إسكندر حبش … الكتابة بديلًا من الحياة

(ثقافات)

إسكندر حبش … الكتابة بديلًا من الحياة

دارين حوماني

في حديثه عن صموئيل بيكيت يكتب إميل سيوران “إنه لا يعيش في الزمن بل يعيش بموازاة الزمن”، أتذكر هذه العبارة وأنا أحاول أن أبدأ بمقدمتي هذه عن إسكندر حبش، هو الذي عاش في الزمن كثيرًا، ولكنه في الوقت نفسه كان كأنه يعيش بموازاة الزمن، كانت له قصائده المؤلفة من فتحات في الوجود، ومقالاته التي تحدّث فيها عن العديد- العديد من شعراء وكتّاب بيروت والعالم، ولكنه كان بتعبير الشاعر وديع سعادة: “يقعد إسكندر حبش خارج الأضواء ويضيء على الآخرين”، هو إسكندر حبش المتكلم عن العالم من زاوية من هذا العالم لا يراها أحد، وهو يقول “كأن جسدًا يمرّ من ثقب الباب/ يتنزه بين الجالسين، في الممرات الطويلة/ كأن يجعل أخطاءه هادئة/ ولا ينظر إلى دوران الساعة”، وهكذا أتذكره قبل سبع سنوات، استقبلني في مكتبه الصغير في زاوية غرفة معدّة للكتّاب في قسم ثقافي من جريدة كان اسمها “السفير”. استقبلني يومها كمسؤول للقسم الثقافي في الجريدة، كنت في ذلك الوقت وقبل ذلك أتردد إلى الجريدة بخجل من وقت لآخر لألتقي الشاعر والروائي عباس بيضون وأسلّمه نصوصًا شعرية لي للنشر، الجريدة التي كانت تشكّل الحلم بالنسبة لي لأكون من بين المنتسبين لها منذ دراستي للصحافة المكتوبة قبل خمسة وعشرين عامًا، ولم أتمكن من تحقيق هذا الحلم بسبب ظروفي الشخصية، أغلقت الجريدة الباب على نفسها في عالم لا يؤمن بالكلمة واحتجتُ أنا وقتًا بعد ذلك لأنفصل عن ألمي بسبب ذلك الإغلاق. ما لفتني في لقائي ذلك بإسكندر حبش هو “التواضع”، التواضع نفسه الذي يخص الكتابة من خارج الأضواء، تواضع شاعر وكاتب وصحفي ومترجم، وقد علمت “بالصدفة” فيما بعد أنه حاصل على دكتوراه في الفلسفة من اليونان، ففي عالمنا هذا من يكن واحدًا من هؤلاء سيكون من الصعب التواصل معه بحبّ، بل تكاد تكون فكرة “الاعتداد بالنفس” لصيقة بمعظم كتّاب الصحف، وخصوصًا في ذلك الوقت، يوم كان للصحيفة الورقية وقع كبير على القراء. لم يكن إسكندر حبش بالنسبة لي شاعرًا عابرًا ولا صحافيًا ومترجمًا عابرًا، فقد دخل حياتي وأدخلني إلى منبت الو

عي في حياتي كقارئة له من خلال مقالاته في جريدة السفير منذ خمسة وعشرين عامًا، هو الذي كان يبحر في العمق، متنقلًا بين وجوهه الإبداعية المتعددة بإحساس الذي يتوغل في المياه الداكنة والأكثر زرقة ويُخرج منها الحدّ الأقصى من الوعي بالمعاني واللآلئ، ويفلشها أمامنا بعناية من يريدنا أن ننتبه إلى الوجود بكل الشغف الذي فيه والأحلام والخيبات وتوزيعها بغير تساوٍ على الأرض. إسكندر عرّفني بمقالاته على شعراء العالم، عرّفني على أجزاء مني في نصوصهم، ولا فارق هنا بين أن تكتب أو تترجم، ثمة قدرة للكلمات على هزّ الذات بالفكرة وبالألم الذي ينتقل بالعدوى بين الشاعر وقارئه.

ليس التواضع فحسب سمة إسكندر حبش، بل أيضًا ذلك الرفض والاحتجاج والتخلي في النهاية عن الحياة على طريقته، وتلك الكسور الجوانية، ذلك الحزن الخفيّ الذي يتيحه لك الحديث معه، حزن يبدأ من قبل أن تلتقي به وأنت تقرأ له “أسميك أو أبحث لك عن خديعة/ لتتأكد أن البلاد لم تعد تلك البلاد/ أن الألم لم يعد سوى هذا الألم” … لكن هل يحتاج الألم إلى تأريخ، هل تحتاج الكسور إلى توثيق، ربما تتجمع هنا في هذا الكتاب رؤية إسكندر حبش للعالم، فكرة موسعة عن هذا العالم، أحلامه القديمة، قلقه، رفضه، وتخلّيه، وأشياؤه التي ربما قالها شعرًا ومقالة ولوحة وربما لم يقلها، تلك الصرخات الجوانية في عالم منتِج لهويات محطمة. إسكندر حبش هو من “أولئك المثقفين الذين يأخذون من كل جانب من الثقافة بطرف، وكان يعرف كيف يخوض في كل موضوع” إذا استعرنا من توماس مان عبارته عن دكتور فاستوس، وهنا سنقرأ إسكندر حبش المؤلَّف من أشجار متعدّدة من الثقافات والكلمات، ونقرأ معه بيروت الثقافة وبيروت الكتابة، والرغبة في أن “نعيش في الشعر” و”نموت في قصيدة”.

