(ثقافات)
حوار مع تشومسكي.. عن إدوارد سعيد وفلسطين والمثقف الجماهيري
خسارة فادحة.. حوارات مع نعوم تشومسكي
لقد التقى إدوارد سعيد في الستينيات من القرن المنصرم بعالم اللسانيات المتمرد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نعوم تشومسكي، في خضم الكفاح الفلسطيني المطالب بالتحرير، لقاء آتى أكله بتكريس كل منهما نفسه لقضية استلاب الشعب الفلسطيني. كان يجمعهما إحساس واعٍ بهدف مشترك في كتابتيهما عن الشرق الأوسط، الأمر الذي أذكاه الوضع السياسي الهستيري وغير المتوازن والمتمركز في قلب سياسات الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تقاطع سياسة الولايات المتحدة مع الأحداث في المنطقة.
وتشكّلت أطروحتاهما عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بصورة صارمة بغية تصوير إخفاقات العدالة الاجتماعية والروايات البائسة والهزلية المشروخة عن الفلسطينيين. ويبدو أن تضافرهما معا تجلى في أبهى صورة من خلال مبادرات التضامن التي سعت إلى تعرية دور السياسة الأميركية الخارجية ومطامع إسرائيل التوسعية لاختلاق رواية لا إنسانية عن الهوية الفلسطينية (1).
وبالإضافة إلى اشتراكهما بهاجس فلسطين القضية، فلقد وجد كلٌّ من سعيد وتشومسكي في التزامهما الأخلاقي سبيلا لثقافة فاعلة ذات فكر جماهيري. إن استلهام تشومسكي لهذا الالتزام بالنسبة لسعيد كان قلقا للغاية لأنه لم ينبع من رغبة نرجسية لحماية بقعة جغرافية، أو بناء مجد شخصي، أو دفاع عن ممتلكات شخصية، ولا حتى دفاع عن سلطة أو سعي وراء منصب. وهب سعيد نفسه لحقيقة لا مفر منها، وهي أن الروايات النقدية على لسان مثقفيها “لن تجعل منهم أصدقاء حميمين يحظون بمناصب عليا، ولن يقطفوا ثمار السلطة” (2).
وفي طرحهما الذي يدافع عن العدالة الاجتماعية في فلسطين وإسرائيل، أصبح كلا المفكرين مرجعين لتصوير تلك الرغبة لمساءلة الطموحات الإمبريالية لأميركا وإسرائيل في المنطقة. كان سعيد دوما واعيا استثنائيا ومتيقظا بإمكانية الانخراط كمثقف ملتزم. لقد تموضعت جهود سعيد وتشومسكي في صورة طباقية، ورد بالمثل حسب وصف جرامشي للمثقف التقليدي.
ورغم اضمحلال مساحات الحرية التي قد يمارس من خلالها المثقفون العضويون نقدا عموميا خاليا من الهيمنة المؤسساتية القسرية، ظل سعيد يعتبر الأكاديمية الأميركية مثالا غير مسبوق في قدرتها على تبني هذه الجهود، صور سعيد هذه الحقيقة كتضارب مؤسساتي أقرب إلى الطفرة التي مهّدت لأعماله وأعمال تشومسكي أن تظهر للعيان.
عبّر سعيد عن هذا التشابه بينهما من خلال موقف تشومسكي التقليدي الذي لا يكل ولا يمل واصفا إياه “بمثال الراديكالية المستقلة وبالموقف الصارم، الذي لا تملق فيها ولا رياء؛ حتى إنه لا يخضع للمقارنة بأي شخص آخر في زماننا” (3)، ولقد نوه سعيد بالطبيعة العضوية لنقد تشومسكي “(هو) لسان حاله يقول الفعل أصدق إنباء من الخطب” (4). وعلى النقيض من ذلك، فإن سعيد قد قام بالأمرين معا؛ وبالتالي وجد تعالقا بين مسؤولية تشومسكي ومشروع فوكو التفكيكي والموسوم بالنقد الذاتي.
لا شك أن إدوارد سعيد يتقاطع مع تشومسكي في إيمانه المنهجي بإشهار سيف الحق في وجه السلطان رغم اختلاف موقفهما السياسي ولقد شرع نظراء تشومسكي، جور فايدال (Gore Vidal)، سارتر (Sartre)، دي بوفوار (de Bevoir)، فانون (Fanon)، وبرتراند راسل (Bertrand Russel)، بمحاولة جادة ذات محور أخلاقي، تلك التي يقارنها سعيد بنقيضها الذي يتمثل بأجندة جيرجن هابرماس (Jurgen Habermas) الجوفاء والمتشدقة (5)، ويرى سعيد وتشومسكي أن المعركة لمعرفة “الحقيقة” لن تضع أوزارها، وذلك لعدم وجود حل عسكري قطعي في معركة تضج بالمماحكات الفكرية (6).
ولا شك أن سعيدا يتقاطع مع تشومسكي في إيمانه المنهجي بإشهار سيف الحق في وجه السلطان رغم اختلاف موقفهما السياسي، قام سعيد بالانسلاخ من موقف تشومسكي السياسي من خلال تشكيكه بتقييم الأخير لبعض المصطلحات كالإرهاب في سياق ما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وإذ يقوم تشومسكي بطرح مصطلح الهيمنة “إرهاب الدولة” كجدل طباقي للخطاب الرسمي، يبقى سعيد مشككا بالأثرالمضلل لهذا المصطلح، فسعيد يركن إلى تفكيك اللغة واستخدام مفردة الإرهاب بدءا بجذور فقه اللغة المقارن كمتغير تاريخي ودلالي، وعلى النقيض من تشومسكي، ارتأى سعيد أن لا يعطي هذا المصطلح اعترافا قطعيا منكرا قيمته السياسية (7).
قام سعيد أيضا بالتشكيك في رأي تشومسكي الذي يتلخص بأن الجهاز المهيمن كالدولة والإعلام لهما تأثير جارف يطول الجميع، فتشومسكي يدين أجهزة الإعلام الأميركية بأنها متواطئة مع أدوات النظام الصناعي والعسكري والذي بدوره يستنسخ إذعان الصحفيين والجماهير، وحسب سعيد، الذي يدرك أن فرص التدخل لا حصر لها من خلال كل حاضنة للهيمنة المؤسساتية، إذ يرى أن هذا المنظور لم يكن كافيا تماما، خصوصا لو نوهنا بدور تشومسكي الشخصي (8).
وبعد رحيل سعيد، تم إماطة اللثام عن نقاط خلاف في الرأي بين سعيد وتشومسكي لم تسبر أغوارها من قبل، ففي هذه المقابلة يعري تشومسكي نقاط الخلاف في منظورهما عن الصهيونية ورؤيتهما بخصوص إقامة قومية ثنائية تضم الفلسطينيين والإسرائيليين، وعندما شرع سعيد بزيارات متكررة إلى فلسطين، صار مدركا تماما لمأساوية الوضع الراهن، وهو استحالة استرجاع الحدود والدولة، ولقد عبّر سعيد عن سخط متزايد بسبب الامتهان اللاإنساني من خلال التقسيم الثقافي والسياسي (9)، بالرغم من أن التزام سعيد بحل الدولة قد بدا استجابة لكارثة أوسلو، على المرء أن لا يذهب بعيدا في مسعاه الإنساني اللامحدود لتحقيق تطلعاته الحالمة من أجل التشاركية والتصالح والقوميات غير المستقرة، وما استوعبه تشومسكي من تحول تكتيكي وسياسي في فكر سعيد، يراه سعيد السبيل المثمر الوحيد والبلسم الشافي للتعايش الثقافي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
إن الأفكار التي تشي بها هذه المقابلة هي الأكثر شمولا في أطروحات تشومسكي عن سعيد، إذ بدا تشومسكي في أكثر مواقفه عمقا وشفافية لدى تحليله لصداقته بسعيد، والتي اتسمت بحميمية فكرية وصداقة نبيلة، بالإضافة إلى جهود صادقة وشفافة لسرد حكاية مساعيهم المشتركة والبوح بجوانب الاختلاف بينهما.
عادل اسكندر (ع ا): لقد قلت في محاضرة لتكريم إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2003 إن “رحيل سعيد هو خسارة فادحة”. أيهم الأكثر تأثرا بهذه الخسارة؟
نعوم تشومسكي: إنها حقا خسارة لعائلته وأصدقائه المقربين الذين لا حصر لهم، والذين كنت أنا شخصيا واحدا منهم. لذا فهي خسارة شخصية. إنها خسارة فادحة لكل الفلسطينيين، لأن سعيدا كان الأكثر فصاحة ومعرفة وبصيرة، والناطق الأكثر عمقا باسم الفلسطينيين. لقد حافظ على إبقاء القضية حية لسنوات طويلة وأبقاها في مسارها الصحيح الذي بدا منطقيا للمطالبة بالحرية الفلسطينية والتحرر الكامل وتحقيق الحد الأدنى من العدالة، ولقد كان متفردا في هذا الرأي، بالإضافة إلى أنه خسارة لعالم الفكر الذي كان فيه بحق شخصية بارزة ومساهما رئيسا، إذ ظل كذلك حتى الرمق الأخير من حياته. إنه خسارة للبائسين والمعذبين في الأرض؛ لأنه لم يكن فقط يتحدث نيابة عن الفلسطينيين، بل كرس نفسه لمبادئ كونية منبعها العدالة والحرية. لقد كان سعيد خسارة للبسالة والتعقل اللذين كانا درعا واقيا لملايين البشر حول العالم، إذا فالخسارة كانت بحق استثنائية.
عادل اسكندر: إلى أي حد سيؤثر رحيل سعيد على الكفاح الفلسطيني؟
نعوم تشومسكي: لقد امتد أثر سعيد إلى مناحٍ كثيرة، ولسبب واحد، فلم ينظر شخص بجدية بالغة للعلاقة بين الغرب والعالم الثالث بالطريقة نفسها التي يراها سعيد قبل نشر كتابه العريق “الاستشراق” وغيره من الدراسات، والتي حسب اعتقادي أحدثت تحولا في الطريقة التي نفكر من خلالها ونفهم الآخر. لم يكن الشخص الوحيد الذي تفرد بفعل هذا، لكنه لعب دورا متميزا وحيويا تجاوز فيه إيمانه بحقوق الفلسطينيين، لقد أبقى القضية الفلسطينية دوما على الأجندة رغم المعارضة غير المتكافئة، وهذا بحد ذاته إنجاز كوني.
إن خسارته في هذا الوقت الراهن تعني أن على الآخرين أن يبذلوا جهدا أكبر، ولحسن الحظ، فإن الشباب في المجتمع الفلسطيني يقومون بأشياء لم يقم بها أحد قبل ثلاثين عاما، وفي كل الأحوال، فإن هذا كله يعود لتأثير إدوارد سعيد، ولهذا الأمر ما زال سعيد حاضرا بيننا من خلال هذا الأثر الممتد.
تقاطعات نقدية
عادل اسكندر: يكشف سعيد في كتاب “تغطية الإسلام” جانبا من أعماله الذي يتقاطع مع أعمالك في النقد الإعلامي.
نعوم تشومسكي: إنه فعلا من المواضيع التي كنت قد تطرقت لها وناقشتها أيضا، ولكن في الوقت ذاته، كنت متأثرا بشكل كبير بالمنهج الذي اعتنقه في أعماله النقدية، فنحن الاثنان لدينا قيم مشتركة، وصداقة شخصية، واحترام متبادل، وكنا نقتدي بأفكار بعضنا البعض، ولهذا الأمر بدا جليا أن كلًّا منا قد تأثر بما يقوم به الآخر.
