في اقتفاء أثر مولانا خالد النقشبندي

فاطما خضر

يروي كتاب «موجز الرحلتين في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحين» للكاتب العراقي سردار عبد الله سيرة الشيخ خالد النقشبندي (1777–1827)، المتصوّف والمناضل الذي جدّد الطريقة النقشبندية وحملها من الهند إلى كردستان وبغداد. يجمع العمل بين الرحلة والبحث والتاريخ، كاشفاً أثر شخصيةٍ صوفيّة شكّلت جزءاً من التاريخ الروحي والفكري والثوري للمنطقة

غريباً وبعيداً من وطنه الأم، (حيث وُلد في قرية قَرَداغ القريبة من مدينة السليمانية، في كردستان العراق، حوالى 1777)، لكنْ مُكرَّماً من مريديه، رحل الشيخ الصوفيّ خالد النقشبندي المجدّدي (1827)، تاركاً وصاياه الترابيّة العميقة: ألّا يُبكى عليه، وألّا تُعدَّد مناقبه، أن يُكتب على ضريحه الذي أكّد عدم البناء عليه: «هذا قبر الغريب خالد».

هكذا على سفوح قاسيون، في منطقة «ركن الدين»، رقد ذو الجناحين، في دمشق التي جاءها منفيّاً، بأمر من السلطات العثمانية، التي أجبرته حينها على ترك العراق، ومغادرة بغداد، بعدما تعرّض للتكفير، ولمحاولات عدة للاغتيال.

حتّى بعد نفيه، لم تتركه السلطات العثمانيّة وشأنه، بل ظلّت تُراقبه مراقبةً حذرةً. بل أكثر من ذلك: بعد وفاته بأيّام، أصدر الباب العالي أمراً بإبعاد خلفائه عن العاصمة العثمانية.

سيرة موزّعة بين العراق والهند

في كتابه «موجز الرحلتين في اقتفاء أثر مولانا ذي الجناحين»، (دار نوفل/ هاشيت أنطوان)، يأخذنا الكاتب والسياسي العراقي سردار عبد الله في رحلة طويلة، نتنقّل فيها بشكل أساسي بين العراق والهند.

رحلةٌ هدفها الأساسي حصوله على نسخة من مخطوط الشيخ خالد النقشبندي، والتعرّف إلى المَزار الذي عاش فيه عاماً كاملاً، إذ نوى سردار أن يكتب روايةً عنه: «أضحيتُ متشوقّاً للوصول إلى حيث يعبق عطر مولانا؛ إذ يستحيل عليّ كتابة روايتي عن هذه القامة الشامخة، هذه الشخصيّة الفريدة الأشبه بأبطال الروايات، قبل أن أزور الأماكن والمحطّات المهمّة في حياته».

أمر استلزم من سردار أن يفتّش عن خانقاه (مَزار) الشاه عبد الله الدهلوي، حيث درس وسكن وعاش النقشبندي مدّة عام كامل في مدينة جيهان آباد الهندية القديمة، في منتصف القرن التاسع عشر، وتبنّى الطريقة الصوفية النقشبندية، وجدَّدها. عاد بعدها إلى كردستان، ثمّ إلى بغداد، مُجدّداً الطريقة النقشبنديّة، لترتبط بعد ذلك باسمه «النقشبندية الخالدية»، ما أسهم في إحداث تغييرات وتحوّلات فكرية وسياسية عميقة، رسمت في تلك المدة ملامح المنطقة.

في منطقة «ركن الدين»، رقد ذو الجناحين في دمشق التي جاءها منفيّاً

مثَّلت تلك الطريقة بديلاً روحيّاً وسياسيّاً ملأ فراغ السلطة بعد سقوط ولاية بغداد والإمارات الكردية. وكان من آثار ذلك حدوث تحوّل كبير في تركيبة الزعامة الكردية، التي انتقلت من طبقة الأمراء والإقطاع إلى رجال الدين المتنوّرين، الذين كانت غالبيتهم من أتباع الطريقة النقشبندية الخالدية.

