سرديات الرحلة الأوروبية وإمبريالية تخيّل العالم

سرديات الرحلة الأوروبية وإمبريالية تخيّل العالم

نادية هناوي

تتضح أهمية كتب الرحلات في أنها تساوي بين الشعوب، فتجعل حضورها متكافئًا لا فرق فيه بين شعب متقدم حضاريًا وعسكريًا، وآخر لا يزال يرزح تحت طائلة التخلف والاستعمار. ولعل هذا هو السبب المباشر الذي جعل النقد الغربي يضرب صفحًا عن الاهتمام بدراسة الرحلات الأوروبية وغير الأوروبية، باستثناء بعض المحاولات التي تأتي من باب “الدراسات الثقافية” والمخصوصة في الأصل نحو العناية بموضوعات الذات والآخر والهوية والمنفى والهامش والمركز، ومفاهيم أخرى أنتجتها مرحلة ما بعد الاستعمار. ويعد كتاب “نظرات إمبريالية: كتابة الرحلة والتثاقف” للباحثة ماري لويس برات – الصادر عن راوتليدج في طبعته الثانية 2008 – في مقدمة الدراسات الثقافية المعنية بأدب الرحلات. وفيه وجهت المؤلفة الأنظار نحو ما في السرد الرحلي من جماليات فنية وثيمات موضوعية.

وتأتي خصوصية سرديات الرحلات من كونها تتيح للقارئ الغربي استكشاف الشعوب التي اضطُهدت في حقب التوسع الاستعماري الأوروبي في قارات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأمريكا الشمالية وأستراليا. هذا إلى جانب ما لكتب الرحلات من دور مهم في التعرف إلى الكيفية التي بها تطورت الصيغ الدلالية لمفردات السفر، الترحال، والانتقال، والذهاب، والإياب، والمغامرة، وما إلى ذلك مما استعمله الرحالة في مشاهداتهم الواقعية لطبائع المستعمر الاقتصادية والسياسية في التعامل مع الشعوب المضطهدة. وهو ما تراه ماري لويس برات مهمًا، لكونه يساعد في رسم تصورات عن شعوب العالم عامة، وأوروبا خاصة (فبينما يميل المركز الإمبراطوري “المتروبول” إلى تخيّل نفسه بوصفه هو الذي حدد شكل المستعمرات من ناحية التمدن الحضاري والتنمية الاقتصادية، فإنه في الآن نفسه يغفل عن الدينامية العكسية التي تملكها الشعوب المستعمرة)، وهذا ما يحتاج من المركز إعادة تقييم ذاته من خلال الأطراف أو الهوامش التي كانت تحت سيطرته، أي أن عليه أن يعتمد على الشعوب لمعرفة نفسه؛ ولأدب الرحلات دور مهم في سد الحاجة إلى هذه المعرفة.

وما تفترضه ماري لويس برات هو أن التحولات التاريخية المهمة تغيّر طرائق الكتّاب في التعبير عن أنفسهم بحكم تغير تجاربهم الحياتية وأساليبهم الكتابية التي بها يتخيّلون العالم الذي يعيشون فيه ويشعرون به ويفكرون باتجاه تطويره. ومراجعة تلك التحولات ستساعد في الوقوف على طبيعة تلك المتغيرات وأثرها في ظهور هذا اللون من الكتابة السردية وتقاطعه مع فنون السرد الأخرى. أما لماذا ترى المؤلفة سرد الرحلات بمثابة “عيون إمبريالية”، فلأنه يمكّن القارئ من رؤية التفاعل الأوروبي مع التاريخ والطبيعة وأثر ذلك في إنتاج خطاب عالمي يتمركز حول أوروبا، وما ينطوي عليه ذلك التفاعل من مسائل علمية ووجدانية هي تمثيل واعٍ لسلطة معرفية، تحل محل السلطات الأخرى العقائدية والاجتماعية، انطلاقًا من مبدأ البقاء على قيد الحياة.

وما يحسب لماري لويس برات أنها خرقت مواضعات النقد الغربي في اتجاهها نحو دراسة هذا النوع من السرد، الذي تراه من الناحية الموضوعية ظاهرة واسعة الانتشار ومهمة، كونها تكشف عن تاريخ الاستعباد ومقاومته بدءًا من القرن الثامن عشر.

ومن الناحية الفنية، تشير المؤلفة إلى أن كتابة السرد الرحلي تشتمل على اتجاهين تطورا تدريجيًا: الأول معرفي، والآخر سيكولوجي، وهما يكشفان عن خط التطور في الوعي الاستكشافي للرحالة الأوروبيين. وهو التطور الذي تزامن مع ترسّخ الأشكال البرجوازية في السرد الأوروبي الحديث. وكانت قد بدأت مع ما حققته الرأسمالية الغربية من موطئ أقدام مهمة في بلاد ما وراء البحار، بحثًا عن المواد الخام وما يلحق بذلك من طمع وشراسة في الاستيلاء على الأراضي واستغلال ثروات شعوب قارات أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا، التي تحولت في القرن الثامن عشر إلى مستعمرات أوروبية. غير أنه في ثمانينيات القرن نفسه أخذت تظهر في هذه القارات حركات سياسية تدعو إلى الاستقلال ومقاومة التوسع الاستيطاني للاستعمار الأوروبي.