عادل اسكندر: زد على هذا أن سعيدا قد اقترح في كتابه “الثقافة والمقاومة” أن اعتناقه لمنهج دور المثقف وفعله كان متأثرا بنقيضين اثنين (10)، إذ كان متأثرا إلى حد كبير بفوكو (Foucault) من ناحية، ونما لديه هاجس مشترك قوي تقاطع مع أعمالك من ناحية أخرى. أين تموضع سعيد من كل هذا؟
نعوم تشومكي: لا أستطيع فعلا أن أجيب عن هذا، لأنني ببساطة لم أفهم فوكو قط، ولهذا الأمر لا أستطيع أن أفهم ما تعنيه بالنقيضين. أعتقد أن فوكو لديه بعض الأشياء عن تاريخ الأفكار جديرة بالاهتمام، لكنني لم أفهم أهمية أعماله.
كتاب “الثقافة والمقاومة” لـ “إدوارد سعيد” (مواقع التواصل)
أما بالنسبة لسعيد، فإنني لم أحظ بمعرفته شخصيا قبل أواخر الستينيات، أعني هنا أنني أستطيع أن ألحظ تغيرا في أعماله بعد أواخر الستينيات، ففي الوقت الذي كنت فيه أعرفه، لم نكن نتحدث بذلك القدر عن الماضي، ولهذا لا أستطيع أن أعلق على هذا الأمر، وكما قلت آنفا، لا أستطيع أن أقول أي شيء يتعلق بانفصاله عن ما يمكن أن يسمى بموقف سعيد تجاه فوكو، وذلك لأنني لم أستطع فهم موقف فوكو، أما بخصوص ردة الفعل لمقاومة السلطة غير الشرعية، فلا بد أن يكون هذا أمرا فطريا.
عادل اسكندر: ألا تتفق معي أن سعيدا قد أدرك تصادم هذين التناقضين في المناظرة المتلفزة بينك وبين فوكو، والتي بُثّت على التلفاز الهولندي، علق سعيد على هذا اللقاء قائلا: لقد تخلى فوكو عن دوره، واعترف بشكل أساسي أنه لا يؤمن بوجود حقائق أو أفكار أو مُثل موسومة بالخير (11)، وقد يبدو الأمر بالنسبة لسعيد أن الدافع لانتقاد رؤية فوكو كمنهج هو دعوته لما يُدعى “المعرفة المجردة من الرحمة” -تلك التي تطرق لها في الاستشراق وما بعد الاستشراق-، هذه المعرفة التي تم لجمها بما يدركه سعيد على أنه خيانة فوكوية لقضية أبعاد فعلها اجتماعية (12).
نعوم تشومسكي: لست متأكدا فيما لو أن فوكو قد قام بخيانة القضية، لأنني حسبما أدرك، أنها لم تكن أصلا جزءا منه، مرة أخرى، لا تستطيع أن تخون شيئا لم تكرس نفسك له إلا خطابيا. ففي عام 1968، كان الجميع يتحدث عن هذا الأمر لكنني لم أُعر الموضوع أهمية، وحسب علمي، لم يكن فوكو جزءا فاعلا في أي كفاح لمقاومة الاضطهاد، أو الحفاظ على الحقوق باستثناء تلك الأشياء التي كانت تشغله، فقد كانت له قضاياه التي تشغله، لكنها لم تكن هي ولا حتى أي من أفكار الباريسيين جزءا من اهتماماتي، بسب انشغالي بقضايا مختلفة تماما، لذا لا أعرف شيئا عن هذه الخيانات.
وفي تلك المناظرة، كنا هناك في حالة من الانسجام، فقد قضينا تلك السويعات ونحن نتمشى معا في ريف هولندا، كنوع من الترويح عن النفس وكفرصة لاختبار مدى قدرتنا على الحوار الفاعل، كان فوكو يتحدث بلغته الفرنسية، وأنا أتحدث بالإنجليزية، وسار الحوار كما ينبغي له. لقد تجاوزنا الجزئية التقنية للحوار بسهولة بالغة، لكننا في الوقت ذاته كنا قد تطرقنا لكل الموضوعات، ورؤيتنا عن هذا العالم، وغيرها من الموضوعات. أما نقاشنا الجاد فكان أمرا مختلفا، أعتقد أن فوكو قد قدم نفسه كأكثر شخصية لا أخلاقية التقيتها في حياتي، فلقد لمّح علنا بأنه لا يتحلى بأي قيم أخلاقية. لا أدري، من الممكن أنني أسأت فهمه، فما استنبطته من نقاشنا الجاد أنه يرى أن قراراتنا الأخلاقية هي رهينة التزامنا بنظام سلطة معين، أجل هكذا كان نقاشه، لا أجد ما يمكن إضافته في هذا الصدد، فهو بهذه الصورة يجتث نفسه من عالم المسؤولية الأخلاقية. أنا واثق بأنني قد أسأت فهمه! ربما يتجاوز الأمر مجرد هذا الطرح، لكن الأمر قد بدا لي على هذه الشاكلة.
عادل اسكندر: لقد وصف سعيد هابرماس بأنه “متبجح بصورة مرعبة”، ويقول بأنه لا يوجد أساس أخلاقي لأفعاله (13). هل كانت هنالك ركيزة أخلاقية لما قمت به أو قام به سعيد؟
نعوم تشومسكي: أنت على حق. بالطبع كانت هنالك ركيزة أخلاقية. لقد كنا الاثنان في غاية الوضوح بهذا الشأن، فلم يحدث أن قمت أنا أو سعيد بإخفاء التزاماتنا الأخلاقية، وفي حقيقة الأمر، كنا ملتزمين بهذه الركيزة الأخلاقية بصورة علنية لا مراء فيها ولا زيف، فلقد كان ديدنا متمثلا بصوره الاجتماعية وغيرها من الصور، ولم نتوارَ قط خلف الخطابات الفضفاضة والمنمقة، وفي هذا الصدد، كنا بصورة كبيرة ننتمي للعالم الأخلاقي نفسه وبشفافية لا نظير لها، فلا يوجد ما نخفيه.
كان هابرماس كاتبا آخر لم أستطع فهمه، لقد قرأت أعماله وكانت أفكاره متماسكة، لكنني لم أستطع فهم ما يحاول قوله، ولكون ما يقوله يستحيل إيصاله بصورة أكثر اقتضابا وبساطة، وإلى حد ما كان واضحا، لا أدري، قد أعاني من نقص جيني ما، إن جل أعماله تبدو لي بسيطة إلى حد الإفراط، أو ضربا من ضروب الإبهام والضجة التي لا طائل منها، وقد يكون هذا الأمر خطئي! لكنه على الأرجح يبدو لي كذلك.
عادل اسكندر: في مقابلة جرت عام 1992، وخلال مناقشة الفلاسفة الماركسيين والمناهضين للماركسية من الفلاسفة والمنظرين، عبّر سعيد عن “تعاطفه مع موقف تشومسكي كموقف تضامني مناهض للسلطة، والذي كان موسوما باستحسان رومانتيكي” (14).
نعوم تشومسكي: لا أستطيع تذكر هذا الأمر، لكن عليك أن تأخذ بعين الاعتبار أنه بالرغم من صداقتنا الحميمة، فإننا لم نحظَ بفرصة الخوض في نقاشات عديدة، وذلك بسبب طبيعة أسلوب حياتنا. لدي أصدقاء مضت على صداقتنا ما يزيد على خمسين عاما، ورغم هذا ليس لدينا الوقت الكافي للخوض في حوارات، خذ مثلا إسرائيل شاهاك: كان صديقا مقربا لي لكننا لم نلتقِ سوى ما يقارب الخمس لقاءات، فلا وقت كافيا لدينا، وعلى أي حال، لم يدهشني تعليقه، لأنني متيقن أنه منسجم مع حس العدالة والنزاهة والذي ظل متجذرا في منهجه العام المتعلق بالقضايا الإنسانية، لكنني لا أتذكر شيئا على وجه التحديد في كتابات سعيد يشير إلى شيء كهذا، وعموما لم يحدث أن خضنا نقاشا حول هذا الموضوع، ولا أدري إن كان سعيد قد استطرد في الحديث عن هذا الموضوع في مناسبة ما حسب علمي.
عن مثقفي الجماهير
عادل اسكندر: مع تدهور الوضع الحالي، وفي وقت يشن فيه هجوم على صورة الحكاية الفلسطينية، وتستهدف فيه الحملات السياسية المكثفة مثقفي الجماهير، بما فيهم أنت وإدوارد سعيد، وبعض هذه الحملات تأخد أشكالا شرعية، وأقصد هنا على وجه الخصوص مادة القانون السادس المتعلقة بالتمويل الفيدرالي (15).
نعوم تشومسكي: يبدو لي الأمر متوقعا، وإنني في واقع الأمر لا أوليه ذلك الاهتمام، ففي أي مجتمع كان، فإن الساسة المسؤولين يستشيطون غضبا بفعل أولئك الذين يتخذون موقفا مُنشقا، وفي بعض المناطق، مثل وسط أميركا، قد يتم اغتيال مثل هؤلاء النقاد، كما حدث في روسيا قديما، إن الولايات المتحدة تُمثّل مجتمعا حرا، لذا فإن دانييل بايبس (Daniel Pipes) مجرد من السلطة، وعلى منواله يستكين هؤلاء الناس إلى التدليس والتلفيق والكذب، لكن ردة الفعل هذه تبدو اعتيادية والتي كانت تثير حفيظة سعيد أكثر مني.
لا أعتقد أن مثل حملات التشهير الدعائية هذه تحقق هدفا أكثر من التنغيص على حياة الناس، الأمر الذي أجده سيئا للغاية، ومن الممكن أن تكون هذه الحملات مصدرا للقلاقل، لكن في أغلب الأحيان فإن أولئك الذين يشنون هذه الحملات يجعلون من أنفسهم أضحوكة للجميع، إنني أعرف عددا من أصدقائي الذين أخذوا الأمر على محمل الجد، ولهذا أعتقد أنه عليك أن تتوقع مثل هذه الحملات، وفي سياق احتمال مدى تأثيرها على إرث إدوارد سعيد، حتما لن يتأثر بها قيد أنملة، لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، وأما الزبد فيذهب جفاء.
عادل اسكندر: هل تعتقد أن محاولات اغتيال ذاكرة سعيد جنبا إلى جنب مع التوبيخ العام لدراسات ما بعد الاستعمار تشي بأن إنجاز سعيد ذو أثر جارف؟
نعوم تشومسكي: إنها حقا دليل نجاح، وعلى المرء أن يكون فخورا به، لا أعتقد أن مثل هذه الحملات التشهيرية المغرضة ذات أهمية، فلقد تعايشت مع مثل هذا النوع من الحملات، بل أسوأ من ذلك، لمدة تربو على الأربعين سنة، لكنه أمر متوقع واعتيادي، فكل من يتصدى لموقف انتقادي مغاير هو عرضة للإدانة والتشهير، ومثال على هذا جون بيلجر (John Pilger) في إنجلترا، إذ تم التشهير به بشكل يندى له الجبين، وفي الحقيقة، لقد اخترعوا حتى لفظة بيلجيري (Pilgerized) والتي تعني إخبار الواقع المتعلق بالحقائق المقدسة، لكنه استُخدم كمصطلح يشي بالإساءة، لذا عليك دوما أن تتوقع مثل هذا الأمر.
جون بيلجر (مواقع التواصل)
عادل اسكندر: هل ترى أي تشابه بين حملات التشهير تلك وبين التي شُنّت ضد المفكرين الاشتراكيين والأكاديميين خلال الحرب الباردة؟
نعوم تشومسكي: شتان بين الأمرين لأن المجتمعين مختلفان، إن المجتمع ببساطة أكثر تمدنا ولا يصفح عن بعض الأشياء التي قد تورط فيها بعضهم في مطلع الخمسينيات، وفي الحقيقة، فإن نظام القمع في الولايات المتحدة هش للغاية، على الأقل وبشكل نسبي بالنسبة للفئة النخبوية، والذين يُشكّلون جزءا كبيرا من السكان في مجتمع ثري. ليس لدينا غرف تعذيب، أو شرطة سرية، إلخ، ولحسن الحظ، فممارسة القوة من خلال سلطة الحكومة أمر ضئيل، ولا تنجح محاولات الترهيب إلا إذا أذعنت لهذه التهديدات، فالوضع الراهن ليس مشابها للأوضاع في الخمسينيات، وأنت تذكر أن هذا الوضع لم يبدأ بجو مكارثي (Joe McCarthy)، بل بدأ بهاري ترومان (Harry Truman)، فلقد كانت إدارة ترومان هي التي علقت الجرس، إذ كانت أسلوبا لإقحام البلد في هستيريا للتسابق على دعم ميزانية عسكرية هائلة وللقيام بما تسميه الحكومة “مجابهة الحرب الباردة”. وهذا يعني التحكم بشكل رئيس بالمناطق التي كانت مستعمرة سابقا، ويعني أيضا تأكيد بقاء آسيا وأوروبا ملتزمتين بهذا.
كانت هذه حقا مجازفة كبيرة لتسيير عجلة العالم، وفي السياق ذاته، تقهقر دور الجامعات وهوليوود (Hollywood) على السواء. الكل كان خائفا. لكنني لا أعتقد أن هذا سوف يتكرر مرة أخرى، رغم احتمال حدوثه، ولهذا الأمر، فأنا أفترض أنه آجلا أم عاجلا سيتم تنفيذ هجوم إرهابي كبير، ولو حدث هذا، فإنه سيمهد الطريق لخلق حالة تستطيع من خلالها الدولة تطبيق القوة، وهذا بالضرورة يتطلب شعبا مرهبا وخائفا، وإنه من الصعب جدا أن نحصد النتائج في الوقت الراهن كما في السابق. وتستطيع أن تدرك هذا في حرب العراق، فالفلوجة خير مثال على ذلك، فلو كانت أحداث الفلوجة في عهد الستينيات، سيكون التعامل معها بسهولة بالغة: كقصف طائرات طراز ب (52) وعمليات الإبادة الجماعية وغيرها، لم تستطع أميركا القيام بهذا هذه المرة، وذلك لأن الشعب الأميركي لن يقبل بهذا، بل كان بالإمكان القيام بهذا في الستينيات ولا أحد يكترث للأمر، أما الآن فليس بالإمكان القيام بهذا الأمر، قارن مثلا الاحتجاجات على الحرب في العراق مع تلك التي حدثت في فيتنام.
حرب فيتنام (مواقع التواصل)
ما زال الكثيرون يتساءلون لماذا لم تحدث الاحتجاجات بالدرجة نفسها في فيتنام. يعود السبب إلى أن الوضع الراهن هو تماما النقيض للوضع في فيتنام، إذ اندلعت الحرب في فيتنام لمدة خمس سنوات دون أي تطور لمظاهرات فاعلة، ومع اجتياح جيش كينيدي العسكري فيتنام عام 1962، و1966 و1967 على التوالي، بدأنا نشهد حدوث بعض الاحتجاجات. ومنذ ذلك الحين، تم اجتياح فيتنام بالكامل. لقد خلّفت الحرب ما يقارب ستمئة ألف ضحية جراء استخدام الأسلحة الكيماوية في جنوب فيتنام، ولا أحد يستطيع التنبؤ بالعدد على وجه الدقة لأنه لم تكن هنالك احتجاجات، أما في العراق، فلقد كانت المظاهرات كبيرة قبل أن تضع الحرب أوزارها، لقد كانت المرة الأولى في تاريخ الإمبريالية الأوروبية والأميركية التي تحدث فيها مظاهرات شعبية بهذا الحجم قبل إعلان الحرب بشكل رسمي، وفي العراق، أجبرت أميركا على التقهقر تدريجيا.
ربما لم تحقق الحكومة أهدافها، وأنا على يقين من أن أهداف الحرب هي ذاتها التي يتحدث عنها البغداديون: الحصول على قواعد عسكرية وأمنية وإيجاد حليف رسمي في قلب دولة هي المصدر الرئيسي لبترول المنطقة في العالم، ومن الممكن أن لا تكون قادرة على تحقيق أهداف الحرب خصوصا أنها أُجبرت على الانسحاب تدريجيا، ومن أسباب ذلك التراجع هو الرفض المستمر للعراقيين للتواطؤ مع هذا الوضع، لكن الأمر يتطلب معرفة خلفية المجتمع الإمبريالي، فلو تلقت الحكومة الدعم ذاته الذي تلقته في الولايات المتحدة، لما اضطرت للانسحاب، ولهذا لا أعتقد أن القمع نفسه الذي كان ممكنا في الماضي محتمل في الوقت الراهن، وللسبب ذاته، أعتقد أن أولئك المؤيدين لقانون المادة السادسة من القانون المدني الفيدرالي يجعلون من أنفسهم أضحوكة.
عادل اسكندر: عطفا على قضية الاحتجاجات، لقد كنت أنت وإدوارد سعيد دوما تُذْكَران في السياق نفسه. ما دور مثقف الجماهير، وكيف كنتما تتمثلان هذا الدور؟
نعوم تشومسكي: علينا هنا أن نقسم السؤال إلى أقسام عديدة: الدور الواقعي، مع وجود بعض الاستثناءات، هو خدمة السلطة! وعلى وجه الدقة فهو دور يقوم به الجميع، لكن ما الذي يصنع من المرء مثقفا؟ فأنت جئت إلى هنا بواسطة سيارة الأُجرة. لماذا لا يكون سائق سيارة الأُجرة مثقفا؟ ولماذا أنا مثقف مثلا؟ حسنا، فأنا صاحب حظوة، لدي مصادر لا يمتلكها هو، ولعلي تلقيت تعليما لم يحظ به هو، ولهذا الأمر، فإن هذا يمنحك الفرصة للقيام بأشياء معينة، أما الخيار، فيأتي تباعا. هل ترغب باستخدام مصادرك وإمكاناتك وغيرها لدعم السلطة والتسلق البراغماتي من خلال المؤسسات المتنفذة، أم تود استخدامها لمساعدة المعذبين في الأرض؟ هذا ما قد يتوق لفعله الجميع.
على أي حال، إن أولئك الذين يُنعتون بمثقفي الجماهير هم في أغلب الأحيان عبيد للسلطة، مع وجود بعض الاستثناءات. وهذا لا ينسحب فقط على الولايات المتحدة، بل يمتد الأمر عبر سجل التاريخ، إذ ورد ذكر المثقفين في الإنجيل، أو ما يسمى بالأنبياء والذين قد نسميهم بالمثقفين المنشقين، لقد قاموا بتعرية الخطاب الجيوسياسي، الأمر الذي يمقته أصحاب السلطة، وطالبوا الملك بأن يكون عادلا، ودعوا الناس أن يغيثوا الملهوف والبائس، وافتضحوا جرائم الدولة وغيرها من الأعمال. هل تمت معاملتهم بلين؟ أمعن النظر جيدا. لقد تم سجنهم، ونفيهم إلى الصحاري، إلخ. وفي حقيقة الأمر، هنالك عبارة مشهورة الآن ومتداولة: “كاره إسرائيل”. ما منبعها؟ لقد اقتُبست من الإنجيل.
فالملك آخاب، الذي كان رمزا للشر بحسب الإنجيل، قد استدعى النبي إليا (Elijah) إليه ثم سأله: “لماذا تكره إسرائيل؟ قاصدا لماذا تكرهني أنا؟ لقد اختزل الوطن والمجتمع والثقافة في السلطة الحاكمة، كان الأمر في الاتحاد السوفيتي على المنوال نفسه، فقد كان المنشقون يصنفون على أنهم معادون للاتحاد السوفيتي وذلك لإدانتهم لسياسات الدولة، وأن تكره إسرائيل، بالنسبة للمثقفين أصحاب الولاء، هو أن تنتقد السياسات، وهذا مفهوم استبدادي وشمولي تم اقتباسه من الإنجيل، ومن الجدير بالاهتمام هو أن يستخدم هذا المفهوم من قِبل أناس يعرفون الإنجيل، ومفهوم معارض لأميركا يصب في السياق نفسه، لأنه أيضا مفهوم استبدادي. إن تاريخ المثقفين يتموضع تحديدا في هذه الجزئية.
فغالبية تيار المثقفين يميلون للانحياز بشدة للسلطة وذلك للاستئثار بمزاياها النفعية والقبول السلطوي لهم، ويتم السماح بحد خجول من النقد المتواضع ما دام هذا النقد ضمن إطار ضيق الحرية. هنالك عادة هامش من الاستثناءات في معظم المجتمعات، وغالبا ما يُعامل هؤلاء المثقفون المنشقون معاملة في غاية السوء، أما إلى أي حد تكون هذه المعاملة سيئة فهذا أمر يعتمد على المجتمع، ففي بلدان مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث لا تمتلك الدولة الصلاحيات لممارسة سلطة القمع، يتم التشهير بهم لأن هذا الأسلوب هو المتاح لديهم، أما بالنسبة لسؤالك، فلكل هذه الأسباب آنفة الذكر نُوضع أنا وسعيد معا في السياق نفسه.
عادل اسكندر: كنت قد أشرت إلى أن موقف سعيد كان متأرجحا في علاقته بالإعلام وثقافة التيار السائد، وذلك لأن إسهامه في النقد الأدبي بات ذائع الصيت وذا مكانة مرموقة رغم أنه كان دوما هدفا للتشهير بصورته، مرة قال سعيد إن مثل هذا “التشهير” لن يثني عزيمة تشومسكي أو عزيمتي (16).
نعوم تشومسكي: لقد كان هذا الأمر قاسما مشتركا بيننا، لكنه بالطبع ينسحب على كل منشق في أي مجتمع، وصديقنا إسرائيل شاهاك (Israel Shahak) في إسرائيل هو خير مثال على ذلك. لقد كان متخصصا مرموقا في الكيمياء العضوية، لكنه ظل هدفا لمثل هذا التشهير والإساءات لسنوات طويلة، بل وحاولوا طرده من عمله، ونادت الصحف بوضع القنابل في مكتبه، ومن ثم تدخلت الحكومة لمحاولة تقويض مؤسسة الحقوق المدنية المغمورة والتي كان هو عضوا فيها، ففي الولايات المتحدة، تم التشهير به وبصورة يندى لها الجبين من قِبل المعارضين المندفعين والمناهضين للحريات المدنية مثل آلان ديرشويتس (Alan Dershowitz) في هارفارد والذي كان مدعيا وكاذبا محترفا، إذ قام آلان ديرشويتس بحياكة الأكاذيب على الملأ ضد شاهاك، لكن الأمر كان أشبه بزوبعة في فنجان ضمن سياق أنظمة السلطة.