بُعد ثوريّ ومقاوم للإمبراطوريات

حملت هذه الطريقة بُعداً ثوريّاً ومقاوماً للإمبراطوريات القائمة آنذاك، حيث تتلمذ كثيرون من الثوّار على يد الشيخ النقشبندي، من كردستان إلى الجزائر.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أشعل ذو الجناحين ثورةً شملت كلّ أجزاء كردستان. واستمرَّ الجوُّ النضالي القومي تحت لواء التصوّف النقشبندي الخالدي، حتّى بعد نفيه، بدءاً من خليفته السيّد طه النهري، إلى ولده عبيد الله النهري، الذي أجمع المؤرخون والباحثون على أنّ ثورته كانت بمنزلة ولادة الحركة القوميّة الكردية المناضلة، من أجل التحرّر وتأسيس دولة كردستان المستقلّة الموحّدة؛ والذي انتقل من بعده إلى ولده «عبد القادر».

ثُمّ انتقلت جرأة النقشبنديّة في التصدّي للدولتين القاجارية والعثمانية إلى خصومهم الكرد من أتباع الطريقة القادرية، واستمرّت المقاومة، إلى أن أُجهضت الثورة في ساحة المسجد الكبير في ديار بكر (1925). إذ دعم الروسُ القاجارَ بكلّ السبل، وفي المقابل عمل الإنكليز كجواسيس لمصلحة الدولتين القاجارية والعثمانية، وأمدّوهم بكل ما حصلوا عليه من معلومات عن الثورة والثوّار.

وفي الجزائر، قاد الأمير عبد القادر الجزائري ثورة شعبه ضدَّ المستعمر الفرنسي، بعدما تتلمذ على يد ذي الجناحين في دمشق، التي جاء إليها مع والده، وبقي فيها أشهراً عدّة كمريد للنقشبندي.

«موجز الرحلتين» إلى الهند

حمل عنوان الكتاب طبقات عدة من المعنى، يمكن تفكيكها لفهم مغزاها الكامل. تُشير عبارة «موجز الرحلتين» إلى ملخَّص رحلتين بحثيتين، قام بهما المؤلّف إلى الهند (2018).

لم تكن الرحلة الأولى موفّقةً، بل كانت مُحمّلةً بالآلام والإحباط، وتزامنت مع فرض عقوبات وحصار جويّ وبريّ على الأكراد في كردستان العراق، شملت هذه العقوبات مطارَي السليمانيّة وأربيل. ورغم المشقّة التي تكبّدها سردار، ورواها في الكتاب، لم يصل إلى غايته المنشودة، بعد سلسة وعود لمساعدته، وقلّة معرفة منه بالاختلافات ما بين ثقافته والثقافة الهندية. أحدها أنّ معظم سكّان تلك البلاد نادراً ما يتذكّرون وعودهم، وأنّك قلّما تسأل شخصاً عن أمر ويُجيبك ببساطة: «لا أعرف»، فحتّى لو سألته عن عنوان ما، ولم يكن يعرفه، سيُشير لكَ في اتجاه ما، ثمَّ تكتشف أنّه خاطئ.

أمّا الرحلة الثانية فكانت أكثر فائدةً ومتعةً، إذ زار فيها مركز «مايكروفيلم النور» حيث اشترى نسخة إلكترونية على قرص مدمج أخبروه أنّها للشيخ النقشبندي. لكن اتضح بعد عودته أن غلاف المخطوطة هو فقط يعود إلى ذي الجناحين، أمّا المتن فيعود للإمام الربّاني. وزار المدرسة الرحيمية، وروى في كتابه الكثير عن هذه الزيارة. كما زار المسجد الجامع الذي ظنّ أنّه سيجد داخله المكان الذي عاش فيه الشيخ النقشبندي، فيتمكّن من تتبُّع تفاصيله!

