*حكيم عنكر
المدن ليست أمكنة عابرة، ولا جدرانا ولا إسمنتا ولا واجهات مقاه أو فيترينات مضاءة، وهي أيضا ليست هذه الكتلة البشرية التي تتلاطم أمواجا في الشوارع وفي الأزقة وعلى أبواب مخافر الشرطة والمستشفيات، وفي المدارس والجامعات والمعامل ومكاتب الإدارات. المدينة عقل وتدبير وفلسفة، فأفلاطون رسم صورة شاملة لمدينته الفاضلة، ولما ينبغي أن تكون عليه.
فما هي المدن؟ وما هو قدر كفايتنا من المدن؟ هل هو شارع مار من طريق الطفولة؟ أم هو مقهى في زاوية؟ أم هي خريطة في يد السائح؟ ولماذا حين تكبر المدن تفقد براءتها الأولى، سحرها الذي يتحول إلى مجرد أحاديث عن الماضي الجميل، وتخسر معناها في جشعها اليومي وتمددها في الجغرافيا.
المدن صنيعة البشر، فهم وحدهم الذين يقسمونها إلى خرائط، ومناطق للجمال وأخرى للخوف. في المدينة يتحرك الشريف والمرابي، الشاعر واللص، المرأة والرجل، الليل والنهار، الحي الراقي المحروس والجيوب السوداء، السلم والجريمة.
بينما تظل المدينة الفاضلة التي بشّر بها أفلاطون، لا توجد إلا في المخيلة.. جيش من البشر ومن الرغبات ومن الشر الذي يتحرك تحت أستار من المتناقضات.
جاءت الفلسفة كي تحل معضلة المدينة، أرسطو ابتكر الأكروبول، هنا في هذا «النادي الإنساني» يمكن أن نتحاور وأن نختلف وأن نتنازل أيضا، فالأقوياء الذين لا يؤمنون بقانون اللعبة، ابتكرت لهم المدينة الحل: ساحة الأكروبول للنزال الشريف، والمحكمون من خاصة الخاصة وعقلاء القوم، والشعب للتهييج وإثارة الحماس.
هذه هي المدينة، التي لم نبتعد كثيرا عن مصممها الأول وعقلها اليوناني، فقد اتسعت وأصبحت المدينة الواحدة مدناً كثيرة، وقبائل تتناحر وأحزاباً من كل ملة ونحلة. ولكي تسلك مدينة عليك أن تفقه عقلها الباطني وحياتها السرية و»كهنتها» الجدد، عمداء، مجالس، بلديات، مقاطعات، أحياء تلحق بأخرى، أحياء تمزق وتكسر شوكتها وتوزعا رقعا انتخابية.
لم يهرب الأدب المغربي من «قدره المديني». إنه قدر لا مفر منه. لذلك انكتب في الأعمال القصصية والروائية والشعرية بما يمكن أن نسميه بـ»صدمة الكتابة عن المدينة» أو صدمة العيش في أكناف مواضعات المدينة، وانتهى الأمر إلى تشكيل نوع من الصورة الجاهزة النمطية عن الفضاء المديني، في حين تدعو الضرورة اليوم إلى تفكيك خطاب المدينة المغربية، والتي تختلف كثيرا عن مدينة بداية الاستقلال، لكن إذا كان نمط الإنتاج يفرز وعيه، فإن التمثلات ظلت هي هي، في مدينة مغربية تحتاج إلى الحرية والديمقراطية والعدالة كي تكون وتتحقق، وتلك هي المفارقة.
حين يكتب كاتب مغربي عن فضاء المدينة، يكتب من وراء زجاج، زجاج المقهى أو زجاج نظارتيه، خوف ما يجعله لا يرتمي في حضن الواقع، يريد أن يحتمي من شيء ما، من خطر داهم أو من اقتحام للمكان غير المؤمن، وفي النهاية تأتي تلك النصوص، مثل تعليق هامشي، أو حاشية، بينما يظل الجوهر بعيدا عن القبض.
بكل تأكيد، تحتاج الكتابة عن المدينة إلى كفاح يومي، وإلى وعي حاد بالتغيرات التي تمس المكان، فأغلب نصوص الكتاب عبور سريع في فضاء المدينة أو نوستالجيا يصنعها وعي القرية.
___________
* كاتب من المغرب.
(المساء) المغربية.