ولقد حضرت بعض خطابات شاهاك هنا في أميركا، لكنه قوبل بالصراخ والضجر، أما في إسرائيل، وهذا يحسب لإسرائيل، حيث توقفت هذه المعاملة الصلفة تجاه شاهاك خلال عشرة الأعوام أو يزيد من حياته، بل إنه لقي احتراما غير مسبوق، قد لا يروق الكثيرين ما يقوله، لكنه لقي قبولا ومكانة مرموقة كفرد مدني، إلا أن قلب الطاولة رأسا على عقب بهذا الشكل يبدو أمرا مريبا. ففي بداية الأمر، ككيميائي عضوي اعتُبر شخصية فذة ومهمة. تستطيع أن تقول إن الأمر ذاته ينسحب على آندريه ساخاروف (Andre Sakharov)؛ إذ إنه كان بكل تأكيد شخصية فيزيائية لاقت قبولا في الدوائر السوفيتية الرئيسية، لكنه تعرض لإساءة مريرة كناشط سياسي، لذا فهذا هو المعيار مع وجود تباين في حالتينا أنا وسعيد. كان سعيد تواقا لأن يصير جزءا من العالم الثقافي النبيل، رغم أن التلفيق والتشهير كانا أمرا مؤلما له شخصيا بصورة كان لا بد أن لا تكون كذلك لأولئك الذين لا يكترثون بمثل هذه الأوساط الثقافية. لقد آلمه الأمر كثيرا، لكنه آثر الاستمرار في طريق يؤمن بأنها السبيل إلى الحق.
إسرائيل شاهاك (مواقع التواصل)
عادل اسكندر: استخدمت سابقا استعارة وضعت سعيدا في سياق تراث الأنبياء العبرانيين الذين جازفوا بحياتهم في المنفى وضحوا بالجاه في مجتمعاتهم لأنهم جأروا بالحق في وجه السلطان. أجد هذه الاستعارة أكثر اختزالا لموقفك أنت وموقف سعيد إلى حد ما، إذ كان سعيد يتحدث مرارا عن “حالة تشومسكي” كحالة من التهميش القسري الذاتي، الأمر الذي قد تختلف فيه مع سعيد. أضاف سعيد أيضا بأن تشومسكي هو شخصية تميل إلى العزلة، ويبدو أنه متعاطف هنا مع حالة المنفي، ليس فقط كفلسطيني، ولكن كمثقف يعيش في حالة لا نهاية لها وينتمي إلى عالمين. هل لك أن تعقب على هذه الفكرة؟
نعوم تشومسكي: لقد كتبت آرانداتي روي (Arundhati Roy) مقالا موسوما بعنوان مشابه: “عزلة نعوم تشومسكي”، في وقت كنا نحن الاثنان نعتلي فيه منصة الحوار في بورتو اليجري في مؤتمر عالمي تحدثنا فيه لجمهور يربو على خمسة عشر ألف. ثم تلاه مشاركتنا في مسيرة ستة أميال شارك فيها ما يقارب مئة ألف شخص. إذًا فهو ليس مفهوما واضحا عن العزلة. وفي الحقيقة، أقوم مرارا بإلقاء حوارات أمام آلاف الناس. ولا يقتصر الأمر فقط على إلقاء الخطب والحوارات، فأنا أشارك أيضا في نشاطات ومؤسسات مختلفة. إذًا ليس الأمر مجرد عزلة.
إن العزلة التي تحدث عنها إدوارد سعيد هي نوع مختلف، أو لنقل نوعين. الأول وهو العزلة من اهتمام المجتمع المثقف. فكثير من الأكاديميين آثروا تأليف الأكاذيب والأباطيل. إذًا فهذا هو فعلا ضرب من العزلة، ولكنها ليست من اختصاص أولئك الذين ينأون بأنفسهم عن هذه الدوائر. أما النوع الآخر فهو شخصي. كنت، في واقع الأمر، شخصا يميل إلى الخصوصية. وأنا في غاية السعادة بوجودي مع عائلتي وبعض الأصدقاء. لكن هذا الأمر في نهاية المطاف هو شأن شخصي وليس له علاقة بالعزلة. لا أعتقد أنني صوت أعزل عندما أعتذر عن كثير من الدعوات لكي أقضي ساعة كل ليلة لإلقاء حوارات أخاطب فيها آلاف البشر. قد يكون الأمر متعلقا بالعزلة من وجهة نظر مهيمنة لفئة ثقافية نخبوية.
عادل اسكندر: لهذا الأمر يؤمن سعيد بأن الشعور بالوحدة هو أمر ضروري. فكما كتب في تمهيد كتابك “المثلث المصيري”: “إن العزلة أفضل من الهيئة النمطية للطريقة التي تسير بها الأمور” (17). وفي كتاب “العالم والنص والناقد”، يعرّف سعيد وظائف المثقف -تلك التي تطرقت لها أنت ذات مرة- بأنها ضرورية لخوض معركة سياسية اجتماعية “لتخيل مجتمع الغد الذي يخضع للحاجات الملحة للشرط الإنساني في أحسن حالات فهمنا له؛… (و) سبر أغوار كينونة السلطة والقمع في مجتمعاتنا المعاصرة” (18).
نعوم تشومسكي: هذا وصف مناسب جدا لما قام به سعيد طيلة حياته. إنه ليس بالضرورة أن يكون معيارا للدور الذي يلعبه المثقف، لكنه حقا دور نبيل.
