“حفيدة غردون باشا”… امرأة تعيد ترتيب ذاكرة السودان
الطيب ولد العروسي
الكتابة في شق واسع منها معالجة للذات والتاريخ الفردي والجماعي، وهذا ما أثبتته روايات سودانية كثيرة، بسحرها القادم من بيئة متشابكة بين الخيالات والأوهام والحقائق، بيئة تتشابك فيها الأعراق مثل الجذور وتتقاطع وتمزق بعضها بعضا. الكاتبة السودانية تسنيم طه لا تشذ عن تلك المكاشفات في روايتها “حفيدة غردون باشا”.
يعيش السودان مثل أغلب الدول العربية زمنا تتكسر فيه الأصوات بين هدير الحرب وصمت المدن المنكوبة. وعليه تأتي رواية “حفيدة غردون باشا” للكاتبة السودانية تسنيم طه كصرخة جمالية في وجه الخراب، وكسرد يعيد إلى الأدب السوداني وهجه الإنساني وقدرته على مساءلة الذات والتاريخ معا.
الرواية، الصادرة عن دار رشم للنشر (2025) وتتألف من سبعة فصول و400 صفحة، ليست مجرد عمل أدبي يروي حكاية عائلة أو يقتفي أثر ماض استعماري، بل هي محاولة لإعادة كتابة الذاكرة السودانية من الداخل، من قلب التمزق الذي صنع وطنا لا يزال يبحث عن تعريفه. ويصح فيها مقولة فريدا كاهلو “أنا لا أرسم الأحلام أو الكوابيس… أنا أرسم واقع بلدي”.
كتابة ضد النسيان

محاولة لإعادة كتابة الذاكرة السودانية من الداخل
الرواية تعد محاولة لإعادة كتابة الذاكرة السودانية من الداخل
إن ست النفور، حفيدة غردون باشا، ليست امتدادا لرمز استعماري بقدر ما هي انعكاس لوعي جديد يكتب تاريخه بنفسه. وهي من أم فرنسية وأب سوداني. تولد البطلة في مساحة رمادية بين الهويات، لا تعرف هل تنتمي إلى الغرب أم إلى أفريقيا، إلى الخرطوم التي تحترق أم إلى باريس التي تراقب من بعيد.
حين تبدأ في كتابة روايتها بمساعدة جدها زكريا، تتحول الكتابة إلى فعل خلاص، بل إلى محاولة لتضميد جرح قديم لم يندمل منذ أن غادر الجنرال البريطاني أسوار الخرطوم، وترك وراءه بلدا مشطورا بين ذاكرة الاحتلال وحلم الاستقلال.
تستدعي العلاقة بين الحفيدة والجد عماد الرواية وزمنها المزدوج: الماضي والأسطورة الاستعمارية والحاضر الذي يعيش على إيقاع حرب 2023. وبين هذين الزمنين، تدير تسنيم طه السرد بخفة تجعل القارئ يشعر أن كل جملة تُكتب ضد النسيان.
لا تقدم تسنيم طه تعريفا نهائيا للهوية السودانية، بل تسائلها من الداخل. من خلال ست النفور، تُعيد طرح سؤال جوهري: هل يمكن لإنسان أن يكون له أكثر من انتماء واحد؟ في السودان – كما تصوره الرواية – تتقاطع الأعراق والأديان واللغات لتكون لوحة معقدة لا تعرف الصفاء، لأن النقاء نفسه كان وهما سياسيا صنعته سرديات ما بعد الاستقلال.
وعليه، تُعيد الرواية إلى الأذهان حكايات أجداد عاشوا قبل أن تصير الهويات سجونا: يهود، مسيحيون، ومسلمون يتجاورون في أحياء الخرطوم القديمة، قبل أن تأتي الأيديولوجيا لتفصل بينهم بجدران من الريبة. ومن بين هذه الحكايات تبرز قصة راحيل اليهودية التي تتزوج من مسيحي وتُنجب فريحة، فيرمز هذا التزاوج إلى عمق التداخل السوداني الذي ترفض الرواية أن يُمحى أو يُختزل في هوية أحادية.
لا ينفصل الحب عن الجغرافيا ولا عن السياسة. ست النفور لا تعيش قصة عشق تقليدية، بل سلسلة علاقات تختبر فيها معنى الانتماء. تحب رجلا يشاركها الدين ويخالفها الروح، ثم تجد نفسها منجذبة إلى آخر يختلف عنها عقيدة وثقافة، لكنه يشاركها الصدق والحنين إلى الوطن. ثم رجل متزوج، ولكن قرانهما فشل بهذا المعنى، فيتحول الحب إلى مختبر روحي يعري تناقضات المجتمع، وإلى مرآة يرى فيها السودان نفسه: بلد يحب ويقصي في آن واحد.
“حفيدة غردون باشا” ليست رواية عن الحرب فحسب، بل عن الذاكرة والحب والانقسام الذي يسكن أرواح السودانيين
حين اندلعت الحرب في السودان عام 2023، كانت تسنيم طه لا تزال تراجع المخطوط. تقول في أحد حواراتها “كنت أكتب بينما الأخبار تتساقط كالرصاص، أحيانا أخرج من الكتابة منهكة، وأحيانا مهزومة بلا كلمة”. هكذا ولدت الرواية من رحم العنف، لا من رفوف المكتبات.
الخرطوم في الرواية ليست مكانا جغرافيا، بل كائن حي يحتضر. يتحول الطين – “مدينة الطين” – فيها إلى استعارة للبقاء، والماء إلى رمز للغرق والولادة في آن واحد. فهي مدينة تحترق وتُقاوم، وتذكر القارئ بأن الخراب ليس نقيض الجمال، بل شرطه الأول أحيانا.
لا تكتب طه التاريخ كما فعل المؤرخون، بل تُعيد تفسيره من منظور المهمشين، من أصوات النساء والمطرودين من الرواية الرسمية للأمة. وبالتالي، تخلخل السرد الوطني الذكوري الذي صور السودان كملحمة رجولية خالية من التفاصيل الإنسانية.
في “حفيدة غردون باشا”، النساء لا يقفن على الهامش، إنهن من يكتبن الحكاية ويُعدن ترتيب الذاكرة بوعي أنثوي حساس يرى في الألم طاقة خلاقة لا عبئا.
تعتمد الرواية على بناء متقطع يشبه الذاكرة، تتداخل فيه الحقب والأصوات في نسيج واحد. اللغة شعرية دون أن تفقد واقعيتها، مكثفة دون أن تتعالى. كل مشهد فيها يبدو وكأنه مرسوم بالضوء والطين معا، كأن الكاتبة تكتب بالعاطفة أكثر مما تكتب بالقلم.
بهذه الرواية، تثبت تسنيم طه أن الأدب السوداني المعاصر ما زال قادرا على مفاجأتنا وعلى تحويل الوجع إلى فن
يمثل الجد زكريا الضمير الجمعي، بينما ست النفور تمثل المستقبل المعلق، الجسر بين جيلين: جيل رأى السودان يولد من الاستعمار، وآخر يراه ينهار تحت نيران الحرب.
في مرآة الحفيدة
لقد أظهرت تسنيم طه رغبة واضحة في الحفر في الذاكرة الجماعية للسودان، وتمثل روايتها ذروة هذا المشروع. إنها كتابة بالوجع والوعي، كتابة تعترف بالهزيمة لا لتستسلم لها، بل لتصوغ منها معنى جديدا للهوية والمقاومة. وهي لا تبحث عن البطولة، بل عن الصدق، عن الطريقة التي يمكن بها للكلمات أن تنقذ ما تبقى من الإنسان وسط العنف والشتات.
في نهاية المطاف، “حفيدة غردون باشا” ليست رواية عن الحرب فحسب، بل عن الذاكرة والحب والانقسام الذي يسكن أرواح السودانيين منذ قرن من الزمان. إنها رواية تتطرق إلى الوطن ككائن حي، جريح وجميل في آن واحد، وتمنح للخراب معنى شعريا يجعل من الكتابة نفسها فعل بقاء.
بهذه الرواية، تُثبت تسنيم طه أن الأدب السوداني المعاصر ما زال قادرا على مفاجأتنا، وعلى تحويل الوجع إلى فن، والذاكرة إلى نص مفتوح على الأسئلة. طالما أن السودان، الذي يتناثر بين الحرب والمنفى، يجد في حفيدته هذه من يكتبه من جديد، امرأة تعرف أن الكتابة ليست ترفا، بل طريقة للبقاء على قيد الوطن. ولعل الجملة التالية تلخص جزءا من ذلك: “مهموم بأحزان وطن آبائنا المبتلة تربته حتى التشرب بدماء أجدادنا، المقتولين ببسالة في ساحات المعارك، وتارة أخرى بغباء في الصراعات والنزاعات القبلية الرعناء”.
تتداخل الحروب المتواصلة في السودان مع الحكايات الشعبية ومع حكايات وقعت في أمكنة وأزمنة أخرى عبر التاريخ، منها الحقيقي والمتخيل، الأسطوري والواقعي. ويأتي وصف المدن والقرى وضبابية الشوارع حينما يكون صوت الرصاص هو من يحكم البلد المتصارع عليه من الإخوة والأعداء ومرتكبي الجرائم والميليشيات، والشباب الذي زُج به في الحروب بلا علاقة بأحداث وتاريخ البلاد، فهم جاؤوا يمارسون الحرب كموظفين أو متطوعين أو عمال ينتهكون أعراض الناس، والنساء هن ضحيتهم الأولى.
- عن العرب اللندنية
ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!