شعر إسكندر حبش هو بيته، البيت الهوية ومنه يعبر إلى عوالم دفينة وبعيدة، يكتبه بنبرة حزينة وبهدوء لا ينفصل عن شخصيته كأنه يكتب باحثًا عن نقطة تُوقف إيقاع الموت، إنه من ذلك الشعر الذي يشكّل موقفًا من الواقع ومن الحياة ومن الفقدان ومن الموت. نحن أمام مونولوغ شعري، يتحدث فيه حبش مع نفسه، مع أحد ما، مع مكان ما، حزن لا تتوقف عجلته بين السطور، صوت الحزن ينفذ إلينا بالكامل، حوار مع “الأنا” المنهزمة في عالم مفصّل على الشقاء والموت “أنت الآن تبدو كشخص ينظر إلى نفسه وهو يتحلل تدريجيًا/ كشخص لا يجد إلى جانبه سوى الغبار …” فتصير الكتابة هي “البديل من الحياة”، وهي الوطن الذي لا يمكن العيش خارجه، يقول لي في هذا الحوار “نحاول أن نقنع أنفسنا في النهاية، بأننا ننتمي إلى الكتابة، التي شكّلت لنا وطنًا نفصّله على مقاساتنا؛ وطنًا لا تلعب فيه الأفكار القومية الصافية دور الجلاد”. ثمة علاقة ملتبسة بين إسكندر حبش وهذه الأوطان، يحاول التصالح معها، مع الجثث المنتشرة في أرض الثقافة والتشويه الحاصل فيها، إنه يحاول التصالح مع هذا التداول للقتل من جيل إلى جيل، قتل الفكرة، وقتل الشعر والحياة كما يجب أن تكون.

“الذين غادروا” رآهم باكرًا إسكندر يرحلون في ساحة حرب تتناسل بأشكال مختلفة في بيروت فشكّل الغياب أحد ثيمات أعماله الشعرية الأساسية كتبها كمشاهد خلفية لمسرح الأرض المنهزم والحزين. لم تكن الحرب وحدها محرّكًا للغياب، بل تلا ذلك هجرة أخرى عنه لأصدقائه من الوسط الثقافي في بيروت، يقول “ليس الأمر أنك أفسدت أجمل أحلامك وفقدت أثمن سنّيك/ ولا أهمية بالطبع لرؤيتك آخر أصدقائك وهم يخونونك أو يهجرونك”. مع سبعة دواوين شعرية وعشرات الكتب المترجمة وما لا يُحصى من القراءات النقدية والمقالات الأدبية لم يترك إسكندر متّسعًا لنا فيها لأرض أخرى نطأها ونحبها بعيدًا عنه، هي أشياء إسكندر حبش التي ستتدفّق فيك فتتورّط معها ولن تغادرك كما لن يغادرك وهو يقول: “أعدك إن أنت أتممتَ جسدي سأعود…”، “فلا شيء هنا سوى الأرض التي تهبنا الخوف قبل أن تغادر”…

ولا يمكن الحديث مع إسكندر حبش من دون استدعاء أهم الأدباء العالميين، فقد قرّر أن يكون مترجمًا في العشرين من عمره عند قراءته الأولى لبيير ريفردي وفرناندو بيسوا وأوكتافيو باث وآخرين من دون أن ينزاح عن الشعر الذي كان يكتبه بفرادة في الأسلوب لا يشبه فيه أحدًا إلا نفسه. ولا يمكن الحديث مع إسكندر حبش دون أن نستدعي حياته في “السفير” التي شكّلت له أرضيّة عمر كامل من الحب والصداقات والأحرف التي كانت تتساقط على رأسه من بين رفوف الكتب وهو يمارس كتابة الصحافة الأدبية من مكتبه الصغير في مبنى الجريدة لثلاث وثلاثين عامًا كان فيها مسؤولًا عن القسم الثقافي لفترة من الزمن فشكّل إغلاقها هجرة أخرى له من هذا العالم.

بدأ حبش شبابه شاعرًا مشاغبًا ثائرًا على واقع ثقافي تفوح منه المجاملات والصعود عبر العلاقات الشخصية فأصدر نشرة شعرية مع صديقه “شبيب الأمين” أطلقا عليها اسم “ميكروب” هدفها التمرّد على الواقع الثقافي، وبعد عمر من الكتابة والصحافة والنقد والترجمة ظلّ يحمل شعره الاحتجاج نفسه بأبعاد مختلفة وحيث يتساءل في إحدى حواراته: “ماذا نريد من الثقافة في ظلّ هذه الظروف، والعالم العربي لم يعد يعاني فقط من أزمة ثقافة بل من أزمة وجود”.

هل يحق لي أن أسمي إسكندر حبش “الشاعر الصامت” الذي يكلّم الأرض من مكان لا يريد لأحد فيه أن يراه، هو “الجمع بصيغة المفرد” كما يقول أدونيس، وهو الشخوص المتعدّدة في شخص واحد على طريقة فرناندو بيسوا بأوجهه العابثة في هذا العالم فهو الشاعر المترجم والصحافي والناقد والمعّلم الذي علّمني كيف يجب أن تكون الكتابة من دون أن يعلم أنه يفعل ذلك، وهو الرسّام الذي يرسم لنفسه فقط …

مونتريال 6 شباط/ فبراير 2023

شاهد أيضاً

الحبكة المقدسة: جدلية المقدّس والفني في السينما الغربية

(ثقافات) الحبكة المقدسة: جدلية المقدّس والفني في السينما الغربية البشير عبيد / تونس منذ اللحظة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *