الزمن وأنا

الزمن وأنا

إبراهيم عبد المجيد

أنفقت ثلاثة أيام في قراءة هذا الكتاب للفنان فاروق فلوكس، ليس لأنه فنان صاحب بصمة في الأداء فقط، لكن لأني أعرف أنه مثقف وقارئ نهم للأدب والفكر، جمعت بيننا الظروف ذات مرة، لأيام طويلة في تصوير مسلسل كتبته عام 2003 وأخرجه عمر عبد العزيز، وظهر فيه فلوكس في الحلقة الثانية عشرة في ما أذكر، فأخذ الانتباه من الجميع حتى نهاية المسلسل في الحلقة السادسة والعشرين. سيأتي الحديث عن هذا المسلسل في ما بعد.
في هذا الكتاب الذي نشرته دار صفصافة منذ أكثر من عام، ويقع في أربعمئة وسبعين صفحة من القطع المتوسط، نجد رحلته التي سماها «الزمن وأنا- مذكرات فاروق فلوكس بين الهندسة والفن والحياة»، رواها الكاتب الصحافي حسن الزوام، بعد أن بلغ فاروق فلوكس الخامسة والثمانين من عمره. هو من مواليد العاشر من فبراير/شباط عام 1937 بعد وفاة الملك فؤاد بعشرة أيام. والده وأمه كانا يعيشان في شقة تطل على ميدان عابدين، حيث قصر عابدين للحكم. منحه أبوه اسم فاروق الملك الجديد.
هنا اطلالة على الحالة الاجتماعية والسياسية، التي يعبّر عنها الميدان وسكانه، حين كانت مصر كوزموبوليتانية، فيها كل الأجناس والأديان. يأخذ التعليم والكتاتيب والمدارس التي ألحقوه بها مساحة كبيرة، حتى صار في كلية الهندسة جامعة القاهرة. مساحة الميدان وقريبا منه ميدان الإسماعيلية أو التحرير في ما بعد، أعطته الفرصة للشقاوة، فكان يلعب الكرة في الميدانين، ويتأخر في العودة إلى البيت، ما يجعل أمه تعاقبه وأحيانا أبوه. من الدراما المبكرة أنه تأخر مرة، فسأل أبوه أحد الأطفال عنه، فقال له لقد مات فاروق، ونقلته الإسعاف إلى المستشفى. بحثوا في المستشفيات فلم يجدوه وأقاموا عزاء أمام البيت وإذا بهم يرونه راجعا متأخرا.
لا تفوته أحداث سياسية مثل حادث أربعة فبراير 1942 الذي فرض فيه الإنكليز على الملك فاروق، أن يكون مصطفى النحاس رئيسا للوزراء. ولا إعجابه بفريق كشافة الإخوان المسلمين، فطلب من أبيه أن يضمه إليهم وحدث، لكن لم تعجبه الأوامر والطاعة العمياء فابتعد عنهم. ولا أحداث مثل وباء الكوليرا عام 1946 الذي فتك بالكثيرين، وحاصرهم في بيوتهم، فلم يعودوا يلعبون. ثم حركة يوليو/تموز وانتهاء الملكية وبدء عصر الجمهورية.
انتقال والده إلى أكثر من مكان، أوله بعد هذه الأحداث شقة في شارع القصر العيني، فالإيجارات قليلة والشقق متاحة. أحب القراءة فقرأ حديث «عيسى بن هشام» للمويلحي، وكتبا للعقاد وروايات لنجيب محفوظ. كانت مجلة «الهلال» هي نافذتهم على الحياة، ومع الزمن صار عنده كل ما صدر منها من أعداد. من المثير حالته العاطفية التي تمشي معه طوال حياته، وليس وراءها إلا رقة قلبه. رأى فتاة جميلة في شرفة مقابلة لبيتهم فوقع في غرامها. أعطي خادمتها خطابا غراميا لتوصله إليها فناداه أخوها وسأله عن الخطاب. اعتذر له وأخذ الخطاب الذي رآه أبوه بين أوراقه فكتب عليه» الحب مذلة وعار لا يرضى به إلا الحمار». أعجبته فتاة رآها في ترام شبرا فنزل وراءها وطرق باب البيت فخرج له شخص. سأله فاروق عنها وعرف من حديثه أن اسمها ماتيلدا. أخبره إنه يريد أن يتزوجها ففوجئ بأن الرجل هو زوجها. أكثر من حكاية بريئة تتكرر وتنتهي بلا زواج، مثل حكايته في بيروت مع «أماني» وحكايته مع فاطمة. اشترك مع الفدائيين عام 1956. في كلية الهندسة سأله زميل له هل تحب أن تمثل؟ عرف أن في الكلية فريق تمثيل فالتحق به، وتبدأ الرحلة بكل تفاصيلها.

ما بين التقدم في الوظائف كمهندس في أكثر من مصلحة، والتمثيل في الفرق المختلفة مثل الفنانين المتحدين وفرقة الريحاني وغيرها كثير. من قابلهم في الجامعة وبعدها مثل أبو بكر عزت وسمير غانم، وأسماء كثيرة والتعاون العظيم مع الضيف أحمد. كيف جاء لقب فلوكس من خلاف مع شاب في أحد معسكرات الشباب كان يشاغبه بكلمة «يا أقرع»، فقال له الشاب «أنت فلوكس»، رغم أن الكلمة صدرت في إطار الذم ولا يعرف معناها، أعجبته وجعلها لقبا له. عرف معناها في ما بعد في اتصال بصديقه توحيد ابن الشاعر أحمد رامي، فرد عليه رامي وسأله عن اسمه ليخبر ابنه حين يأتي لأنه غير موجود، فقال له اسمه. سأله أحمد رامي هل فلوكس بحرف اللام أم فدوكس بحرف الدال؟ سأله عن الفرق فقال له رامي أن فدوكس بحرف الدال اسم من أسماء الأسد، وبحرف اللام اسم لنبات ينمو في المياه الراكدة. تمر السنين عاما بعد عام حتى 2016 أي أكثر من سبعين سنة. خلال هذه الرحلة تأتي أسماء الأعمال التي ساهم فيها في التلفزيون والمسرح والسينما بكل من فيها وكل ظروفها بتوثيق دقيق. حتى الخلافات والأسافين التي كان يعبرها ولا يقف عندها. أزمة تمثيله دورا في فيلم تم منعه هو فيلم «درب الهوى» يقوم فيه بدور شخص شاذ في بيت دعارة، وحمل اسم «سكسكة». كيف تكرر الدور تقريبا في فيلم «الراقصة والسياسي». أزمة هذا الدور في مدرسة أولاده وبنته حتى قالت له مرة إني أكرهك. كيف كانت تتم السخرية منهم والتنمر عليهم، فذهب إلى المدرسة وشرح للتلاميذ بعد موافقة الناظر، الفرق بين التمثيل والحقيقة، فتوقف التنمر.

لم يعد هو لمثل هذا الدور لكن عام 2003 وهذا ما أجلت الحديث عنه، يطلب منه المخرج عمر عبد العزيز المساهمة في مسلسل كتبته أنا وهو «بين شطين وميه» فيقوم بدور راقصة ذهبت إلى أمريكا وعادت بعد ربع قرن وقد صارت رجلا، بعد أن ظهرت عليها علامات الذكورة هناك، وأجرت عملية للتحول. تردد هو في البداية لكن عمر عبد العزيز أقنعه، وبالفعل أخذ الأضواء بين الجميع، وكانت البطولة لحسين فهمي وعبد الله فرغلي وسلوى خطاب وزيزي مصطفى وغيرهم. كانت هذه هي الأيام التي اقتربتُ منه فيها، وعرفت كم هو مثقف كبير.. نعود إلى الكتاب وكيف طاف البلاد مع مسرحيات مثل مسرحية «شاهد ما شافش حاجة» لعادل أمام. أحاديث رائعة عن البلاد مثل، أمريكا وألمانيا وبولندا وحتى أستراليا فضلا عن العالم العربي.
قصص حب في بيروت وغيرها لم تكتمل. زواجه عام 1977 وهو في سن الأربعين من السيدة سميرة المانسترلي، التي أنجب منها ابنته يسر ثم أحمد ثم هبة قبل الطلاق. زواج آخر من السيدة نيرة لثلاث سنوات، وحدث الطلاق لكنها كانت السنوات الأجمل في حياته. رغم التأريخ التوثيقي لكل أعماله فلا تمل، وتكتشف كيف أن مواهب فنان مثل عبد الله فرغلي جعلته يكتب مسرحيات وقصصا، وكيف أخرج الضيف أحمد أيضا وشاركه هو، وكيف ترجم هو أعمالا عالمية لتتحول إلى مسرحيات. وكيف رغم أسافين كثيرة يصرف من جيبه على ملابسه في التمثيل وإكسسواراته، وأحيانا يعطي الفنانين. كيف ساهم في تغيير المشاهد مع المخرج أو المؤلف، بما يقنع النجوم. فرقة مثل المسرح الجامعي، التي كان صاحب فكرة تأسيسها، ومسرحيات أخرجها في الجامعة. بعد تخرجه من كلية الهندسة، فشل في الالتحاق بمعهد السينما، إذ رفض عميد المعهد حسن فهمي الذي كان أستاذه في كلية الهندسة، أن يلتحق بالمعهد بينما هو مكلف من الدولة للعمل كمهندس. كان حسن فهمي هو والد فريدة فهمي راقصة مصر الأولى في الفن الشعبي فقال له فلوكس «أنت شجعت فريدة لتكون راقصة عالمية فلماذا لا تعطيني الفرصة؟» لكنه رفض. حتى في ما بعد حين حاول الانضمام إلى نقابة المهن التمثيلية رفض حمدي غيث رئيس النقابة لأنه مهندس وغير متفرع، فاستقال من عمله وحصل على عضوية النقابة. ينهي الكتاب بحديث عن أجمل الأصدقاء وكيف أحب الإسكندرية. أعود فأقول إنه رغم التأريخ التوثيقي لأعماله فأنت في رحلة رائعة مع عالم الفن والفنانين بما فيه من طموحات وأسرار، وجهد رائع لراوي الكتاب حسن الزوام.

  • عن القدس العربي

شاهد أيضاً

في مديح لاسلو كراسنهوركاي، صاحب “تانغو الخراب”

أريد يا لاسلو، أنْ تأتي لزيارتنا، فلعلّكَ تكتب “رقصةً” أخرى خاصّة بالخراب الشرقيّ الذي يعمّ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *