القصائد الطوال في الزمن السريع … في غياب الظاهرة وانقراضها

*عارف الساعدي

تذكرتُ وأنا أقرأ قصائد عددٍ من الشعراء، سواءٌ من على صفحاتهم الشخصية في «فيسبوك» أو «تويتر» أو «إنستغرام» أو في مجاميعهم المطبوعة حديثاً، القصائد الطوال التي كنا نقرأها للشعراء الكبار، عراقيين وعرباً. ذلك أنَّ قصر معظم تلك النصوص هو السمة الغالبة على معظم نتاج هذه الأجيال، علماً بأنَّ «فيسبوك» مثلاً لا يشترط عدداً محدداً من الحروف، بخلاف «تويتر» الذي يحدد صاحبه بعددٍ محددٍ من الكلمات والحروف، وهي طريقة للتكثيف والاختزال بعيداً عن الثرثرة، وبأقل عددٍ من الكلمات، لهذا أرى أنَّ عدداً لا يُستهان به من الشعراء بدأوا يميلون إلى عددٍ محدودٍ من الأبيات الشعرية، أو مقاطع محددة، لا تتجاوز الأسطر الخمسة أو العشرة.

ومن خلال هذا الكشف البسيط لتجوالنا في حدائق الشعراء، عراقيين وعرباً، نستطيع أنْ نقرأ الواقع السريع الذي يلفُّ المجتمعات، ذلك أنَّ القصائد الطوال إحدى أهم سمات الشاعر «الفحل» في زمن من الأزمان. فقد كان لا يُعتدُّ بالشاعر حتى نهاية السبعينات -كما أظن- إلا إذا كان له نَفَسٌ طويلٌ في كتابة القصائد، بحيث تتجاوز تلك القصائد المائة بيتٍ، كما كان يكتب الجواهري، ومحمد صالح بحر العلوم، وعمر أبو ريشة، وبدوي الجبل، وعرار. فمثلاً، قصيدة «المقصورة» للجواهري ما ضاع منها أكثر مما ثبت في الديوان.

وحين نصل إلى تجربة الحداثة، نجد أنها لم تنج من هذه الظاهرة، فقد رفد السيَّاب الديوان العربي الحديث بمجموعة من القصائد الطوال، مثل «المومس العمياء» و«الأسلحة والأطفال» و«حفار القبور»، وقصائد أخرى هي أقرب إلى مجموعة كاملة. وهذا ما حدث مع البياتي أيضاً، حيث كتب مجموعة من القصائد الطوال، مثل «قمر شيراز» و«بستان عائشة». وكذلك الحال في «حارس الفنار» و«أعماق المدينة» لمحمود البريكان، و«الأخضر بن يوسف» لسعدي يوسف، و«المعلم» ليوسف الصائغ.

وتكاد تكون هذه التجربة ملتصقة بتجربة جيل الريادة أكثر من غيرهم، وقد لخَّصها الشاعر سامي مهدي، بل استغرق في ذكر أسماء شعراء غير معروفين الآن مع قصائدهم الطوال، في مقالة مطولة حول القصائد الطوال وجيل الريادة بكتابه «ذاكرة الشعر». فمعظم ذلك الجيل اتسم بكتابة القصائد الطوال، بل البعض من الشعراء كتب قصيدة واحدة، وطبعها في كتاب بوصفها ديواناً واحداً. وربما كان جبران خليل جبران قد سبق الجميع في قصيدته الطويلة «المواكب» التي خرجت بوصفها ديواناً مستقلاً، كما سبق أنْ قام الجواهري بطباعة ديوان هو عبارة عن قصيدة واحدة، كما في ديوانه «يا نديمي» وديوان «مرحباً أيها الأرق»، وكذلك مجموعة «الصوت» لعبد الرزاق عبد الواحد، وهي عبارة عن قصيدة واحدة، ولكنها طويلة امتدت على صفحات مجموعة كاملة. وهذا ما حصل مع نزار قبَّاني في ديوانه الذي كتبه لزوجته بلقيس بعد مقتلها «قصيدة بلقيس» التي جاء فيها: (بلقيس كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل| بلقيس كانت أطول النخلات في أرض العراق| كانت إذا تمشي| ترافقها طواويس| وتتبعها أيائل…)، وهي قصيدة رثائية يختلط فيها وصفه لبلقيس وجمالها بهجائه للزمن العربي الذي كانوا فيه.