وعندما يئس تماماً وهو يسأل عن خانقاه الشاه عبد الله الدهلوي من دون أن يعرفه أحدٌ، اتضح له في النهاية -وبعد تعب- أنّ الخانقاه الذي فيه مرقد الشاه الدهلوي معروف في الهند باسم «دركاه شاه أبو الخير»، وأنّ الشاه الدهلوي قدّر له أن يحمل اسمين: «غلام علي» الذي اشتهر به في الهند، (إذ رأى والده في الحُلم مَن بشّره بغلام عليه أن يُسميه باسم الإمام عليّ بن أبي طالب، فنذر والده أن يكون ابنه غلاماً وخادماً للإمام علي)، و«عبد الله الدهلوي» الذي اشتهر به في شتّى أصقاع الأرض. ما فسّر صعوبة وصول سردار إلى غايته في الرحلة الأولى، وحتّى نهاية الرحلة الثانية، حيث استطاع داخل «دركاه شاه أبو الخير»، التعرّف إلى الخانقاه الذي عاش فيه ذي الجناحين قبل قرنين من الزمن.

يصف سردار الخانقاه في فصل مفصّل: الأبواب، الحجرات، الجدران بما عليها من نقوش وآيات، مكان الوضوء، المسجد، الصخرة الكبيرة المسطحة داخل الخانقاه ورمزيّتها، المكتبة التي امتلأت رفوفها بشتّى أنواع المخطوطات والمطبوعات باللغتين العربية والفارسية في التاريخ والتصوّف والحديث والتفسير والأدب واللغة، إضافة إلى الأضرحة الأربعة، الذي يعود الثاني منها إلى الشاه غلام عليّ، أي الشاه عبد الله الدهلوي. أمّا «اقتفاء أثر» فتمثّل الهدف الرئيسي للرحلتين.

تعدّدت الألقاب

أمّا «مولانا ذو الجناحين» فهو واحد من ألقابه التي تعدّدت: الخالدي (لأنّ اسمه خالد)، والبغدادي (لأنّه سكن في بغداد)، والسليماني (نسبةً إلى منبته في السليمانية)، والشهرزوري (نسبة إلى إقليم شهرزور الذي يضم المنطقة التي وُلد فيها)، والجافي والكردي (لأنّه من عشيرة الجاف الكردية)، والمجدّدي (لأنّه مُجدّد النقشبندية)، وذي الجناحين (لأنّه جمع بين جَناح الشريعة: أحكام الدين الأساسية؛ وجَناح الحقيقة: البُعد الباطني والروحي للإسلام). ويُمثّل هذا اللقب الأخير، لبَّ الاستعارة في العنوان، إذ استطاع بالجناحين أن يصل إلى مراتب عالية من المعرفة والسمو الروحي.

يستخدم المؤلف صورة أخرى لتوضيح علاقته بموضوع بحثه «مولانا ذي الجناحين»؛ فيشبِّه نفسه «بنملة» تحاول اقتفاء أثر «نسر»، ما قد يُشير إلى ما شعر به من تضاؤل وتواضع، وهو يحاول تتبُّع أثر شخصية صوفيّة ذات مكانة عالية كالنقشبندي: «كيف لنملة أن تطارد نسراً؟ كيف لمريد أن يقتفي آثار شيخ حمل الشريعة على جناح والحقيقة على آخر، وجاب بهما أصقاع الدنيا مُحلّقاً؟».

في المحصِّلة، جمعت رحلتا سردار إلى الهند، الاستكشاف الجغرافي والبحث التاريخي والتأمُّل الفكري، لينتج منهما كتابه هذا، الذي لم يكتفِ فيه بتسجيل مشاهداته المباشرة في الهند، بل خلط بين السرد التاريخي الموضوعي (الموثّق بمراجع في نهاية الكتاب)، وسرد التجارب الشخصيّة والعجائب والطرائف التي صادفها في رحلتين، تبدوان ظاهريّاً مجرّد بحث عن مكان ماديّ (الخانقاه)، إلّا أنّهما شكَّلتا رحلةً لاكتشاف كنوز المعرفة والمعاني، صاغ عبرهما كتاباً جمع بين التاريخ والتصوّف وسيرة عن شخصية صوفيّة شكَّلت جزءاً من التاريخ الروحي والفكري والثوري للمنطقة.

  • عن الأخبار اللبنانية

شاهد أيضاً

الشاعر يكتب “بكائيّات غزّة”

الشاعر يكتب “بكائيات غزّة” معن البياري في ظلال الرّكامِ الثقيلِ/ نَرى بعضَنا بالأصابع/ نُحصي اللّهاثَ/ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *