الشاعر يكتب “بكائيات غزّة”
معن البياري
في ظلال الرّكامِ الثقيلِ/ نَرى بعضَنا بالأصابع/ نُحصي اللّهاثَ/ ونبكي/ إذا نقصَ اللاهثون. … هذا ما قاله غزّيون، وهم في المذبحة، لمّا تمثّلَ صوتَهم في 30 قصيدةً له الشاعر الأردني، عبد الله أبو شميس (1982)، في مجموعته الخامسة “بُكائيّات غزّة” (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2025). قالوا في هذه القصائد عن أحزانهم، عن موتٍ يروحُ ويجيء إليهم، عن قتلٍ يتنكّبهم، بالقصف وغيره، عن كثيرٍ مما كانوا فيه في غضون المذبحة اليومية عاميْن، انكتبت في خمسة شهورٍ منهما هذه القصائد التي تعدّ من أهم المحاولات الشعرية الفلسطينية بشأن الإبادة في غزّة. ولا يخدِش من قيمة الشعرية الحاذقة لدى أبو شميس (مهندس ودكتوراه في النقد الأدبي)، في نصوصِه هذه، الرهيفة حقّاً في إيقاعها، ونبْرتها، وموسيقاها العروضية، أن توصَف محاولةً، لأن الذي انكتَب من شعرٍ وسردٍ عن المقتلة وفظائعها في غزّة سيبقى محاولاتٍ، فملاحمُ وسرودٌ كبرى لن تكفي غزّة، وسيبقى الإبداع في الآداب والفنون، فلسطينيّاً خصوصاً، وعربياً عموماً، في تحدٍّ ثقيلٍ أمام المقتلة الكبرى هناك، أقصد أمام تمثيلها والتعبير عن فداحاتها الباهظة، وتشخيصِ ما أمكن منها. والأدبُ، في عمومه، جهدٌ لغويٌّ في التعبير عن الذات والمجموع، يتوسّل الإبداع والابتكار والتجاوز والإضافة في كل محاولةٍ في هذا الجهد. والذي صنعَه شاعرُنا في قصائده الثلاثين (وخمسٍ أخرى لا تغيب فيها فلسطين) أنه شاهَد الذي شاهدْناه مما تواتر على الشاشات من غزّة، فوجد في حشاياه ما يدفعُه إلى أن يسمَع أصوات الذين هناك، عندما يتناجون مع الموت الذي يُلاحقهم. والزعم هنا إنه نجح في أن يُشعر قارئ قصائده بالذي ينطق به الغزّي هناك.
من يموتونَ/ في وضح الكاميراتِ/ كثيرون../ لكنّ أكثرَنا/ من يموتون/ في عتمة الزاوية… ومن هم غير أصحاب المخيّلات، المبدعين من قبلُ ومن بعد، أقدرُ على كتابة موت هؤلاء عندما يقتُلهم الغُزاة الأعداء، مجرمو الحرب المعلومون في غزّة. في وُسع الكاميرات أن تنقل الشناعة وبعض تفاصيل الجريمة، غير أنها القصيدةُ ما يمكنُها أن تنقل الشَّجا والأنين والأسى، أو أن تتصوّره أو تتنفَّسه. لقد بلغت الجريمة هناك مدىً يتحدّى قرائح أهل الشعر والسرد العظيمين. ولكن عبد الله أبو شميس يُحاول أن يكون هناك، أو يكون أحد الناجين، فيقولون في واحدة من قصائده: بعضُنا حسنُ الحظِّ،/ إذ ماتَ/ ماتَت بجانبهِ/ كاملُ العائلة/ أمُّه وأبوه/ وزوجتُه/ وابنتاه/ وأبناؤُه/ كلّهم رحلوا معه../ لا دموع تسيلُ/ ولا حسرةٌ قاتِلَهْ. … وفي المقطع التالي، والأخير من القصيدة وعنوانها “بعضُنا حسن الحظ”، نقرأ “بعضُنا حسنُ الحظ:/ حين عثرْنا عليه/ وجدْنا بإصبعه/ خاتماً فضّةً/ لم يذُبْ../ ووجدناهُ/ لم يتمزقْ/ وجثته كامِلَهْ.
لا غضبَ كثيراً في قصائد المجموعة الشعرية الرائقة، إلا في سطورٍ عابرة، كأنّ الشاعر لا يستشعر في المتروكين في غزّة للقتل مساحةً فيهم لهذا، ولا وقتاً ليغضَبوا، وإنْ يحدُثُ أن يغضبوا. فلا أظنّهم يُفضون بشعورٍ كهذا، وهم يُفصحون: أيّها الهاتفون بأسمائنا،/ نحنُ لا نعشقُ الموتَ/ لا في سبيل الخلودِ/ ولا في سبيل الحياة. … وفي المقطع التالي: الخيامُ الرديئةُ/ ليست تَقينا الصواريخَ/ والنارُ ليست سلاماً عليْنا.. وحيدونَ/ أقصى الذي نتمنّاهُ/ أن تخرُج الروحُ منّا/ سريعاً/ وتُسعفنا بالنجاة. … الشعر هنا ليس معنيّاً ببناء صور واستعاراتٍ وبناء مجازات، والناس هناك، وهم في غضون القتل، لا يتوسّلون مشابهاتٍ وهم يحكون عمّا هم فيه، فالماثلُ بين ظهرانيهم ينطق عن نفسه. يكفي أن يقولوا الذي في جوّانيّاتهم. ثمّة المباشرة التي تفيض إيحاءاتٍ ودلالات، من قبيل هذا المقطع الذي يضجّ بالألم الغزّي الشاهق: تتعقّبُنا الطائراتُ الذكيةُ../ من لم يمُتْ بالقذيفةِ/ ماتَ بأخرى../ ومن أهملتْه الصواريخُ/ سبْعاً/ ستُدرُكه الضربةُ الثامنة.
انتهت الحرب الظالمة. والصور قدّامنا على الشاشات لغزّيين يعودون إلى بيوتهم وأحيائهم المدمّرة، من جنوبٍ إلى شمالٍ ووسط. وكان عبد الله قد كتَب: قد نزحنا كثيراً/ وسِرنا/ بنفس الطريق/ مراراً … والمعالمُ/ في كل شوطٍ،/ تقلُّ../ ونحن نقلُّ../ كأن المدينة/ تلعبُ غُمّيضةً/ والمعالمَ/ من خلفها/ تتوارى. (…) … وكأن يداً ضخمةً/ لا تملّ من المحو/ تُمسك ممحاتَها/ في هدوءٍ/ وتمسحُ أشياءَنا. … والرأي أن من أعظم وظائف كل شعرٍ جميل، وعالي البناء، أن يقاوم أيّ محو، وواحدةٌ من مهمّات الأدب العظيم المرتقَب عن مذبحة الإبادة في غزّة أن يصونَها من المحو، فلا يسهو عنها الضميرُ الكونيُّ في الراهن والبعيدِ المقبلِ من الزمن
-
عن العربي الجديد