وتكاد تشكل القصائد الطوال التي تحولت إلى مجموعة بكاملها ظاهرة في الشعرية العربية، ذلك أن عدداً كبيراً من شعراء الحداثة، وحتى الكلاسيكيين، لديهم مثل هذا التقليد الشعري، وما «جدارية محمود درويش» إلا جزء من هذه الرؤية للعمل الشعري التي تؤمن بالوحدة العضوية والموضوعية للنص الطويل، منطلقين من فكرة أن الشاعر بإمكانه أنْ يحافظ على خيوطه متماسكة مهما امتدت به الصفحات (هذا هو اسمك| قالت امرأة وغابت في الممر اللولبي…).

وقد امتدت مثل هذه التجارب حتى للأجيال القريبة منا، كالجيل الثمانيني. فمثلاً، أصدر عدنان الصائغ مجموعة «نشيد أوروك»، وهي عبارة عن قصيدة واحدة طويلة جداً، وكذلك أصدر عبد الرزاق الربيعي مجموعة أهداها لزوجته الراحلة، وهي قصيدة طويلة أيضاً اسمها «ليل الأرمل»، فيما أصدر الشاعر حسب الشيخ جعفر مجموعة في 2010، هي عبارة عن قصيدة واحدة اسمها «رباعيات العزلة الطيبة»، وكذلك فعل الشاعر ياسين طه حافظ في مجموعته «مخاطبات الدرويش البغدادي» (2014)، وهي تجربة صوفية حاول أن يجمعها في قصيدة واحدة، ولكنها طالت حتى أصبحت مجموعة كاملة.

وربما نجد في تراثنا العربي القديم أوجهاً كثيرة مشابهة لهذا النمط من الكتابة. فقد ظهرت معلقات بمئات الأبيات، وما قصيدة الشنفرى الطويلة «لامية العرب» إلا وجه من هذه الوجوه. ولدينا نماذج كثيرة في تراثنا العربي بهذا النمط، مثل معلقة عمرو بن كلثوم، وامرئ القيس، وقصائد الفرزدق، وآخرين. ولكن حين نصل إلى العصر العباسي، تبدأ هذه الظاهرة بالانحسار لتعدد مناحي الحياة، وتعقد شبكة العلاقات التي تحولت من البداوة إلى المدنية التي لا تحتمل كثيراً من الكلام والثرثرة الفائضة. وبمرور سريع على أهم شعراء العصر العباسي، سوف نجد معظم قصائدهم تتراوح بين العشرين والثلاثين بيتاً، وهي في العموم نسبة متزنة من حيث الكم، وهذا موجود لدى أبي نواس، ومسلم بن الوليد، وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، والمعري، والشريف الرضي، ومهيار الديلمي، وآخرين يمثلون الشعرية العربية في ذلك الوقت.

وحين نحاول أنْ نقارب النص بالحياة التي يعيشها، فأظن أنَّ الزمن يمثل عنصراً مهماً في توجيه الشعراء، وفرض نمط الكتابة على الكتَّاب. فقديماً، تشكل الحياة البدوية بكل تفاصيلها البطيئة، من الرحلة والديار المهجورة وتعب الرحلة حتى يصل إلى الممدوح، مساحة كبيرة تفرض على الشاعر أن يتجول ببطءٍ في قصيدته، كتجواله فوق الرمال والفيافي. وحين نصل للعصر الحديث، سنكون إزاء أزمان مختلفة أيضاً، فيها كثير من الإيقاع البطيء، رغم تحول الحياة من البادية إلى الحاضرة، إلا أن الحياة بقيت في المدينة تسيل بطيئة مملة. وحتى إلى زمنٍ قريبٍ منا، كان الزمن راكداً لا يتحرك، والوقت يمرُّ بطيئاً في النهار وفي الليل، ومنابع المتع قليلة جداً، حيث لم ينشغل العقل كثيراً بالتقنيات الحديثة وتفاصيلها، ذلك أنَّ مرحلة ما قبل «السوشيال ميديا» كانت تسمح للشعراء بأنْ يتحدثوا كثيراً، ويُسمح لهم في بعض المرَّات بأنْ يصلوا إلى مرحلة الهذيان، إذ لا منافس مهم للشعراء في تلك الأيام، أيام الخمسينات، وحتى ما قبل الألفين بقليل، فهم النجوم، أو ما يُسمَّون الآن «بلوكرات».

فقد كان لهؤلاء الشعراء جمهورهم الذي لا يشغله شيءٌ عن نجمه الشاعر، فيتابعه ويقرأ له، ويبقى يستمتع بنصه الطويل، وذلك للوقت الطويل الذي يتمتع به القارئ والكاتب معاً، وبهذا فقد كان الشعراء جزءاً أساسياً من تمثيل عصرهم البطيء، وهذا ليس حكماً قدر ما هو توصيف للأجيال التي مرَّت علينا. أما هذه الأيام، فنادراً ما نحظى بنصٍ طويلٍ لأحدٍ من الشعراء، بل حتى الشعراء الذين كان لهم نمط معين من الكتابة، استطاعت مواقع التواصل الاجتماعي أنْ تسحبهم إلى منطقتها، وتفرض عليهم شروط الكتابة، دون أنْ تصرح بذلك. وبهذا، فإن نمط الكتابة خاضع لنمط الحياة التي نعيشها، وإنَّ الزمن هو الذي يفرض شروطه الإبداعية على الشاعر، وعلى شكل كتابته ومزاجها ومناخها. وكما لكل طريقة محاسنُها ومساوئها، فإنَّ هذه الطريقة في الكتابة لها أيضاً ما لها، وعليها ما عليها، فالتكثيف والإيجاز من خصائص البلاغة، وبالمران الدائم على كتابة عددٍ محددٍ من الأبيات سيتعود المزاج الشعري على تأهيل العقل الشعري على كتابة معينة، بأبياتٍ أو مقاطع محددة فقط، دون أنْ تسمح له بالاستطرادات، أو الحشو اللغوي الزائد (وهذا لا يعني أنَّ النصوص الطويلة عبارة عن هذيانات، بل إنَّها تمثل تجربة معينة من تجارب مبدعينا في طريقها إلى الانقراض)، فضلاً عن أن المقاطع الصغيرة سهلة الحفظ والتداول، وهي تُشبه إلى حد ما في تراثنا الرباعيات، أو الشوارد، أو اليتيم (البيت الذي يُقال ولم يثنِ عليه أحد، فيسير في الركبان بيتٌ واحد ٌ أو بيتان).

أما الملاحظات التي يمكن أنْ تُسجَّل على هذا النمط من الكتابة، فهي غياب المهارة الشعرية التي تتجلَّى في القصيدة عادة، وليس في المقطع الشعري، ذلك أنَّ المقطع الشعري يمثل استجابة سريعة لحادثة ما، أما القصائد فإنَّها تمثل وجهة نظر الشاعر إزاء الحياة والكون والدين بشكل عام. وبهذا، فإنَّ التعود على الكتابة بهذه الطريقة سيحرمنا من الاطلاع على وجهات نظر الشعراء التي لا تمثلُّها المقاطع السريعة التي فرضتها مواقع التواصل الاجتماعي على مزاج الكتابة ونمطها، كما أن أحد العيوب أيضاً يتمثل في أنَّ الكتابة تروُّضها مواقع الإنترنت، وهي تُشبه الرقيب سابقاً، ذلك أنَّ كثيراً من الشعراء كان يصرَّح بأنَّه يكتب قصيدته وبين حروفه وجه الرقيب متسللاً، حاذفاً أو مضيفاً، نظراً للظروف السياسية أو لسياسة الصحيفة أو المجلة، أو الدولة بشكل عام. وبهذا، يتحوَّل «الأنترنت» الذي فتح أبواب الحرية سريعاً للجميع إلى جهة ضاغطة على الكاتب في أنْ يُلقي حمولته بأخف ما يستطيع، وما «تويتر» إلا نموذج هائل لهذا النمط من الكتابة. وهنا، تذكرتُ ما قاله لي أحد الأصدقاء ينصحني بألا أنشر قصائدي الطويلة -نسبياً- على «فيسبوك»، مقترحاً أن أقطع جسد القصيدة إلى مقاطع صغيرة لكي تُقرأ ولا يهرب منها القارئ.

________________________________

*المصدر : الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *