أزمنة السيرة المتداخلة في ذاكرة النص والجسد

       (ثقافات)

  أزمنة السيرة المتداخلة  في ذاكرة النص والجسد

 اسامة غانم

         تبدأ رواية ارض اليمبوس” لـ إلياس فركوح ، بالتنبؤ عن حرب الخليج الثانية قبل وقوعها ” أوشك جحيم الخليج على الوصول – ص17″، وتنتهي بعد انتهائها، وما بينهما تتداخل أزمنة الراوي في السرد، فتزدحم: بالحكايات، بالمدن، بالأشخاص، بالنساء، بالحروب، ويبقى الشخصية الرئيسة محصور بين ماضي مأزوم وحاضر يؤدي الى التيه، ولكنه يظل موشوماً بالمرأة والحرب، وبما ان النشاط الإنساني (= الممارسة الحياتية) هو الذي يشكل الاستمرار الوحيد للماضي او بالعكس، بمعنى أن باستطاعة المؤلف/ القارئ الكشف عن الحاضر بتفسير الماضي او الكشف عن الماضي بتفسير الحاضر، عملية متعاكسة تعطي النتيجة ذاتها، هنا ومن هذه الرؤية يصبح بمقدورنا ان نستخلص أسئلة ثلاثية هي: ماذا يعرف؟ ماذا يستطيع؟ وماذا يكون؟ وانه أثناء التساؤل يتشكل بعدين أساسيين للأسئلة ذاتها، دون اختزال او تقاطع مع بعضها، لانها مرتبطة أساساً الواحدة بالآخرى، بعّد مجازي/ المعرفة-السلطة-الذات، وبعّد وجودي/النص-الواقع-المبدع، ومن الممكن ان يتداخل البعدين في بعضهما ليكونا بعداً واحداً هكذا: المعرفة/النص، السلطة/الواقع، الذات/المبدع.

         ولو عرفنا ان المعرفة في “جوهرها عمل زماني”(1) كما يقول غاستون باشلار، وان السلطة ” تكوّن كل المجتمعات “(2) كما يصرح رولان بارت، وان الإنسان “فكرة تاريخية”(3) حسب تعبير موريس ميرلوبونتي، فالكل اذن أصبح مرتبطاً باللحظة التاريخية المؤدية الى تكوين الوعي التاريخي، لانه في هذه الصلة ايضاً يكوّن الوعي الذاتي، وبالتالي فان النشاط الإنساني هو الذي يقرر الوعي التاريخي والوعي الذاتي.

         واستناداً على الأبعاد الأساسية نحصل على الإجابة بعد ان تكون قراءتنا قراءة تأويلية. لان هدفنا هو تأويل “ارض اليمبوس” الرواية، واستثمار كل الإمكانيات لتفعيل النص، واثرائه دلالياً، ولكي تتطابق حالة الوعي الذاتي للقارئ بماهية الرواية، لعلاقاتها مع الواقع أي الوعي التاريخي، لوضعها مع الأشكال الجديدة عند كل مستوى: اللغة، الأسلوب، البنية، التقنية، وكل ذلك يؤدي الى الكشف عن علاقات جديدة، وبان الإنسان يحفر وجوده بالفعل في الذاكرة التاريخية-الذاتية.

         عمل إلياس فركوح على تقسيم روايته الى ثلاثة أقسام كل قسم يتألف من تمهيد/مدخل، ومقاطع/فصول، واطلق على كل قسم اسماً: السفينة-الاسماء-اليمبوس.

         في المداخل نقرأ أو نرى إنساناً مريضاً، راقداً في غرفته بالمستشفى يحدق في لوحة معلقة على الحائط بجانب النافذة، تمثل سفينة “تغرق في بحر خضرة متوحشة-ص13″، داخلاً في حوارٍ مع ذاته، حول الرواية التي سـيكتبها، وحول وجوده، والآخر، والعالم، ولكن “لاشيء يكتمل-ص179″، وتبقى الأشياء دائماً وبالاخص الجميلة والمسّرة ناقصة لاتكتمل، كما في جملة ابيه المارة التي يكررها دائماً.

         ولكن تظل الكتابة عنده “حقيقة تاريخ الإنسان”(4)، وكلما نتوغل في المداخل/العتبات، نعثر على العلاقة الجدلية بين تاريخية النص ونصية السيرة وجوهرها السردي، ففي الكتابة يقهر الفناء، وذلك بالبقاء في الذاكرة “اكتب لتكتشف ابديتك – ص15″، اكتب لتخوض المغامرة ولتكتشف حقيقتك، اكتب لكي تقتحم غمار عالم بلا حدود، و “اقتحام لعبة الرواية – ص63″ ونحن بدورنا نتساءل كما تساءل محمود جنداري في قصته :زو-العصفور، الصاعقة”: هل الكتابة علامة(5)؟ ام هي “عملية حذف واضافة تنتج عن وعي حاد ص19-74″، فالكتابة تعني تثبيت خلود الإنسان و “تنظيم العالم”(6) وترتيبه، والقبض على اللحظة، رغم ان الكتابة جزء من اللحظة لانه “ليس للزمن من واقع الا في اللحظة”(7)، وفيها تتكدس الأسئلة وتتكوم اكثر بكثير من الأجوبة، الأسئلة المتناسلة فينا، والمزدحمة فيّه، حيث يكاد يغص بها: “ماذا ترى؟ ماذا تقول؟ ماذا تكتب؟ ص172”.

         فالكتابة عن ارض اليمبوس، معناه الكتابة عن الإنسان المحاط بالريبة والشك، معناه الإنسان الذي وضعه الآخرون على الهامش، وفي عمق الاغتراب الإنساني:

  • لست منا، فلماذا تكون معنا؟

  • لست منهم، فكيف تكون معهم؟ ص174.

وعندها! … انتمى لنفسه، والتجأ الى ارض اللااحد، ارض الحرام، الارض المنزوعة من الافتراس، ارض ليست جنةً وليست جحيماً، ارض يشرف منها على الآخرين ذاتهم وعلى العالم، وعلى مأساة إنسانه القابع فيّه.

لقد منح إلياس فركوح لعنوان روايته معنىً اضافياً، الا وهو المعنى الايديولوجي بجانب المعنى اللاهوتي، المستفاد منه رمزاً ودلالة في تشظياته، وانزيحاته المفتوحة، بحيث جعله في موضع المخاتلة والالتباس عند القارئ، وهذا ما اراده وما قصده الروائي.

والمثير عنده ايضاً، انه وحّد الكتابة والجسد بشكل متفرد ومتميز، فمثلاً جعل الكتابة والأصابع-التي هي جزء من الجسد-تذهب حرة وبعيدة داخل الدهاليز السرية لاكتشاف جوهرها في الاعماق المبللة بالرغبة والتوحد: “فالأصابع، كما الجسد بكلّه، تدخل لتتحسس.. وبالكتابة نذهب عميقاً –ص170″، فالنص “يتكلم من خلال الطرف الاخر، أي المؤول، ومن خلال المؤول فقط، تتحول العلامات المكتوبة الى علامات ذات معنى”(8)، لان الغاية من التأويل ليس تفسير النص، بل هو الكشف عن النظام الذي يسمح بإنتاج النص السردي، ويمكن للقارئ/الناقد ذو الكفاءة من اكتشاف معانيها المتعددة، بل هو يمثل أجوبة سيمائية لأسئلة يثيرها النص، بمعنى آخر مغاير، ان الذاكرة والجسد هما كتابة في الكتابة.

إن إلياس فركوح، اشتغل على خلق (=نحّت) رواية، التي يتشكل زمنها داخل النص بواسطة تعاقب السرد واللحظات الشعرية، اما القارئ للرواية. فقد اشتغل على إعادة الخلق الخاص بالقراءة، لان الزمن يتكون خارج النص الروائي بفعل القراءة وإعادة خلق النص ذاته، على الشكل التالي:

القاسم المشترك

بينهم الرواية

المؤلف = السرد                الزمن داخل النص

القارئ = القراءة         الزمان خارج النص

أي ان المؤلف يكتب من الذاكرة، بينما القارئ يؤول المكتوب، ويعيد صياغته، حسب عمق الرؤية، وفي هذه العملية يختلط الحلم بالحقيقة، والواقع بالذاكرة، والجسد بالزمن، وإبراز العلامات التي يتسم بها النص، الضاجة به، إلا وهي المرأة التي تمثل: الانبعاث، الولادة، أي الجسد. والحرب التي تمثل: الخراب، القتل، الموت، أي الابادة وفيهما كانت الشخصية الرئيسة، المقتبس اسمه من معجم القديسين، والذي كان اسمه لا يطابق مواصفات القديس المسمى به، وبعيداً عن أساطيره وكراماته، فهو ليس “سوى بشري، ضعيف غالباً.. دائماً –ص69” حيث يدفعه ذلك للتشكيك في اسمه الحامل له، ومن “يتلبس الآخر، الاسم ام حامل الاسم؟ -69” ونذر ابيه المنفذ بحذافيره عندما اراد ان لا يقص شعره الا في كنيسة مار الياس المسمى باسمه الياس! وان معاني الأسماء لا تنطبق على المسميات دائماً فهو لم يستطع التنصل منهما: المرأة والحرب، ولا الابتعاد عنهما، بل بقى للأخير بينهما، موشوماً بهما من الداخل والخارج، لا انفصال ولا انفكاك، فهما محورا حياته، ومحورا النص.

         بالمرأة نضيء ذاتنا، بالمرأة تكتمل حياتنا، وبالآخر نحقق وجودنا، وعبارة “لاشيء يكتمل!” تغير مسارها هنا، ولن نكون: انا-انت “خارج الجسد” ابداً، بل علينا ان نكون داخل الجسد، وان نخوض التجربة، فلا متعة بدون التجربة، لذا علينا ان لا نقمع الجسد، بل نحرره، ولكن لن نتخلص “من كومة الأسئلة” و “لن تكتمل الاجابة –ص23”.

         ان التجربة الأولى هي جزء من طبيعتها الشمولية: “ميتة من الخوف” قالت هذا بعد أسبوع واحد فقط على تحسسنا لجسدنا عند زاوية الدرّج، وقد تملكتنا بسبب ذلك، رغبة الاكتشاف. حافظنا على بكارتنا مكتفين بمعاينة أعضاء جسدينا الحميمة. كنا نجسُّها بالأصابع والأكف، وكنا نرتجف طوال الوقت-ص51″. ان تفكيك التجربة واعادتها الى مصادرها النفسية والاجتماعية والاقتصادية، ومعرفة مرتكزها يؤدي الى تعميق وتوضيح الخصوصية للتجربة. والانطلاق في تجربة اللحظة الجمالية، بوصفها مفتوحة للمعرفة(9)، والاندماج بالعمل الادبي وبالعالم، ونتيجة لهذا النشاط الاندماجي تكون معرفتنا بذاتنا-انا، انت، نحن-وبالعالم ذاته، وان تفكيك التجربة “المعنى” في الكتابة لا علاقة له بتاتا بالماورائيات، بل بالإنسان، رغم ان الإنسان “نسّاءُ متآكل الذاكرة-ص87”.

         يتساءل يوسف ضمرة في جريدة الحياة اللندنية: هل ثمة علاقة بين الجنس والحرب؟ كما تساءل المسمى بأسماء القديسين: عما جمع بين المرأة والحرب في تجاربه كلها؟:

“غسلتك وحممتك كأنك ولدت من رحمها للتو من رحمها هي.

دعكت جسدك بالليفة والصابون (كانما هي امك ايام زمان) وكنتما في حمام فقير. انت تجلس على كرسي واطئ، وهي تقف خلفك تدلق ماءً فاتراً، بينما الحرب تبتعد وتنأى لتنبعث في اغانٍ تتجدد بين حين وحين.

ثم طال الحين وامتد فصار سنين كبرت عبر مسالكها، ونضجت في ايامها جمراتٌ وحروب اخرى، لتؤكد لك انك الابن الموشوم بها، ومنذ الولادة.

ولدتُ في سنة النكبة! خرجت من رحمها! تحت برج الحوت كانت ولادتي، والحوت ابتلع بلاداً اسمها فلسطين-ص29، 30″.

         اذاً نشأ وهو يدين بالولاء لمدن ضائعة، ونساء مختلفة، فتلك كانت قضيته، والحرب لعنته، التي وشمّت جلده كله، متصاعدة دخان حرائقها من مساماته، يتنفس عبيق نسائه، ومحتفظاً ببوابات مدنه السحرية في الذاكرة عميقاً، ان هذه التوصيلات الواقعية ذات الدلالات الرمزية، تضم الحقيقة التاريخية والسياسية والثقافية عند المتلقي، وبالقراءة يعمل على تفكيكها ثم اعادة تركيبها، ومن جهة اخرى، ان النص الروائي “هو جزء من الحياة الفكرية للمؤلف في شموليتها، أي انه ينبغي فهم النص انطلاقاً من النص نفسه”(10)، لانه لاحدود فاصلة بين النص والمقروئية التفسيرية لمحتواه، فالتواصل يجب ان يكون قائماً ما بين النص والمتلقي / القارئ.

         ان رواية ارض اليمبوس، هي البحث عن الهوية الضائعة والمفقودة في متاهات الذات اللاواعية، وعن الانتماء الحقيقي للإنسان، ان ذلك النوع من معرفة الذات “مهمة تقتضي الامكانيات الذاتية والموضوعية معاً، انه نوع من قراءة الذات يدخل في الاعتبار اشكالنا التقليدية للنظام، اعني تقاليد لاقوانين الهية منزلة”(11)، فالذاكرة والتراث وحدها لاتشكل الهوية او تحديد الذات بهما فقط، بل بالتفاعل بين المجتمع وعناصره الثقافية ذاتها ومع العالم، ومع الاخر، عندئذ تبدأ عملية ادراك الذات واكتشافها: لن تتخلص من كومة الأسئلة، مثلما لن اتخلص منها بدوري. غير ان سؤالاً يبقى يلح علينا ولن نعثر على جواب له. اما نحن، ففي الوسط. لسنا هنا ولسنا هناك. لسنا في الجنة، ولسنا في الجحيم. افي ارض الحرام نحن؟ ص232″.

         أمن حق القارئ ان يتساءل، هل ان لغة إلياس فركوح مكتفية فعلاً، لانها “تغوص في الميثولوجيا الشخصية والسرية للمؤلف” كما يقول بارت في “الكتابة في درجة الصفر”، لا اعتقد ذلك ابداً، لانها تغوص فينا جميعاً ايضاً، تغوص في أفكارنا، في حكاياتنا، في تاريخنا، في تجربتنا، في مدننا، في حروبنا، في رؤيتنا المختلفة للعالم، أي انها تغوص في حياتنا وموتنا (ص170-200)، ولانها ميثولوجيا جمعّية، انها خوفنا من المجهول، فنحاول ان نكسره بالحكايات، كما يفعل خضر الشاويش، صانع الطبول وبائع الفخار، الشخصية الروائية التي تحكي فقط، تحكي الحكايات التاريخية عن الإنسان المغترب المهجّر، المنزوع من جذوره، المترحل في ذاته، والمدن الغائمة المبحرة في داخله، ولان “الكتابة ليست هي الحكاية –ص100” فانه يعتبر الصوت الموازي لصوت الراوي في القسم الثاني / الأسماء، ففي “الحكايات يحضر خضر، وفي كتابتها تحضر انت، فماذا قال خضر؟ وماذا كتبت انت؟ -103″، لقد حكى عن مأساة الإنسان العربي الفلسطيني، وكتبت عن الإنسان العربي المغترب، والإنسان فيه كادويسيوس التائه في لعنة الآلهة، والمحّقون بالأوهام الدونكيشوتية، والخاسر الأبدي، منذ الكتابة الأولى، وبالأخص منذ النكبة، والعدوان الثلاثي، وهزيمة الأيام الستة، والعبور، والخليج الثانية واخيراً عاصفة الصحراء، ستة حروب بالتمام والكمال، مرت عليه، انسلت اليه، ملكته لولا المرأة، وكانت كلها…! فعندما يستحضر الحرب تحضر المرأة، وبالعكس، انهما الحياة / المرأة، والموت / الحرب، وهو في عمق المأساة، يسخر منها بمرارة، ويستهزئ بها، كما في المقطع التالي، عند مقارنته بين رامبو الشاعر الفرنسي، ورامبو القاتل الامريكي في الافلام:

اليوم بلغت الخمسين، وبحسب إشارتك عن التواريخ: “عبرتُ ست حروب ابيض خلالها شعري” الخرنوبي !” ظلت صامته تنصت إليك بصبر، كنت احمد بمعنى ما، بكيفية ما، على نحو ليس لائقاً لرجل مثلك، في الخمسين. لم تحدثها عن رامبو الا قليلاً. بل سخرت عندما أشرت الى انه ليس رامبو الامريكي صاحب البطولات الخارقة والعضلات الفولاذية. قاتل الأشرار ومهلك الفيتناميين الاقزام – ص209″.

ليس هذا فحسب، بل العمل على اكتشاف معنى التاريخ في السيرة وفي ذاكرة النص، الذي يخترقنا في كافة الاتجاهات، ولذا علينا الخضوع والاستجابة الى المعنى العميق المكتشف، بقصدية ايضاح امكانية تأويل التاريخ، أي باختصار البحث عن العلاقة الجدلية بين النص/التاريخ، وعن مدى عمق التفاعل بينهما، وعن موقعهما عند المتلقي.

         فالراوي ينبش الذاكرة، متخذاً في الوقت ذاته، من هذه الذاكرة شكل نص، متحدياً بها سلطة الزمن، وسلطة المنفى، وسلطة القوة المفروضة.

         ولعل القارئ يتساءل عند انتهائه من قراءة “ارض اليمبوس” بفضول شديد، يكتنفه الريبة والغموض، مع اندهاش، لماذا إلياس فركوح تناول المرأة بهذا التكثيف وبهذا الشكل؟ سؤال يفضي الى سؤال آخر، والشخصية الرئيسية تطرح ذلك ولكن بطريقة مغايرة في الرؤية: هل يريد ان يمتلك كل النساء دفعة واحدة؟ ام يحاول ان يختزلهنَّ في امرأة واحدة؟ تَسَاءل مليء باللاعقلانية المناقضة للمنطق والمألوف والطبيعي، واين تكمن العلاقة التبادلية بين امرأة التخييل وامرأة الواقع؟ تساؤلات كثيرة، وإجابات مدفونة في ثنايا النص، او مختفية فيه، ام مستعارة بواسطة التأويل، لانه لا يوجد “شيء أكثر رعباً من غياب الجواب-باختين”: “تفتش فيَّ عن امرأة نموذج تكتب عنها، تعريني كي تعريها بحذق في الكتابة. أنت تبحث عن موضوع، ولا تسعى وراء حب. أنت ذكري، لكنك مخصي باهت، وتغفل عن حضني الذي ضمّك-ص185”.

         او تكون عنده، صانعة الحياة. مانحة الرعشة، المعلم الأول في فتح منافذ الرغبة: “بات عاجزاً، عن حسم من اجزل عطاءه للآخر: هو أم النساء عبر السنين؟ اهو الذي أعطى، ام الذي اخذ؟ قال. “تعالي لي” فجاءت المرأة الغريبة، لتعلمه معنى الحنين ولذعته اللاعجة-ص137″.

         لقد تفرد إلياس فركوح في أسلوبه، وتميز في سرده لامتلاكه لغة شعرية ساحرة، مكثفة، صعبة الترويض، فتكون عند الراوي، فصحى، متحكمة، صلبة بشفافية، مرنة كحد النصل، مشعة، اما عند خضر الشاويش فتكون بالعامية، بسيطة، سهلة الاختراق:

– ولو! معقول انكم بترفعوا اكثر مني وانا بغلبكم؟ طيب انا بارفع زيادة عن اللي بترفعوه-ص105.

ومستخدماً تقنية متنوعة في السرد، كالحوار الذاتي، لذا فان لا مألوفية الحوار الذاتي تفيد من الحقيقة القائلة انه حين يتعلق الأمر بالأفكار الخاصة بالذاتية، فان الصورة المجازية تصبح الوسيلة الممكنة الوحيدة في التعبير. والسرد المتداخل، والعودة بالزمن الى الوراء بالتزامن مع اللحظة المسرودة، كحكاية موت داوود، فلقد استخدم إلياس فركوح الفتنازيا لتوكيد تشظي الإدراك المألوف لإلغاء الإحساس المتعارف عليه، وللتوكيد بان المنطق والمعقول هما بحد ذاتهما فنتازيا، وتسليط الضوء على التناقض المتواجد بين الخوري سليمان راعي كنيسة الروم الارثوذكس والمبشر الامريكي البروتستانتي، وحيرة داوود المتعاظمة بينهما، لجهله بالأسباب، وعدم معرفته بان الحياة لا تشكل لديه اية معنى أو إحساس، رغم انه “لم يزن، او يشتهي امرأة قريبة-ص79”. فان الروائي هنا “ميتافيزيقي مثقف يتقصى المنطق عن طريق الفنتازيا”(12)، كما قال البروفسور ت.ي.ابتر عن بورخس:

” اعترف يا بُني إذن. الرب يمنحك الرجاء”

بماذا يعترف هذا الداوود؟

“تذكرت يا ابونا تذكرتُ”

“ها؟ ماذا تذكرت!”

كانت لهفة الخوري سليمان أشبه بمن ظفر ضالته المنشودة بعد لاي

“لقد كذبت عندما تحججت بالورشة لاغيب عن قداس الاحد”

“وبمذا انشغلت من توافه الدنيا يا داوود؟ اعترف”

تفتحت مسامات الخوري سليمان

“كنت احضر صلاة القسيس ويتمان”

عندها افلت الخوري سليمان توبيخة الغاضب

“تصلي مع الامركاني المتجدد، يادوود!” ص79-80.

         كل ذلك انتج خطاباً روائياً، فذا، متقناً، مغاير عن الخطابات الروائية العربية، انها أي الرواية أصبحت كنار بروميثيوس، تعري المسكوت عنه، وتدخل الأراضي المحرمة، وتنتهك التابوات، وتنتزع ورقة التوت المدعوكة عن الذات المقموعة، الضائعة، المسجونة في الداخل والخارج، وفيها اثبت إلياس فركوح ان “الرؤية للصفوة والغيبة للعامة” كما قال النفري.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهوامش والاحالات :

 

  • غاستون باشلار-حدس اللحظة. تعريب/رضا عزوز وعبد العزيز زمزم. دار الشؤون الثقافية. بغداد الدار التونسية 1986 ص24.

  • رولان بارت- نقد وحقيقة ت/ د.منذر عياشي. مركز الانماء الحضاري دمشق ص47.

  • برانكستر- حول الهوية السردية. ترجمة عبد الله راضي حسين. مجلة الثقافة الاجنبية العدد 1/2009 ص132.

  • جورج لوكاش- التاريخ والوعي الطبقي. ت/ د. حنا الشاعر. دار الاندلس ط2 بيروت 1982 ص163.

  • محمود جنداري- زو العصفور الصاعقة: مجلة الاقلام العدد 11-12/1988 بغداد.

  • بارت – نقد وحقيقة ص59.

  • غاستون باشلار- حدس اللحظة – ص19.

  • هـ.ج غادامير- اللغة وسيلة للتجربة التأويلية. ترجمة/ علي حاكم صالح وحسن ناصر مجلة مسارات العدد 4 شتاء/2006 بغداد ص19.

  • امبرتو ايكو – في أصول الخطاب النقدي الجديد- ترجمة / احمد المديني. دار الشؤون الثقافية بغداد 1987 ص85.

  • هـ. ج. غادامير- فلسفة التأويل. ترجمة/ محمد شوقي الزين. منشورات الاختلاف- المركز الثقافي العربي ط2 2006 ص120.

  • اداورد سعيد – المنّع. التجنّب. التعرّف. دار بدايات دمشق 2008 ص38.

  • ت. ي. ابتر- ادب الفنتازيا. ترجمة صبار سعدون الصبار دار المأمون بغداد 1989 ص191.

* إلياس فركوح – ارض اليبموس. دار ازمنة ط2 عمان 2008.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *