمن. صاحب قطعة الحلوى هزّ بها أمام ناظريه مرة أخرى.
ابتسم ببلاهة ونظر إلى الأرض كمن يقيس المسافة.
– “يلا.. يلا “.. هتفوا
رمى أحدهم بكأسه الفارغة. صوت الزجاج المحطم أخافه.
فاضت ابتسامته، أغمض عينيه وكطفل صغير عد واحد.. اثنا ن.. ثم قفز
ضج المكان بضحكات باهتة “حمار.. عملها”
كانت العينان الطفوليتان الجاحظتان مصوبتين تماما نحو اليد الممدودة بقطعة الحلوى.

 

* كاتبة من الأردن

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *