شاكر حسن آل سعيد: استدراج اللامرئي لجدار “البعد الواحد”
غسان مفاضلة
لم يحدث في تاريخ الفن العربي الحديث، منذ بواكيره الأولى قبل نحو مائة عام، أن حظيت تجربة تشكيليّة بذلك الطيف الواسع والمتنوّع من القراءات النقديّة والتأويلات المعطوفة عليها، بمثل ما حظيت به تجربة أحد رواده ومُنظّريه الأوائل الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد (1925- 2004)، مُبتدع اتجاه “البعد الواحد” الذي حقّق معه بداية سبعينيّات القرن الماضي “انقلابًا ناعمًا” على تنميطات التعبير التي ظلّت تستند في مشهدها العربي على مَسْند “لوحة الحامل” بمرجعيّاتها الغربيّة/ الثقافيّة والجماليّة.
قيّض لي، في بداية تسعينيّات القرن الماضي، أن أكون على مقربةٍ من الفنان، حينما كان مستشارًا لمؤسسة عبد الحميد شومان في عمّان. وهو ما أتاح لي إطلالةً عن قرب، على شخصيّته ومسارات تجربته وتحوّلاتها الفكريّة والفنيّة. اليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقودٍ على تلك الإطلالة، وبعد مرور مائة عامٍ على ميلاد الفنان الذي اقترنت بداياته مع “جماعة بغداد للفن الحديث” بوصفه أحد أبرز مؤسسيها وكاتب بيانها التأسيسي في عام 1951؛ أتوقف، مجددًا، على مسارات تلك التجربة بالتوازي مع مقارباتها الجماليّة والتعبيريّة، وبالتساوق مع آفاقها الفكريّة والتأمليّة. وهو ما تتيحه إمكانيّة الانفتاح على “الأثر” الفني في مُنجزه، والتعامل معه بوصفه أثرًا تراكميًّا، ومدخلًا عيانيًّا لتتبّع “صيرورة المرئي” والوقوف على تحوّلاته ومآلاته التي ظلّت عند شاكر حسن، محطّ إشكالٍ وتأويل.
اختراق السلطة الرمزيّة للشكل
تبعًا لذلك المحطّ، وعلى الأخصّ، في جانبه التأويلي المتأتي من “تعيّنات الأثر” بمرجعيّاته الواقعيّة والتخيّليّة، سواء أشارت إلى ما يمكث في المكان، أم دلّت على حركة الصيرورة الإبداعيّة عند نشأتها وتشكّلها؛ يمكننا النظر إلى المُنجز البصري الذي راكمه هذا الفنان طوال مسيرته الفنيّة على مدار أكثر من نصف قرن، باعتباره خُلاصةً من خُلاصات تعيّنات الأثر وترسّباته التمثيليّة والتجريديّة. وهي الخُلاصة التي تتيح لنا، مع اختزال الأبعاد التي روّبها الفنان بنزعته التأمليّة على جدار “البعد الواحد”، تتبّع تعيّنات الأثر وفق التحوّلات التي شهدتها تجربته على مستوى السياق والرؤية والتعبير معًا. في مسار ذلك السياق، وفي خضمّ تحوّلاته، جاءت انعطافة شاكر حسن الوئيدة بين التمثيل والتجريد، لتجعل من اختزال المرئيات على جدار “البعد الواحد” علامةً “أثاريةً” دالةً على ذاتها ومنفتحةً على ما هو “مغلق” وراء ظاهرها المرئي. لم تكن خلاصاته الأخيرة مع التنافذ بين “المرئي واللامرئي” سوى الباب الموارب لاختراق السلطة الرمزيّة للشكل من خلال تطويعه وتحويره، وفي حالات التجريد القصوى، نفيه، من على سطح التصوير والتعبير. وهو ما حملته أعماله في العقدين الأخيرين من مسيرته الفنيّة، حين راح يُحْدِث فجواته وفراغاته الحقيقيّة على سطح التصوير الذي صار مع “البعد الواحد” سطحًا “مزدوجًا” لتنافذ الأبعاد وتذويبها على سطح الاختزال والتجريد.
ظلّ شاكر حسن طوال مسيرته الفنيّة، مسكونًا بتشييد بنيان لوحته من “تراكمات الأثر” التي جعلت من المرئي وتحوّلاته، إشارةً وعلامةً من علامات التنافذ المتكافئ بين الزمان والمكان. وهو “التنافذ” الذي خلص معه الفنان بنزعته التأمليّة، إلى اعتبار أن جوهر العمل الفني لا ينبع سوى من كونه “أثرًا على ذاته” وذلك بعد أن كان قبل “بيانه التأملي” أواسط ستينيّات القرن الماضي، ينبع من كونه “أثرًا على أثر” في محيطه التصويري.
لم يكن تحوّل شاكر حسن في التعامل مع مفهوم الأثر على سطح التصوير، مجرد خيارٍ مزاجي، أو “ترفٍ جماليّ” بقدر ما كان نتيجةً للسياق التراكمي الذي أفضى به بعد “بيانه التأملي” إلى عتبات التقشّف والاختزال. وهي العتبات التي وشّحها بتأملاته الصوفية مع “البعد الواحد” الذي صار معه العمل الفني “أثرًا على ذاته” بعد أن كان في تعالقاته مع الحياة والواقع والموروث “أثرًا على أثر”.
التفاني بين المحتوى والشكل
في أحواله وتحوّلاته جميعها، لم يخرج عمل شاكر حسن مع “البعد الواحد” عن كونه أثرًا مفتوحًا على كتابة زمانه من مكانه، وكتابة ذاته من موضوعه. وهي كتابةٌ ذات نسقٍ اختزاليٍّ ظلّت تنشد لديه، إحكام معنى “التفاني” بين المحتوى والشكل، وبين المرئي واللامرئي. وهو التفاني الذي سحب معه الفنان في أوج ذروته التأمليّة، مسارات “العياني” و”التأملي” معًا، إلى نزعةٍ صوفيّة استحال معها سطح التصوير إلى مصهرةٍ لتذويب المسافة بين “الرؤية والتعبير” وبين التمثيل والتجريد. (التمثيل ليس بوصفه نقيضًا للتجريد، وإنما باعتباره مقاربةً شكليّةً/ آنيّةً لمرئيات العالم وموجوداته، خاصةً تلك المرئيات المعطاة بصيغةٍ تجريديّةٍ في محيطها الواقعي، كما هي الحال مع تمثّلات الفنان ومقارباته لسطوح الجدران بشقوقها وتصدعاتها وتآكلاتها، والتي استعار منها تكثيف علاماته مع “البعد الواحد” واختزالها على سطحٍ تصويريٍّ ذي بعدين).
لم تكن “محاولات” شاكر حسن في تذويب المسافة بين “التجربة والرؤية” ومحاولة الوصول معها إلى “الدرجة الصفر” بين الرؤية والتعبير، وتقليص المسافة إلى أقصى درجةٍ ممكنةٍ بين التمثيل والتجريد؛ سوى توطئته الناعمة للتخلي عن كل ما يعيق الانفتاح على جوهر المرئي، بوصفه انفتاح “الأثر على ذاته”. صار انفتاحه على المرئي مع “البعد الواحد” انفتاحًا على أفقٍ منذورٍ للتأمل والاختزال، ومساحةً مفتوحةً على ارتسامات الأثر وإحالاته وتأويلاته العابرة للأبعاد.
اكتشف شاكر حسن مع تطلّعه إلى تحقيق “مسافته الصفريّة” بين الرؤية والتعبير، طريقته المركّبة في استدراج “لامرئيات” العالم إلى سطح جداره الأثير مع “البعد الواحد” والذي صار سطحًا للتأمل والإحالة والتمثيل. ومن على سطح الجدار ذاته، سوف يجد شاكر حسن نفسه، ومع نزعته التأمليّة/ الصوفيّة، أمام إشكاليّة إعادة ترسيم العلاقة بين “المرئي واللامرئي” والتي لم تكن ممكنة بالنسبة له، سوى بإسنادها إلى مرجعٍ غير مرئي، ممثلًا بـ”الخالق” مرجع الفنان وعمله الفني و”الوجود الخليقي” برمته. لم يكن بمقدور منجزه الفني لوحده، أن يسوّغ ما حملته تلك “الإشكاليّة” من “تناقضٍ” راشحٍ من إشكاليّة العلاقة بين المرئي واللامرئي، وبين المكان والزمان، وفي جانبها الأكثر “تركيبًا” من إشكاليّة العلاقة بين الحضور والغياب، والتعبير عنها على سطحٍ منذورٍ للتأمل والاختزال؛ فما كان من الفنان سوى أن يجعل من منجزه النظري الذي بدأه مبكرًا، مُنجزًا موازيًا لمنجزه الفني، والذي سخّره لإسناد مرجعيات عمله، وآفاق تلقيه ومقروئيته.
ولعلّ أكثر ما يشير إلى إدراك الفنان لجوهر ذلك “التناقض المتكامل” بحسب تعبيره، هو ما جاء في تقديمه لمعرضه الاستعادي الكبير عام 1996، والذي غطّى مراحله الفنيّة على مدار أكثر من أربعة عقود “من التشخيصية إلى الانطباعية إلى التجريدية” والذي عنونه بـ”لامقروئية النص في رسوماتي”، والذي أشار صراحةً إلى “تفهمه لسوء تلقي عمله الفني من قِبَل مشاهديه”، كما أشار إلى رضاه عن “لامقروئيّة” أعماله ودراساته وتأملاته.
البدايات والتحوّلات
تتبّع سياقات التحوّل التي مرّت بها أعمال شاكر حسن، لجهة الرؤية والأسلوب، في مرحلتيه الآنفتين (مرحلة الأعمال التي سبقت منظور “البعد الواحد” ومرحلة الأعمال التي جاءت ضمن ذلك المنظور الذي ابتدعه الفنان لنفسه)؛ يتيح الوقوف على جوهر ذلك التحوّل، والذي صار معه سطح لوحته، خاصةً، مع “البعد الواحد” سطحًا مفتوحًا لاستدراج “اللامرئي” إلى مكامن امتصاص فائض السرد من التشخيص والتمثيل، وإدراجه في سياقات الاختزال والتجريد. وهو ما درج عليه الفنان منذ تأسيسه “تجمّع البعد الواحد” في عام 1971، والذي سعى إلى إشاعته على نطاقٍ واسعٍ مع العديد من الفنانين العراقيين، منهم: جميل حمودي، محمد غني حكمت، ضياء العزّاوي ورافع الناصري. وهو التجمّع الذي لم يُعمّر طويلًا، بسبب التباينات التي أفضت إليها، لاحقًا، التوجهات الفنيّة لمؤسسيه.
بدأت آفاق شاكر حسن الفنيّة والثقافيّة بالتشكّل في خِضمّ محيطها الاجتماعي والثقافي والسياسي، مع بواكيره الأولى حين التحق وهو في الثالثة والعشرين من عمره بـ”معهد الفنون الجميلة” في عام 1948 ببغداد، وكان حينها مزاولًا لتدريس العلوم الاجتماعيّة في دار المعلمين ببغداد. ومع تعرّفه عن قرب، آنذاك، على صاحب “نُصب الحريّة” الفنان جواد سليم (1919- 1961) الذي كان من أبرز مؤسسي المعهد وأساتذته الألمعيين، وصداقته الوثيقة مع الناقد والروائي جبرا إبراهيم جبرا، والشاعر بلند الحيدري، وارتياده المتواصل لـ”مقهى ياسين” البغدادي الشهير بصخبه الثقافي والسياسي، والذي واكبه شاكر حسن برفقة الشعراء عبد الوهاب البياتي، وحسين مردان، وبدر شاكر السيّاب؛ أخذت تتبلور لديه، ضمن ذلك المناخ، فكرة تحمّل مسؤولية التعبير الحديث في الفن التشكيلي العراقي، من خلال رؤيةٍ جماليّةٍ جديدةٍ تُحاكي ما تحقّق، حينها، في الشعر العراقي الحديث (إذ كنت أجد في محاولات الحيدري والبياتي والسياب، بدايةً لرؤيةٍ جديدةٍ في الشعر العربي. وسرعان ما جعلت الفكرة تختمر لدي لمفاتحة جواد سليم في أمر تأسيس جماعةٍ فنيّةٍ جديدة، فكانت ولادة “جماعة بغداد للفن الحديث”).
مع تلك “الجماعة” التي أسسها في عام 1951 فنانون من رواد التشكيل العراقي الحديث، من أبرزهم جواد سليم، وفائق حسن، وجبرا إبراهيم جبرا، ومحمد الحسني، إضافةً إلى شاكر حسن، والتي انصبّ جلّ اهتمامها على تأكيد أهمية موروثها الحضاري والتراثي في نطاقه المحلي وضمن مناخات الفن الحديث؛ بدأت الرموز والإشارات والموروثات الشعبيّة المستوحاة من عمقها الحضاري والثقافي، تأخذ مساحتها الواسعة على سطح لوحة شاكر حسن طوال خمسينيّات القرن الماضي وأواسط ستينيّاته، لتستحيل لاحقًا مع “بيانه التأملي” في عام 1966، ومن ثم مع “البعد الواحد” في عام 1971، إلى علاماتٍ “أثاريّةٍ” راشحةٍ من اختزال الأبعاد على سطحٍ تصويريٍّ ببعدين ماثلين.
لم تكن موضوعات الحياة العامة في محيطها الاجتماعي، وموضوعات التراث والأسطورة والموروث الحضاري السومري والبابلي، بدايةً، سوى مدخل الفنان الواسع الذي متَح منه طرائقه في التعبير عن جوهر علاقة العمل الفني مع موضوعه. كانت موضوعاته في مرحلته الأولى التي تناولت القرية والفلاحين، ورسومات ألف ليلة وليلة، وتأثره بالبسط والسجاجيد، وغيرها من الموضوعات، بمثابة “شذراته” الأولى التي جعلت من سطح التصوير لديه، كيانًا حاضنًا للتشكيلات والتعبيرات المفتوحة على طرائق التشخيص والتمثيل. فيما ظلّت مرجعيّة الأثر الفني بالنسبة له، تشكّل محور تحوّلاته على مدار نحو خمسة عقود “حدث تحوّل مهم بالنسبة لي في انسجامي مع الوجود وتقبّلي لمعناه، وهو ما كنت أرسمه قبل أن أتجه نحو التصوّف، وما رسمته بعد هذا التحوّل. كان اهتمامي في المرحلة الأولى منصبًّا على ما ينسجم مع شخصيتي الفنية، وطابعي المحلي والقومي الذي كان، حينها، هاجسي في التعبير الفني”.
“التنافذ المتكافئ” بين الرؤية والتعبير
وفي سبيل منح العمل الفني شخصيته الحضاريّة والقوميّة في مرحلته الأولى، جاء استلهام شاكر حسن للمواضيع الشعبية، وتأكيده على أهمية الشواهد الحضارية في ترسيخ هويّته الفنيّة، إلى جانب سعيه المتواصل إلى إدراج القيم الجماليّة التي يحوزها طابعه المحلي وموروثه الحضاري في سياقات ومفاهيم الفن الحديث. كان ذلك التوجّه بمثابة توطئته الناعمة التي حقّق معها، لاحقًا، ما يمكن أن يُطلَق عليه بـ”التنافذ المتكافئ” بين الرؤية والتعبير “كان اهتمامي بالقيم الجمالية، مثل التكرار والتماثل والحروف والأوفاق، وغيرها من الرموز والشواهد التي يحوزها محيطي البيئي والاجتماعي وموروثي الحضاري؛ جزءًا لا يتجزأ من ممارساتي التقنيّة والأسلوبيّة في مرحلتي الأولى التي ظلّت تأثيراتها كامنةً في أسلوبي الجديد الذي صار مع نزعته التأمليّة في الجمال الإلهي، أسلوبًا ووصفًا ظاهراتيًّا للعالم”.
ومن الوصف الظواهري للعالم، راح آل سعيد، يعيد تشكيل “إيقاعيّة” جديدة في تشكيل أنساق الاختزال والتجريد “توجهاتي الأخيرة، مثل تجاوز أهمية اللوحة نحو الجدار والأرض، تُعبّر عن النّسق الذي نشأ من خلال تلك التوجهات. وهو نسقٌ ذو نشور روحي وكوني معًا. توجهاتي هذه تختلف، ولا أقول تنقطع، عن توجهاتي الأولى في ممارسة عملٍ فنّيٍّ بغطاءٍ فكريٍّ اجتماعيٍّ وقوميّ، ولأشبّهُ ذلك، بشاعرٍ كان ينظم أول الأمر بأسلوب الشعر العمودي، وسرعان ما استبدله بأسلوب الشعر الحر، أو ما بعد الحر بما يسمى قصيدة النثر، فمثل هذا الشاعر لا يمكنه أن يجزم بأنه لم يعد مهتمًّا بطبيعة النسيج عبر المراحل التي مرّ بها، من حيث وحدة هويته الشخصية”.
لم يكن التحوّل الذي آل إليه عمله الفني مع “البعد الواحد” مطلع سبعينيّات القرن الماضي، قطيعةً مع ماضي الفنان، كما يُشار إليه دائمًا، على نحوٍ وصفيّ وانطباعي، ولم يكن، أيضًا، نتيجةً لتحاشيه إكراهات راهنه الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ بقدر ما كان في مساراته كلّها، شكلًا من أشكال تصالح الفنان مع توجهاته وتعبيراته التي أخذت بالتفتّح، تدريجيًّا، على امتصاص فائض السرد من على سطح التصوير.
مسافةٌ طويلةٌ ومنسابةٌ، متهاديةٌ ومتواترة، تلك التي قطعها شاكر حسن مع تخمير عجينة الفن بالتأمل والتنظير. مسافةٌ، أفضت به في ذروة منعطفاتها مع جدار “البعد الواحد” إلى اعتبار أنّ وجود العمل الفني لا يخرج عن كونه وجودًا “إشكاليًّا” نابعًا من كونه “أثرًا على ذاته”. صار العمل الفني ينشد عَبْر وجوده الإشكالي، استقلالية وجوده عن وجود المتلقي والفنان على السواء. ظلّ الوجود “الإشكالي” لعمل الفنان واستقلاليّته عن مُنْتِجهِ ومُتلقيهِ، يتوالد من “إشكاليّة” ترسيم العلاقة بين “المرئي واللامرئي” والتي دأب شاكر حسن على اجتراحها من تراكمات الأثر وتعيّناته التي تشكّل همزة الوصل بين العالم المرئي/ والعالم اللامرئي.
الفن بوصفه أثرًا على ذاته
أثناء إقامته في باريس لإكمال دراسته الفنية في عام 1955، تعرّف، عن قرب على الحراك الثقافي والفني هناك، وتفاعل مع فلسفات الجماليّات الكبرى التي كانت، حينها، رائجة في أوروبا، مثل البنيويّة والتفكيكيّة، وعلى الأخص الظواهريّة- “الفينومينولوجيا”- التي تستهدف بتوجهاتها، الكشف عن تمظهر جوهر الوعي والخبرة والأشياء، ومعاينة أشكال حضورها في التجربة الفنيّة والحياتيّة على حدٍّ سواء. وما بين إعجابه وتأثره بالحراك الثقافي والفني في الغرب، آنذاك، وبين تأكيده على أهميّة موروثه الحضاري والثقافي في تشكيل خصوصيّة هويته المنفتحة على “حداثة” الفن العالمي في أوج ذروته في العقود الستّة الأولى من القرن العشرين؛ عاش شاكر حسن صراعًا معرفيًّا ووجوديًّا، أفضى به أواسط ستينيات القرن الماضي، إلى نزعةٍ تأمليّةٍ أوصلته مع “البعد الواحد” لاحقًا، إلى اعتبار أن الفن ليس سوى “أثرًا على ذاته” وطريقةً في تأمل “العالم الخليقي” على إطلاقيّته.
ومع التحوّل الذي صار معه العمل الفني، طريقةً في تأمل مرئيات العالم، صار “العالم” نفسه، عند شاكر حسن، موضوعًا للمعاينة والاختبار؛ موضوعٌ سوف يظلّ على سطح جدار “البعد الواحد” محلّ اختبارٍ لممكنات الحوار بين “المرئي- واللامرئي” على سطح التجريد والاختزال. فتح ذلك “السطح” أفقًا واسعًا أمام تأملات شاكر حسن وهي تستكشفُ مساحات التنافذ والتشاكل بين المكان والزمان. وانطلاقًا من تخطي الفنان لمفهوم السطح التصويري ببعديه المكانيين، واللذين حكما نسق البنية التكوينيّة للوحة الفنيّة منذ عصر النهضة، وما تلاه من تحولاتٍ في أنساق التصوير والتعبير، وصولًا إلى التحوّلات الجذريّة التي شهدها الفن الحديث على امتداد النصف الأول من القرن العشرين؛ راح شاكر حسن، يتعامل مع السطح التصويري ذي البعدين، بوصفه “منطلقًا ارتجاعيًّا للبعد الواحد” بحسب تعبيره. وليست الخدوش والحروق والخروق والكولاج والحروف والأوفاق… وغيرها من العلامات التي من شأنها اختراق بُعدَي سطح التصوير، سوى جملةٍ من التمثيلات والترسيمات التي سعى من خلالها لتجاوز السطح التصويري، من دون أن يستغني عنه، بوصفه سطحًا ارتجاعيًّا لاختزالات “البعد الواحد” وتجريداته التأمليّة.
من هنا، على وجه التحديد، يمكن قراءة تجربة شاكر حسن، ومعاينة محطاتها وتحوّلاتها في مرحلتيه الفارقتين، بناءً على تواشج العلاقات بين “مادية” السطح التصويري بوصفه مُعطى في المكان، وبين نزوعه “التأملي والتصوّري” الذي سعى من خلاله إلى تجاوز السطح، نفسه، باعتباره مُعطى في الزمان. ظلّت تلك العلاقة في مسعاها ومرماها لتحقيق “التنافذ البصري” بين المكان والزمان، علاقةً “إشكاليّةً” يغذّيها “التناقض المتكامل” بحسب تعبير الفنان.
لم يكن استخدام الفنان في أعماله الأخيرة للفراغات الحقيقيّة المتعيّنة على سطح التصوير، وإحداث (الخروق) والشقوق والتصدعات والتشقّقات على سطح العمل الذي صار، تاليًا، عملًا بسطحين متعاكسين؛ سوى مدخل للانفتاح على العالم وتأمله من خلال العمل الفنّي، وبما تتيحه فاعليته البصريّة والتعبيريّة، من إمكاناتٍ لإعادة ترسيم العلاقة بين (المحتوى والشكل). وهي العلاقة التي سوف يصبح معها “زحزحة الشعور بالمكان” وفقًا لتغيّر موقع المتلقي إزاء العمل الفني، بمثابة “إظهارٍ لمعنى الزمان” الذي من شأنه أن يمنح لوحته “إمكاناتها الماضويّة والمستقبليّة”. ولئن كانت لوحته تستمدّ “نموها العضوي” من تلك الإمكانات، ومن إعادة ترسيم نظام العلاقة بين المحتوى والشكل؛ فإنها لم تتوقّف عند تلك “الإمكانات” بوصفها مُمثّلات لـ”البعد الواحد” فقط، وإنما باعتبارها “مدركات زمانيّة” توازي “المدركات المكانية” على السطح التصويري ببعديه الشاخصين.
لم نعد، في ظلّ إشكاليّة العلاقة المتنافذة بين المكان والزمان، نتعامل مع العمل الفني عند شاكر حسن بوصفه “أثرًا” لشكلٍ ما، وإنما صرنا نتعامل مع “شكلٍ” صار، بدوره “أثرًا على ذاته” ببنياته المكانية والزمانيّة. ولعلّ أكثر تجارب الفنان تمثيلًا لهذا المسعى في إطار “البعد الواحد” حين جعل من سطح التصوير، تنصيبًا تفاعليًّا مع ذاته، ومع متلقيه، وجعل من تراكمات الأثر مساحةً تأمليّة، وعلامة “أثارية” على سطحٍ مفتوحٍ لاستدراج “اللامرئي” إلى جدار “البعد الواحد”.
(*) الاقتباسات من سلسلة الحوارات التي أجريتها مع الفنان ونشرت في الملحق الثقافي لجريدة “الدستور” الأردنية عام 1991، ليدرجها الفنان لاحقًا في كتابه “أنا النقطة فوق فاء الحرف” الصادر عن وزارة الثقافة العراقية عام 1998.
- عن ضفة ثالثة
ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!