ولقد سجّل الرحالة الأوروبيون وقائع هذه المرحلة، ومنهم ألكسندر فون هومبولت وأيمي بونبلان في رحلتهما إلى أفريقيا عام 1799، وبسبب غزو نابليون لشمال أفريقيا حوّلا مسار رحلتهما إلى أميركا الجنوبية. ويدل هذا التحول على ما للرحالة الغربي من وعي مناهض للاستعمار، وهو ما تطلق عليه برات مسمى “كآبة العالم الثالث”.

يكشف الكاتب اللاتيني بسرد تسجيلي، الغزو الإسباني لبلاده، موثقًا عبر مئات الصفحات جرائم الاستعمار وإساءاته لشعب الأنْديز، ومدعّمًا برسوم توضيحية لأساليب الاضطهاد العنصري والاستغلال اللاإنساني لطاقات شعب الهنود الحمر

ومن الحقائق التي تؤكدها برات ويغيّبها النقد الغربي كثيرًا هو أن “أوروبا ما أكدت نفسها كمركز للحضارة إلا في القرن الثامن عشر”، وادّعت أن إرث اليونان والرومان يعود إليها. وليس من المستغرب أن نجد الأوصاف التي تطلقها أوروبا على مستعمرات حوض البحر المتوسط هي نفسها التي تطلقها على مستعمراتها في أمريكا الجنوبية.

ومما ناقشته المؤلفة باستفاضة العلاقات الكامنة ما بين سرد الرحلة والسيرة الأوتوبيوغرافية للمهمشين والمضطهدين الواقعين تحت نير المستعمرين في أوائل القرن التاسع عشر. وركّزت الضوء على النساء بوصفهن يمثلن فئة مضطهدة أكثر من الرجال في هذه المرحلة من تاريخ الاستعمار الأوروبي، وقارنت ذلك بالموجات النسوية التي ظهرت في القرن العشرين، لا سيما في ستينياته، حين غلب على السرد النسوي توجه أدبي يتمثل في كتابة اليوميات والشهادات وتدوين التاريخ الشفوي.

ومن يتعمق في ما كتبه الرحالة الأوروبيون على مدى قرنين ونصف، فسيجد أنهم أكثر وعيًا بفئات المهمشين الواقعين تحت سيطرة المتروبول الإمبريالي من الذين لم تُسمع أصواتهم ولم تُوثق معاناتهم، أو من الذين التقى أولئك الرحالة بهم في خضم سفرهم فوجدوا منهم أناسًا يكرمونهم ويدلونهم على الطرق ويساعدونهم في تجاوز العقبات التي تصادفهم في أثناء الرحلة. ومن خلال الاختلاط بهم تعرف الرحالة على حياتهم ومشاكلهم وحقيقة وعيهم لمخططات الاستعمار، وكيف يتعايشون معها تارة بالرفض الواقعي المباشر عبر النضال الوطني والقومي، وتارة أخرى بالرفض الرمزي المتمثل في ما يقيمونه من طقوس وما يقومون به من أعمال أدبية فنية كالشعر والنحت والرسم والرقص. وأحيانًا يعمدون إلى الفلسفة والتاريخ في التعبير عما يتعرضون إليه من قمع واستغلال.

ومن المفاهيم النقدية الخاصة بأدب الرحلات واستعملتها مؤلفة كتاب “عيون إمبريالية” مفهوم “منطقة التماس” (Contact Zone)، ويعني الحدود الإطارية للمستعمرات الإمبراطورية التي تفصلها جغرافيًا وتاريخيًا ولغويًا عن سكان البلاد الأصليين الذين ينظر إليهم الاستعمار بوصفهم دونيين ومتأخرين وفوضويين وغير منظمين أو همجيين. وقد يتجاوز الرحالة منطقة التماس فيعبر عن معرفته بالآخر المختلف لا بوصفه كائنًا هامشيًا منفصلًا، بل له وجوده المشترك وتفاعله الدائم ضمن نطاق مكاني تسوده علاقات القوة.

ومن المفاهيم أيضًا “مناهضة الغزو” (Anti-conquest)، ويشير إلى استراتيجيات التمثيل التي تمارسها الشعوب المضطهدة، ومن خلالها يصبح الأفراد البرجوازيون الأوروبيون في وضع يؤكد هيمنتهم الإمبريالية. بيد أن برات ترى في هذه الاستراتيجية براءة خطابات الاستعمار القديم بوصفه غزوًا استيطانيًا إمبراطوريًا. وتطلق على هذا الجمع بين المتناقضين، البراءة والهيمنة، اسم “الاستراتيجية”، وتجدها مستعملة في خطابات أدب الرحلات التي عادة ما يكون البطل فيها مناهضًا للغزو في شكل “رجل رائي” (Seeing-man)، وهو عادة ما يكون ذكرًا وببشرة بيضاء ينظر بعيونه الإمبريالية فيرسم صورًا سلبية للشعوب الأصلية.

أما مفهوم “الإثنوغرافيا الشخصية” أو “التعبير الإثنوغرافي الذاتي” فيعني التمثيلات التي يقدمها الرحالة الأوروبيون لأنفسهم وبحسب سياقات التفوق الاستعماري حينًا، وردة الفعل عليها حينًا آخر، وذلك عندما يسجل الرحالة عادات الشعوب الأصلية وتقاليدها.

وهذا الجمع بين حياة المستعمر الباذخة وحياة المستعمَرين المعدمة، هو ما تراه المؤلفة برات غير متجانس من ناحية التلقي للتسجيل الإثنوغرافي؛ فكتابة الرحلة موجهة للقراء كافة على اختلاف شرائحهم وفئاتهم، ومن المؤكد أن استقبالها سيتفاوت ما بين القراء المنتمين للمركز وأولئك المنتمين إلى الهامش.

ولعل أخطر ما في كتاب “عيون إمبريالية” ما نقلته المؤلفة برات من حادثة تاريخية مهمة تتعلق بعثور عالم من البيرو عام 1908 على مخطوطة في الأرشيف الملكي الدنماركي موقعة باسم أميركي لاتيني هو فيليبي غوامان بوما دي إيالـا ومؤرخة بالعام 1615، أي بعد أربعين عامًا من اكتشاف كولومبوس لأميركا وسيطرة الإسبان على إمبراطورية الأنكا. وفيها يوجه الكاتب رسالة مطولة من ألف ومئتي صفحة إلى الملك فيليب الثالث ملك إسبانيا تحت عنوان “الوقائع الجديدة والحكم الورع والعادل”، وفيها ما يقارب الأربعمئة صفحة مخصصة للرسوم التخطيطية المفصلة مع الشروح التوضيحية.

وما يميز هذه المخطوطة هو بعدها التسجيلي القائم على إعادة كتابة التاريخ الاستعماري للأنْديز (الهنود الحمر)، فيسرد فيليبي غوامان بوما دي إيالـا تاريخ العالم الجديد ويتحدث عن تاريخ سكان أمريكا الأصليين، ويستمر بعد ذلك في وصف أساليب عيشهم وعاداتهم بشكل تفصيلي. ويكشف الكاتب اللاتيني بسرد تسجيلي، الغزو الإسباني لبلاده، موثقًا عبر مئات الصفحات جرائم الاستعمار وإساءاته لشعب الأنْديز، ومدعّمًا برسوم توضيحية لأساليب الاضطهاد العنصري والاستغلال اللاإنساني لطاقات شعب الهنود الحمر وثرواته المادية وغير المادية المتجسدة في ما له من تراث حضاري عريق له مكانة رمزية في نفسه. وتنتهي المخطوطة بإجراء مقابلة متخيلة ساخرة بين الكاتب وملك الإسبان، يقترح فيها شكلًا جديدًا للحكومة تتعاون فيه النخب الإسبانية والأنْديزية. والسؤال: كيف وصلت الرسالة إلى المكتبة الهولندية؟ ولماذا بقيت مجهولة على مدى السنين الطويلة تلك؟ لا سيما أن المؤلفة برات أكدت أن اللغة التي كتبت بها المخطوطة هي الكيتشوا، وهي لغة غير مستعملة، كما أن الثقافة الأنديزيّة ما كانت معروفة في المدة التي فيها احتفظت المكتبة بهذه المخطوطة. ومن هنا يكون أمر هذه المخطوطة غامضًا وغريبًا.

والمهم في هذه المخطوطة أنها نموذج دال على ما لأدب الرحلات من تاريخ عريق وتقاليد فنية خاصة. ومن هنا تبدو أهمية أن يكون لأدب الرحلات مكان خاص في الدرس الأكاديمي الحديث، كونه يضع أمام الباحثين حقائق طمستها مناهج ونظريات غربية، لم تُعنَ إلا بما يصب في صالح بطانتها الفكرية الرأسمالية.

  • عن ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

مقدمة كتاب الهوية في شِراك الأيديولوجيا

(ثقافات) مقدمة كتاب الهوية في شِراك الأيديولوجيا د. عبد الجبار الرفاعي منذ عودتي إلى وطني …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *