تصلني أحياناً دعوات للخروج من البيت ولقاء بعض ممن أعرف، أو لحضور مناسبة اجتماعية، فأقول كما اعتدت في أغلب الأحيان: «أرجو قبول اعتذاري لأنني مشغول مع مئات الأصدقاء، وربما الآلاف منهم»، فيتساءل أصحاب الدعوات والدهشة تستولي على نبرات أصواتهم: «مئات! آلاف!.. ما معنى هذا؟». وكنت أجيب:«نعم.. هذا عدد تقريبي لأصدقاء ينتظرونني فوق رفوف مكتبتي.. هم الكتب.. أصحابها هم من أعني بكلمة الأصدقاء.. والقراءة هي التي تجمعني بهم».
بالفعل، اعتدت الجلوس مع هؤلاء الأصدقاء، الكتب، والإصغاء إليهم، ومحاورتهم، وأعلل غيابي عن التجمعات بحضورهم، وأفضّلهم على الكثير من المعارف والزملاء، خاصة حين تدلني خبرات سابقة على أن أمثال هذه اللقاءات لا تعدو عن كونها تزجية للوقت، أو جرياً على عادة من العادات.
أما عالم الكتب، فكسب للوقت، وتمديد لآماد عمر الإنسان، وإثراء لتجربته، لا أقول هذا لأدعو للقطيعة بين البشر، ولكن لهؤلاء الأخيرين إن كانوا من الأصدقاء والمعارف، وقت، وللأكثر وفاءً وبقاءً، أعني الكتب، وقت، ويمكنني القول بجدية تامة؛ علينا التمييز بين الوقتين.
القراءة هي ما يعنيني في العلاقة بالكتاب ومن يكتبون، خاصة الذين يحضرون عابرين أزمانهم إليك، فيتخذون لهم مجلساً بجوارك، يحدثونك وتحدثهم، قد يختلفون معك أو تختلف معهم، ولكنهم لن يستلوا سكيناً ليهدّدوك بالذبح إن لم تكن من رأيهم، ولن يغلقوا أذانهم دونك حتى لا يسمعوا ما تود قوله، هم ألطف من ذلك بكثير، يقولون ما لديهم، وما لديهم هو خبرة أعمار أفنوها في طلب علم، أو فن من الفنون، ولا يقولون لك خذ ما لدينا أو اتركه، بل يظل حالهم حال من يقول لك: أنت حرّ في أن تأخذ بهذا أو ذاك، وخلال حديثك معهم، تسجل ما يوحى إليك، أو ينبعث في ذهنك بتأثير ما قالوا، أو تبصر ما حولك مهتدياً بما ألقوا من أضواء.
هذه العلاقة هي علاقة مع القراءة، مع خير عادة من العادات إن سألنا عن أفضل العادات، ليس لأنها علاقة تبقيك حراً بلا إلزام من أي نوع تجاه أي سلطة من السلطات فقط، بل لأنها تحولك من كائن يُعدّ عمره بالسنوات ذي تجربة تظل تجربة فردية، إلى كائن يُعدّ عمره بآلاف السنوات ذي تجربة تتملك تجارب آلاف الأفراد.
هذه أعجوبة بالطبع، ولكنها في متناول كل إنسان حين يعي معنى أن يرحل في ركاب الذاهبين منذ عصور بعيدة، والقادمين بفضل ما كتبوا، أو الحاضرين بفضل ما اتبعوا من عادات الأقدمين، ومعنى أن يعرف ما فكروا فيه ويرى ما رأوه، فيكتسب كل هذا كما لو أنه عاش أعمار كل هؤلاء. وسيبدو هذا الإنسان، وهو يكتسب خبرات أجيال وأجيال ممثلة بأفضل ما أنتجه علماؤها ورحالتها وفنانوها وفلاسفتها، أكبر عمراً وأعمق تجربة، إن حاله هي حال من تجول في الزمن من دون حلف مع شيطان مثل شيطان ذلك الساحر الألماني المسمى فاوست، ومن دون أن يأخذه على جناحيه عفريت من عفاريت ألف ليلة وليلة إلى ما وراء جبل قاف، أو جزر الواق واق.
* * *
بالقراءة، يحول الإنسان حياته إلى أسطورة، وما هي بالأسطورة، ويجعل منها سنوات خارقة وما هي بالخارقة، هي حياة عادية وتجري وفق سنن كل ماهو طبيعي، ولكن ما يصنع الفرق أنها اكتسبت أبعاداً مستمدة من تاريخ الإنسانية ذاتها، واغتنت بثروة تجارب لا يحظى بها الفرد عادة إن لم يتعلم كيف يكون قارئاً.
قد يسأل إنسان أسئلة حاضرة في الذهن: كيف يقرأ؟ وماذا يقرأ؟ وهل أبقى لنا الزمن الراهن وقتاً للقراءة؟ كل هذه أسئلة تأتي فيما بعد، ما يأتي أولاً هو أن نقرأ، أن نؤمن بما نقرأ ونعرف لماذا، ونكتشف أفضل المناهج التي يمكن أن تحوّل الإنسان إلى قارئ ينظر فيرى، ويفكر فيبصر، إلى قارئ يتحرر، ولا يظل قارئاً أمّياً من النوع الذي يعرف أن يقرأ ولكنه لا يعرف ماذا يقرأ ولا لماذا يقرأ، فينظر ولا يرى، ويفكر ولا يبصر، ويظل سجين زمنه وفرديته.
ولا يتحقق هذا إلا إذا تحولت القراءة إلى عادة من العادات تماثل عادات التغذية والتنفس، ويبدأ النهج المثمر والمبشر بالأزهار منذ الطفولة، ومن على مقاعد الدراسة الأولى، بل وأكاد أقول من البيت حين يولد الطفل، فيقع نظره على رفوف مكتبة، وينظر فيجد بين يدي والده أو والدته كتاباً، ويسمع حديث الكتاب والكتابة.. وواهم من يعتقد أن الطفل في سنواته الأولى لا يعي ما يسمع، أو لا تحتفظ ذاكرته بما يرى، الطفل مجموعة أحاسيس تتلقى في الحد الأدنى انطباعات، وتتشكل مدركاته منذ سن مبكر جداً قبل أن يتكلم ويمشي على قدميه.
وفي المدرسة، كان في متناولنا تقليد جميل لا ينسى، ذلك هو الكتاب الخاص المسمى كتاب القراءة، ويتضمن نصوصاً أدبية متنوعة، أغلبها قصصي، لأن القصة لا تزال منذ بداية الخلق وحتى العصر الحديث مما يؤثر ويعلم ويحفظ الذاكرة، وكنت شاهد عيان على عناية مدرسة أجنبية بتوفير قوائم بأسماء كتب، مناسبة لكل مرحلة دراسية، من دور نشر عدة توزع على التلاميذ كل سنة، فيختارون منها ما يودون شراءه، وترسل الطلبات إلى دور النشر المعنية، ولاحظت أن أكثر نوع أدبي كان موضع عناية التلاميذ، والصغار بخاصة، هو الرواية، والأكثر أهمية أن هذه الروايات لم تكن مما يُكتب للأطفال فقط، بل هي ملخصات مبسطة لروايات ذات مستويات رفيعة شهيرة في الأوساط الأدبية، روايات لكتاب أمثال ديكنز، وأوستن، وجاك لندن، وشارلوت برونتي..إلخ.
إذاً، على أيّ معنيّ بالتربية إقامة صلة بين الطفل والقراءة منذ سنواته الأولى، ومعرفة ماذا يجب أن يقرأ، ولماذا، في ضوء ما توصلت إليه العلوم الإنسانية، وأهمها بالطبع الآداب والفنون وعلم الاجتماع والنفس، وأتذكر أن مسألة ماذا يجب أن نقرأ؟ كانت مدار تفكير عدد من نقاد الأدب والفلاسفة في السنوات الأخيرة، فتوصل، الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي (1931-2007) إلى أن هدف القراءة يحدد نوعية المقروء، ووفق ما توصل إليه بعد جولة في كتب زملاء له، وفي تجربته الشخصية، إلى أن هدف القراءة ليس زيادة المعرفة بالدرجة الأولى، بل تعميق استقلال الشخصية الإنسانية، وتحريرها من شتى أنواع التعصب، وضيق الأفق والكلام المكرور.
وجواباً عن سؤال ماذا نقرأ؟ يجيب بالقول إن خير ما يحقق هذا هو أعمال الخيال، أي الآداب والفنون، وأهمها الرواية والشعر اللذين جعلهما على رأس اهتماماته في سنواته الأخيرة.
وفي ضوء تجربتي الشخصية، أدرك أهمية الرواية بخاصة، فهي النوع الأدبي الذي يأخذ القارئ إلى جولات بين الجغرافيات والأجناس البشرية أفقياً على محور المكان، وعمودياً على محور الزمان، وفي هذه الجولات لا يتعرف القارئ على ثراء الطبيعة التي ينتمي إليها الجنس البشري فقط، بل ويتعرف إلى الناس الذين هم إخوة له في الحقيقة الإنسانية، ومن هنا تولّد لديّ تقدير، ولو أنه جاء متأخراً، لواضعي كتاب القراءة المدرسية بنصوصه الروائية والشعرية.
كان هذا الكتاب نوافذي المطلة على العالم في سنواتي المبكرة، وما زالت ذاكرتي تحتفظ بمشاهد رأيتها خلال تلك النوافذ، ومع التقدم في العمر، قادتني إلى مشاهد أوسع وأعمق، كانت ضوءاً هادياً إلى عوالم أوسع، زماناً ومكاناً، ويحق لي الآن القول إن القارئ أشبه برفيق رحالة من مختلف الجنسيات والأعمار والأزمنة، وإنه هو من يرى كل شيء، ومن يتجول في الزمن، شأنه في ذلك شأن البطل الأسطوري السومري «جلجامش» الذي رأى كل شيء بعد رحلة له إلى عالمي الموت والحياة.