اللغة في رواية ( ظل مريم ) لعامر محمد درويش

(ثقافات)

اللغة بين طواعية الاستخدام وألق المعنى

في رواية ( ظل مريم ) لعامر محمد درويش

 زينب السعود

نحن الذين فهمنا كل شيء مبكرا نحتاج إلى كرة أرضية أخرى نستريح عليها بعيدا عن صراعات من لم يفهموا بعد) بهذا الاقتباس للعالمي غابرييل غارسيا ماركيز تخطى الكاتب السوري عامر محمد درويش العتبة الأولى لروايته ( ظل مريم ) الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون 2024م  ووجه أنظار القارئ إلى حجم ما ينتظره من مقولات عن أولئك الذين وقفوا أمام الحياة بوجوه عارية تماما تتأهب دائما للصفعة القادمة التي ترجهم وتبعثرهم وتشتتهم ولكنهم في كل مرة يحاولون لملمة ما تبعثر ويسيرون عبر طريقهم لا يبحثون عن كثير من الانتصارات بل تغريهم ظلال هنا او هناك للوقوف تحتها والتقاط انفاس يجترونها بصعوبة ويسحبون حصتهم من الأكسجين وإن تلوث عنوة ليواصلوا مسيرهم.

قدم الكاتب عامر محمد درويش سيرة بطلة روايته (مريم) السورية الفلسطينية التي تتقاطع بها الحياة مع  لبنان تارة وبغداد أخرى في وعاء لغوي أنيق يجذبك وهجه منذ الوهلة الأولى للدخول في عالم القراءة لظل مريم.

في عمله الروائي الأول لم يبخل الكاتب السوري ابن مدينة حلب عامر محمد درويش بلغته ولم يخف براعته اللغوية وتمكنه من صياغة الجملة الإبداعية بمهارة واقتدار . ولعل طواعية اللغة في يده هو ما لفت نظري منذ القراءة الأولى وحمسني للكتابة عن هذا الجانب الهام في الأعمال الأدبية .فمن المعروف أن اللغة هي المنوط بحمل المعاني التي تختزن في عقل الكاتب وعليها تقع مسؤولية تحرير الأفكار وتحويلها من مجرد خيالات تهيم في عالم الإبهام والغموض لتصبح كائنات كلمية تصطف إلى بعضها البعض لحمل وزر المعنى المراد .ونحن نقرأ (ظل مريم) تستحوذ علينا اللغة أو لأكون أكثر دقة سأتكلم عن تجربتي القرائية وأقول أن لغة الرواية استحوذت علي وكانت من أسباب مواصلة القراءة فالكاتب يطوع اللغة وصورها وتراكيبها ومرادفاتها وبلاغتها للإمساك بيد السرد لصناعة الحبكة الروائية التي يريد ، وهذا التمكن جعل السرد يسير بسلاسة كأنه يعرف طريقه ومكن نسيج الحبكة من التماسك حتى أننا نكاد نشعر بالسكين في قول درويش في الصفحة ١٥ (بوسعي أن أتخطى كل شيء سوى أن أقاوم تلك السكين العالقة التي تنغرس في الحلق أكثر فأكثر كلما حدقت في انقضاء النهار عبر النافذة).

إذا كانت لغة الرواية عموما تنماز عن الشعر الذي يولد ولادة قسرية بلغة خاصة فإن لغة الرواية ينبغي أن تكون متناغمة مع شخصياتها الناطقة وأن يحافظ السارد على لغته الخاصة ويحفظ للشخصيات لغة بيئتها ومكونها الفكري .وفي (ظل مريم )يمسك السارد المثقف بتلابيب الحكاية فمريم الصحفية ابنة الصحفي المولودة لأب سوري وأم فلسطينية تمسك بأمجاد اللغة من جميع أطرافها وعندما أرادت أن تعبر عن بؤسها كامرأة في مرحلة ما في حياتها أسعفتها لغتها العالية في الوصف المبهر عن المعنى الذي تختزنه اضلاعها فخرج علينا روعة وإبداعا ( كنت أحدق في كثافة الفرح المتساقط من عينيها وأحتشد بدمعة توشك أن تتفجر في عيني .تساءلت بسخرية الأنثى الأكثر اشتهاء ورغبة في الأشياء اليومية التي تبهج النساء في الوقت الذي أبقى فيه عاجزة عن تأدية أصغر تفصيل يتيح لي فرصة التعرف إلى أنوثتي المنزلية الغائبة) ص ١٠٨

 مريم الباحثة في خبايا الأمكنة عن أسرار الموت والحياة والهزيمة والحب ظلت عالقة في ذلك اليوم الذي اغتيل فيه والدها الصحفي وبدأت بعدها رحلة حزنها المشوبة بمئات الأسئلة (لا شيء يوحي بأن الحزن سيغادرني كنت أتخيل بكثير من المرارة والخيبة كيف ساقني القدر إلى بيروت لأكون شاهدة على موت خليل وأعود محملة  بهذا الكم من القهر الذي سيظل على ما يبدو عالقا في القلب والذاكرة).

هكذا تتمكن مريم المثقفة التي تشربت اللغة أن تبهرنا بسردها المتماسك وصياغة جملها في لوحات تعبيرية ترسم الانفعالات والأفكار القابعة في عمق الوجدان لتخرج سيمفونية منتظمة الإيقاع أو لوحة مسبوكة الخطوط والألوان في زمن يعج بالغربة والسفر واللاثبات ( كل شيء في طريق السفر يمكن أن يخرج من دائرة الاختزال ليتصدر قائمة الأفكار المفتوحة).

لقد دفع عامر محمد درويش بجميع أدواته اللغوية في هذا النص وأسبغ عليه من ذلك النور الذي يلقيه اشتغال المرء على عقله وثقافته ومعارفه باكرا فأضاء أفضية النص بلغة أدبية شاعرية تتفرد في التلاعب بالمفردات وإتقان ترتيب تلك الكائنات اللفظية لتكون قادرة على إبهاج عقل القارئ ليسير في ظل مريم أو ظلا لمريم .بالمختصر لقد أقام عامر محمد درويش عرضا لغويا مبهجا وفاخرا حمل النص إلى بعد آخر .هناك حيث تتراقص الكلمات متناغمة على نقرة دف بارعة.

شاهد أيضاً

حوار مع تشومسكي.. عن إدوارد سعيد وفلسطين والمثقف الجماهيري

(ثقافات) حوار مع تشومسكي.. عن إدوارد سعيد وفلسطين والمثقف الجماهيري تيسير أبو عودة مقدمة المترجم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *