حي بن يقظان لابن طفيل.. قصة فلسفية تجسد رحلة البحث عن المعرفة
د. محمد عبيدالله
من هو هذا الشخص الغريب (حي بن يقظان) الذي يحمل اسما مختلفا فريدا؟ وهل هو شخص واقعي عرفه المؤلف، أم هو من تلك الشخصيات السردية التي يختلقها المؤلفون اعتمادا على الخيال الخصب، من أجل أن تؤدي وظيفة فكرية أو تحمل مضمونا معينا عند المؤلف؟
من هو ابن طفيل أيضا؟ وما هي حكايته مع بطل قصته؟ ومن أين جاء بالبطل وبالقصة؟ وكيف تمكن في وقت مبكر، وقبل عصر ازدهار القصة والرواية، من تأليف هذا العمل الخالد الذي يظل شاهدا كبيرا على اهتمام العرب بالسرد والنثر، وعلى تأثيرهم في ثقافات أخرى.
أحمد بن طفيل: الفيلسوف والعالم الأندلسي
مؤلف قصة (حي بن يقظان) هو أحمد بن طفيل، فيلسوف عربي أندلسي الأصل، ولد في منطقة قريبة من غرناطة تدعى (وادي آش)، وكان ميلاده في بدايات القرن السادس الهجري (قبل عام 506هـ).
وقد نشأ منذ طفولته على محبة العلم، فدرس آثار من سبقوه في مجالات شتى، ونال تعليما حسنا في العلوم الدينية واللغوية والأدبية، واهتم بالفلك وعلوم الطب والرياضيات وغيرها، فتكونت لديه ثقافة موسوعية كفلت له التميز في شبابه.
أما في مجال العمل أو الوظيفة، فقد تنبه سلاطين دولة الموحدين إلى علمه ومعرفته، فقربوه وأدنوه، فعمل طبيبا مقربا من أولئك السلاطين، وربما أسندت إليه أعمال أخرى في مجال الحكم والسياسة.
وتروي بعض الكتب له أشعارا قليلة، مما يشير إلى ملكته الشعرية، وربما كانت له أشعار أخرى غيبتها الأيام فلم تصل إلينا. كما تروي الكتب عن ابن طفيل اهتمامه بالفلك، وله بعض الآراء والإسهامات الرائدة في هذا المجال.
القصة الفلسفية: حي بن يقظان
أشهر إنتاج ابن طفيل -على الإطلاق- قصته التي نعرض لها، أي قصة (حي بن يقظان)، وهي قصة فلسفية تجمع بين أسلوب السرد، بما فيه من شخصيات وصراع وتطور وحركة، وبين الآراء الفلسفية التي شغلت ابن طفيل.
وبدلا من أن يكتبها أو يناقشها في قالب الرسالة الفكرية أو المؤلف الفلسفي، أعرض عن ذلك مستندا إلى مقدرة أدبية فذة، ومعرفة واسعة بأصول الحكاية وشروط القصة، ربما هربا من جفاف الفلسفة، وطلبا لمتعة الأدب، وما يتيحه من مجال لإطلاق الخيال وتحرير المخيلة.
إعلان
وكما يشير موسى سليمان في مؤلفه التأسيسي (الأدب القصصي عند العرب)، فقد كان الهم الأكبر لابن طفيل في حياته أن يجد حلا لقضية الدين والفلسفة: هل يتفقان؟ هل يختلفان؟ لماذا يختلفان؟ أيجب أن يتفقا؟ وهذا موضوع شائك وعويص، عالجه قبل ابن طفيل كثير من الفلاسفة، فلم يصلوا إلى حل نهائي.
فهل يصل هو إلى الحل؟ وهكذا كتب ابن طفيل قصته (حي بن يقظان) جوابا على هذا السؤال، مجتهدا في تأملاته من خلال الأسلوب الرمزي، الذي قد يفتح مجالا لحل المشكلات وتجاوز ما يعرض من الصعوبات.
ولكن من أين جاء ابن طفيل بشخصية حي بن يقظان؟ هل اختلقها هو، أم أخذها من غيره؟ يجيب موسى سليمان بأن الفيلسوف العربي ابن سينا، الملقب (بالشيخ الرئيس)، قد كتب قصة عن شخص يدعى (حي بن يقظان)، ومعنى ذلك أن ابن سينا قد استخدم هذه الشخصية قبل ابن طفيل، لكنه لم يبلغ شأوا بعيدا، ولم يصل بها إلى حد مقنع، فأراد ابن طفيل أن يتجاوز آراء ابن سينا وأن يعارضه باستخدام شخصية وردت عنده.
ويجدر بنا أن نذكر أن شهاب الدين السهروردي قد لجأ إلى الشخصية نفسها بعد ابن طفيل، كما صاغها الفيلسوف والطبيب ابن النفيس وعدل اسم الشخصية إلى (فاضل بن ناطق)، أي أن في التراث العربي عدة قصص عن هذه الشخصية، كتبها فلاسفة يعالجون بالسرد هموم الفكر والوجود.
وأشهر هذه القصص ما كتبه ابن طفيل، فقد تفوق فيها وبلغ بها مستوى متقدما في الأسلوب القصصي وفي التأمل الفلسفي، فضلا عن أن قصة ابن طفيل هي الأطول والأكبر حجما، في حين أن القصص الأخرى (لابن سينا والسهروردي وابن النفيس) أميل إلى القصر والغموض.
رحلة البحث عن المعرفة
تقوم قصة حي بن يقظان لابن طفيل على فكرة البحث عن المعرفة: كيف تكون؟ وما هي وسائلها؟ وهل بوسع الإنسان أن يتعلم ويتأمل معتمدا على ملكته وفطرته؟ ويقول أحمد أمين إن ابن طفيل أراد أن يثبت أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول إلى الله، بحيث يستطيع بعقله أن يصل إلى معرفة العالم ومعرفة الله، فالمعرفة عند ابن طفيل قسمان أو نوعان:
-
معرفة حدسية (مبنية على الكشف والإلهام).
-
معرفة نظرية مبنية على المنطق.
والأولى يمكن الوصول إليها برياضة النفس (وبالعبادة) وبالتوجه الروحي الفطري إلى الخالق، أما النوع الثاني (المنطقي العقلي) فيمكن الوصول إليه من نتائج علمية باستخدام العقل والمنطق، أي بدراسة العالم المادي وموجودات الكون المحيطة بالإنسان.
أما أحداث قصة (حي بن يقظان) كما تخيلها ابن طفيل، فتبدأ بسؤال الميلاد، أي ميلاد شخصية القصة. ولأن أبطال القصص لهم ميلاد مختلف، فإن حي بن يقظان قد ولد أو وجد وفق احتمالين:
-
الأول: أنه ولد ولادة ذاتية، فهناك “جزيرة من جزر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولد فيها الإنسان من غير أم ولا أب، وبها شجر يثمر نساء… فيمكن أن يكون حي بن يقظان من جملة من تكون في تلك البقعة من غير أم ولا أب”.
-
أما الرواية الثانية لاحتمال ميلاده، فإن أميرة تزوجت سرا دون رضى شقيقها، ثم إنها حملت ووضعت طفلا ذكرا، ثم خافت أن يفتضح أمرها ويكشف سرها، فوضعت الطفل في تابوت أحكمت إغلاقه بعد أن أرضعته وأروته من حليبها، ثم قذفت بالتابوت وفيه الطفل إلى عرض البحر، وأسلمت أمره إلى الله (مما يقربها من قصة النبي موسى عليه السلام من ناحية إلقائه في اليم).
إعلان
وقد حمل الماء الطفل إلى ساحل جزيرة أخرى، ونتيجة للمد والجزر، علق التابوت وسط غابة كثيفة من الشجر.
فلما اشتد به الجوع أخذ في الصراخ على نحو ما نعرف من أمر الأطفال، فلما سمعته إحدى الظباء أو الغزلان حنت عليه بعد فقدها لابنها، وتتبعت صوته حتى وصلت إليه، وأرضعته من لبنها، وما زالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى، حتى صارت له الظبية أما جديدة، وهو الذي لا يعرف أمه الأولى ولا يتذكرها.
في صحبة الظباء
تربى حي بن يقظان وسط الظباء وعالم الحيوان، فقد ظل يتغذى بلبن الظبية، حتى بدأ يكبر شيئا فشيئا، وبدأ يتعلم لغة الظباء عن طريق تقليد الأصوات، فألفته الحيوانات وألفها، ولم تنكره ولم ينكرها.
ثم بدأ ينتبه بالتدريج إلى اختلافه عن هذا العالم المحيط به، فما أغربه من عالم! وما أصعبها من معيشة! لاحظ مثلا أن الحيوانات مكسوة بالشعر والوبر وأنواع الريش، أما هو فليس على جسمه شيء من ذلك، وكانت سريعة العدْو، ولها أسلحة في جسمها كالقرون والأنياب والمخالب، أما هو فليس له ما يشبهها. وقد سعى لاستكمال ما ينقصه، فاستخدم أوراق الشجر لباسا لجسمه، وصنع من أغصان الشجر عصيا يدافع بها عن نفسه.
وازدادت غربته عما حوله عندما بلغ من العمر 7 سنين، ويبدو أن الحيوانات بدأت تتحاشاه وتهابه، فصار لا يدنو إليه شيء منها سوى الظبية التي أرضعته وربته.
ولكن الظبية لم تلبث أن أسنت (أي كبرت في السن)، فكل حي له نهاية، وبدأت الظبية تضعف حتى سكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها. فلما رآها الصبي على تلك الحال، حزن حزنا شديدا، وحاول إيقاظها، وفحص أعضاءها لاكتشاف سبب موتها إن كان بمقدوره أن يعرف السبب.
وهكذا اهتدى إلى علم التشريح [وفي هذا الجزء يستفيد المؤلف من خبرته كطبيب إفادة عظيمة].
وفي كل مرحلة يتطور الصبي، فيعرف أشياء جديدة اعتمادا على ملكته العقلية وفطرته التأملية، وهنا يكون للمشاهدات والتجارب دور كبير في تعليمه وهدايته إلى معارف جديدة.
فموت الظبية علّمه معنى الموت وأسبابه، وضرورة دفن الميت، بعد أن رأى فعل الغراب بصاحبه (كما هو الحال في قصة قابيل وهابيل ابني آدم)، كما عرف أن القلب مركز الجسد وفيه سر الحياة، وبتوقفه تتوقف حياة المخلوقات جميعها.
ومن التجارب الأخرى اكتشافه النار مصادفة، فقد انقدحت في شجر جاف واشتعلت، فعرف النار وفعلها وقوتها في جميع الأشياء التي يلقيها فيها، ثم إنه اكتشف الشواء والطبخ عندما ألقى فيها بعض الأسماك، فاشتم لها رائحة مميزة لذيذة.
وقد ظل حي بن يقظان يواصل تجاربه ومشاهداته، وظل عقله يساعده في كل مرحلة على نحو ذاتي، من غير أن يكون حوله أهل أو بشر يتعلم منهم، أي أن كل ما اهتدى إليه هو بفعل الفطرة الإنسانية والملكة العقلية التي ميز الله بها الإنسان عن الحيوان، وجعلها ميزة للكائن البشري، حتى لو عاش منعزلا في جزيرة بعيدة كما هي الحال في قصة (حي بن يقظان).
وقد علم حي بن يقظان بالمشاهدة والمراقبة أن كل حادث لا بد له من محدث، وأن كل فعل لا بد له من فاعل، فبدأ يتعرف إلى الخالق الذي أوجد كل حوادث الدنيا وكل موجوداتها.
وهذه المعرفة شهدت يقظة القلب والحس وتقهقر العقل، أي أن (حي بن يقظان) بدأ مرحلة جديدة من التعلق الوجداني والروحاني بالفاعل الأول في الكون.
ويبدو في هذا الجزء من رحلة حي بن يقظان أن المؤلف يتخذ من الشخصية قناعا فكريا ووجدانيا لتأملاته الشخصية، ولمكابداته نحو طريق خاص للإيمان، كأن حي بن يقظان هو ابن طفيل ذاته، في اختياره طريق القلب عوضا عن العقل، أو استكمالا له فيما لا يستطيع أن يبلغه.
إعلان
ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!