مهند النابلسي
يتحدث هذا الفيلم الغريب عن امرأة شابة تتعرض لحادث سير مروع يضعها ما بين الحياة والموت ، وحيث يقوم مدير الجنازات الذي يملك موهبة التخابر مع الميتين حديثا ، وربما قصدا بدفنها وهي ما زالت حية !
في مساء رومانسي تلقى أنا صديقها الحميم باول لعشاء فاخر ، وحيث يفاجئها برغبته للانتقال لشيجاغو بهدف الترقية الوظيفية ، وبينما كان يقصد أن ينتقلا معا ، شعرت هي بأنه سيتركها ويذهب وحيدا ، لذا تغادر المطعم غاضبة ، وفيما تحاول السواقة في جو ماطر ساعية لاستخدام هاتفها الخلوي وارسال رسالة له ، تتعرض لحادث سير مروع وتصطدم مع ‘فان بيضاء’ ! تفيق أنا مرعوبة ومرتبكة وهي ممدة على أريكة الموتى في بيت الجنازات ، كما تشاهد أليوت ينظف لها جروحها ببرود ، مخبرا اياها انها قد أصبحت ميتة ، وانه يقوم بتجهيز جثمانها للجنازة ، مبررا لها شعورها بالحياة بأنه مجرد شعور وقتي عابر ، وبأن معظم الموتى ‘الجدد’ يدعون موهومين بأنهم أحياء ، وان ‘ التنفس والتغوط والتبول ‘ ليس مؤشرا حقيقيا للحياة ! وحتى يبرر لها الحالة التي تمر بها فهو يخبرها بهدؤ حرفي بأنه يتمتع أساسا بموهبة نادرة تتلخص في قدرته على مساعدة الموتى الجدد للانتقال بسلام للعالم الآخر ، محاولا اقناعهم بتقبل موتهم ، وحيث نرى في بيت الجنازات خاصته مجموعة كبيرة من صور الجثث التي صورت فورا عقب وفاتهم ! كما يبدو وكأنه ساعدهم جميعا لتجاوز هذا الوضع الصعب ، متحدثا معهم وكأنه مشوش نفسيا وذهنيا . ترفض أنا فكرة موتها باستمرار مما يدعوه لحقنها بمادة كيماوية مركزة تساعد على استرخاء العضلات .
ويسعى باول حبيبها (الحزين والمنكوب بفقدانها ) لأن يشاهدها للمرة الأخيرة في المشرحة ، ولكن أليوت يرفض تماما بحجة أنه ليس من أفراد عائلتها ، مما يدعو باول للاستعانة بالشرطة . كما تحاول أنا الهروب دون جدوى ، محاولة الاتصال بباول بواسطة الخلوي ، ولكن الأخير لا يسمعها بوضوح ! وتتساءل : هل تذهب حقا للموت السرمدي وتتقبل ذلك أم تكافح بعناد مستغلة رمق الحياة وبقايا الأنفاس ، ولكنها تتقبل أخيرا فكرة موتها ، وذلك عندما يسمح لها أليوت بالنظر لصورتها بالمرآة حيث تبدو فعلا كجثة حقيقية ! وتكمن هنا المفارقة في انها تركت اثرا ضبابيا لأنفاسها على سطح المرآة ، مما يضطر اليوت الخبيث لأن يمحوها بسرعة قبل اكتشافها للأمر ! كما يلاحظ اليوت أن الطفل جاك ذو الأحد عشر عاما ، وهو طالب متعلق بمعلمته أنا في المدرسة ، قد شاهد من الشارع أنا وهي واقفة أمام النافذة تتأمل نفسها بالمرآة ، وعندما يخبر الفتى جاك باول بما شاهد يغضب هذا الأخير ويضربه ! وحيث يكتشف الفتى من اليوت فيما بعد أنه يملك مثله موهبة ‘ التخابر مع الموتى ‘! ثم وللمرة الأخيرة تطلب أنا من اليوت أن يسمح لها بأن ترى نفسها بالمرآة ، وحينئذ اذن تفاجىء برؤيتها لأنفاسها وقد تكثفت على سطح المرآة ، وبأن اليوت كان يكذب عليها ! ويستعجل اليوت حينئذ الأحداث فيحقنها بمادة كيماوية مركزة (هيدرونيوم بروميد ) ، وهي مادة خطرة تؤدي لحدوث موت مؤقت : كم هي حقا مرهقة وحزينة ومحبطة ! وكم أن العودة للحياة قد تكون مخيفة مثل الموت ؟ وفي لقطة مجازية معبرة يقوم الفتى جاك بدفن كتكوت صغير مريض حيا ، وذلك لتخليصه من عذاب المرض والعيش بلا حياة حقيقية !
بعد الدفن يشرب باول بادمان ويأس مخبرا اليوت بانه يعلم بأن أنا لم تكن ميتة تماما ! كما يبدو أن أنا قد استفاقت على اصوات انهيار التراب على تابوتها ، وبدات تصرخ مستغيثة ومستعينة بأظافرها في سعي هستيري للخروج من التابوت ، جارحة أصابعها….ولكنها تموت بالفعل تدريجيا من الاختناق ، ثم يقترح اليوت لباول بأن يذهب شخصيا للمقبرة للتأكد من دفن حبيبته قبل فوات الأوان ! وبالفعل يسارع باول للذهاب ويسوق مخمورا ، ونراه قيما بعد وقد تعرض لنفس مصير أنا والدماء تسيل منه ، ويحيط به اليوت بأجهزته ، مخبرا اياه بأنه لم يتمكن من رؤية أنا او انقاذها لأنه تعرض بدوره لحادث سير مروع أثناء ذهابه للمقبرة ، ثم يعود لتذكيره بأنه قد مات واصبح مجرد جثة وأنه بصدد اعدادها للجنازة ، رافضا بلؤم صراخ باول بأنه ما زال حيا ، وفي حركة اجرامية مقصودة يدخل انبوب طبي خاص داخل صدر باول ( ومع حضور لافت للفتى جاك كشاهد عيان ) وذلك لانهاء حياته نهائيا !
يبدو اليوت كشخص بارد وهاديء ظاهريا ، ولكنه في حقيقة الأمر مختل نوعا ما وغير متوازن نفسيا وشخصية سيكوباتية معقدة ، ويكاد يتحول لشخصية اجرامية عندما يسعى للتخلص من بعض ضحاياه ليقوم بتصويرهم بشغف وتعليق صورهم ، وكانه من هواة جمع الطوابع البريدية النادرة ! وكأنه لا يريد لهم ان يعودوا ثانية للحياة ان كانوا ما زالوا يمتلكون بعض الرمق ، ويبدو وكأنه يستمتع بعقدة ملكيته ‘لأجسادهم ووجوههم الميتة’ ، ويظهر مرعوبا أكثر منهم من فكرة امكانية عودتهم للحياة مجددا !
ثلاث اطروحات لافتة :
بعيدا عن فنتازيا الطرح السينمائي الدرامي المثير ، فقد لفت نظري ثلاث اطروحات هامة تستحق ربما التامل والمتابعة العملية : أولهما يتعلق بموهبة الاتصال بالموتى ، فهل توجد حقا خاصية روحانية مماثلة أم مجرد محض خيال سينمائي ؟ وان كانت توجد حقا ، فكيف يمكن الاستفادة من خاصية نادرة كهذه ، والتي يمكن في ظروف معينة أن تنقلب للعنة ( كما لاحظنا في حالة بطل الفيلم اليوت !) ، كما يمكن تخيل مدى الاستفادة العملية من هذه الموهبة الروحانية بالكشف عن أسرار الموتى الخفية وخاصة في الحالات الجنائية . أما الطرح الثاني اللافت في هذا الفيلم الغريب ، فيكمن في تناوله الغير مسبوق لثيمتي الموت الظاهري والدفن حيا ، حيث تظهر لنا الفتاة المسكينة أنها كانت ما زالت تتنفس مما يدل على وجود رمق حياة فيها ، ولكن اليوت ولأسباب سيكلوجية غامضة وشريرة يتجاهل ذلك ويصر على انها ميتة ويجهزها للدفن النهائي ، حاقنا اياها بمحلول ‘ بروميد الهيدرونيوم ‘ لاحداث موت مؤقت ، وهنا يظهر الطرح الثالث عن مدى سهولة الحصول على هذه المادة الخطرة ومدى انتشارها عالميا ، والتي قد تسمح بارتكاب جرائم مريعة تمهد لدفن الأشخاص وهم ما زالوا بعد احياء بغرض الخلاص منهم ، وبلا أدنى مساءلة قانونية ! وربما لا ابالغ هنا ان قلت ان هناك نسبة من ضحايا ما يسمى ‘ ربيع الثورات العربي ‘ أو ما اسميه مجازا : ‘بازار القتل والتنكيل العربي الكبير’ ، قد دفنوا أحياء ربما بقصد او بدون قصد !
فرادة الشريط : رعب سيكلوجي هادىء
تكمن فرادة هذا الفيلم بكونه لا يستخدم تقنيات وأدوات الرعب والتشويق المعهودة ، كما تكمن في تناوله الهادىء المبسط للموضوع ، حتى نكاد نقتنع بصحة الأحداث الغريبة ، وبكونه مثير حقا للجدل حتى أنه يدعونا للتساؤل عن مصداقية بعض التقارير الطبية ( السطحية ) التي تشرح وتبرر أسباب الوفيات في حالات الحوادث المرورية المروعة تحديدا ، وفيما اذا كان العديد من الضحايا المساكين قد دفنوا ربما احياء ، ولم تتاكد بعد وفاتهم الحقيقية ، بمراعاة أن الاسلام يحث على الاسراع بدفن الموتى !
ممثلون بارعون ومخرجة ‘غير مشهورة ‘ !
أبدع الممثل الايرلندي ليام نيلسون في تقمص دور مدير الجنازات ، وأدى الدور ببرود مهني لافت بلا انفعال وعصبية وتوتر ، كما تفوقت الممثلة الجميلة البارعة كرستينا ريسي باداءها لدور ‘ الميت-الحي ‘، وعكس وجهها الفائق التعبير سحنة الأموات في المرحلة الأخيرة ، وأعطت بعدا جديدا للشخصية ، بعيدا عن الانفعال الزائد والرعب المصطنع ، كما عكس اللون الأحمر المتمثل في الجروح وصبغة الشعر وأحمر الشفاه مدلولات مجازية لأجواء العنف الصامت والموت العبثي القادم ، كما لعب جوستن لونغ دور الحبيب النادم بحسرة وحزن ولوعة ، وكأنه يستبصر مصيره المرعب القريب ، ونجحت مخرجة مبدعة شابة (بولونية الأصل) غير مشهورة اسمها ‘ اجنسكا وجفتيك- فوسلو ‘ في اخراج فيلم رعب درامي شيق ، برؤيا غير مسبوقة وبلا حذلقة وتصنع . تقول المخرجة أن فكرة الفيلم بدات كهاجس قوي استحوذ على تفكيرها ، وخاصة لقطة الاستهلال التي تصدرت أفيشة الفيلم ! وتستطرد قائلة أنها كانت دائما متاثرة ومرعوبة من فكرة الموت ، وخاصة انها فقدت والدها في العاشرة من عمرها ، وكانت دائما تتساءل : ماذا يحدث لنا بعد الموت ؟! وقد استغرق اعداد هذا الشريط ثلاث سنوات ، وتقول انها بغرض الانغماس كليا في روح وثيمة العمل ، فقد زارت معظم معارض الجثث في نيويورك حتى وصلت لزيارة مشرحة كبرى في لوس انجلوس ، حيث شاهدت 800 جثة موزعة في الغرف المبردة !
* كاتب من الاردن