عادل اسكندر: يؤمن سعيد بأن دورك هو الأكثر مثارا للإعجاب، لكنه الأقل تقليدا.
نعوم تشومسكي: لا، لا أعتقد أن سعيدا هو الشخص الذي يتحدث عن التقليد. لا أستطيع أن أفكر بما قمت به ولم يقم به سعيد بشكل مستقل، وعلى الأغلب بصورة أفضل، إذًا أي تقليد هذا؟
العدالة في العراق
عادل اسكندر: كان إدوارد سعيد مشغولا بسياسات التمثيل. إن تعبيره عن الوسائل التي من خلالها تتقاطع الهموم والمصالح يُشكّل أرضا مشتركة قمتما برسم معالمها بصورة لامعة عبر السنوات التي خلت. في ضوء هذا الاهتمام، كيف تُموضِع سعيدا وجها لوجه مع الصراع الراهن في العراق.
نعوم تشومسكي: هنالك فئة نادرة من الناس، وإدوارد سعيد كان واحدا منهم، أولئك الذين كان اعتراضهم على الاجتياح مرهونا بمبدأ واضح. رافق هذا الاجتياح نقد نخبوي حاذق، لكنه ارتكز على أسس ضيقة لا مبدأ فيها. كان مزعمهم هو أن الاجتياح بالنسبة للولايات المتحدة سيجر وبالا على أميركا إذا لم ينجح، أو إذا لم يكن هنالك تهديد مباشر لمصالحها. أما الأمر لدى إدوارد سعيد، فكان مختلفا. فعلى سبيل المثال، هنالك لعبة تخمينية نشاز يتم تداولها الآن بين المثقفين في إنجلترا وهنا في أميركا، وهي إلى أي مدى قامت إدارة بوش بالتقليل من شأن تهديد الإرهاب من أجل تحقيق أهدافها في العراق، وما إلى ذلك من تصريحات ريتشارد كليرك (Richard Clerk) وغيرها.
إن الأمر الوحيد المدهش بخصوص هذه النقاشات هو أن تؤخذ من قِبل أي شخص على محمل الجد. بالطبع قام أعضاء إدارة بوش بالتقليل من شأن خطر الإرهاب سعيا وراء مصالح أميركا في العراق. وفي الحقيقة فلقد تم إثبات هذه الفرضية من خلال اجتياح العراق. لقد اجتاحوا العراق لأسباب تستروا عليها هنا في أميركا. فهم يدركون تماما أن الاجتياح أذكى احتمالات خطر الإرهاب، فهم لا يكترثون أصلا. كان إدوارد سعيد من القلائل الذين صرحوا بهذه الحقائق، ولو كان يجلس بيننا اليوم، حتما سيقول الكلام نفسه. إلا أن هذا الأمر لا يتم تداوله في الدوائر الخجولة. خذ مثلا مسألة القانون السوري للمساءلة. هنالك باحث مرموق يُدعى ستيفن زيونز (Stephen Zunes) كان قد كتب عن هذه المسألة، لكن لا حياة لمن تنادي.
ستيفن زيونز (مواقع التواصل)
فسوريا ظلت متعاونة بشكل كبير مع الولايات المتحدة. والسوريون يمقتون الإسلاميين السلفيين. إن قانون سوريا للمساءلة (Accountability Act)، والذي تم التصويت عليه بالإجماع، هو في حقيقة الأمر إعلان للحرب، فهو يقطع السبيل بين الولايات المتحدة وبين مصدر رئيسي للاستخبارات والدعم في معركتها ضد منهج القاعدة الإرهابي. ولكن من المهم بمكان التأكيد أن الشرق الأوسط هو أكثر ضبطا. فلو أمعنا النظر في القانون السوري، لاستطعنا فهم الأمر بشكل أفضل. إن النقد الجوهري لسوريا بخصوص هذا القانون هو أنه مستند إلى القرار رقم 520 والذي ينادي باحترام التنوع الطائفي وسيادة لبنان. البعض يقول إن سوريا انتهكت هذا الأمر، وهذا صحيح.
ولا أحد يكترث أو يجرؤ على القول بأن السوريين قد تلقوا دعوة من الولايات المتحدة وإسرائيل لذبح الفلسطينيين، الأمر الذي اعتُبر محمودا لديهم. ولذلك فهم في غاية السرور أنهم استطاعوا توريط سوريا. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن القرار 520 لم يوجه ضد سوريا، بل ضد إسرائيل. لقد تم التصويت على القرار عام 1982 لحث إسرائيل على احترام التنوع الطائفي في لبنان، وبالطبع قامت إسرائيل بانتهاك هذا الأمر لما يزيد على اثنين وعشرين عاما، بدءا من عام 1978 وحتى عام 2000. لم يتطرق أحد قط إلى ذكر تلك العقوبات المفروضة ضد إسرائيل، أو مجرد ذكر أن جوهر القرار المتخذ ضد سوريا هو في واقع الأمر قرار أيضا ضد إسرائيل.
كان هذا النوع من القضايا التي كان يتداولها سعيد، رغم ندرة وجود أحد غيره يفعل الأمر ذاته. ثم استمر الوضع الراهن على المنوال نفسه، قضية تلو أخرى، إلى أن سقطت كل الذرائع لشن الحرب، أسلحة الدمار الشامل، العلاقات مع الإرهاب، وغيرها من الذرائع. لهذا هنالك الآن قصة جديدة، وهي ما تسميه الصحافة رؤية بوش الصليبية لجلب الديمقراطية إلى العراق والشرق الأوسط. لقد تواطأ المراقبون الغربيون مع هذه الفكرة وحتى النقاد. فالنقاد يقولون في مراجعات صحيفة نيويورك تايمز للكتب والشأن الأميركي نعم، إنها رؤية ليبرالية موسومة بالكرم، لكن فيها مبالغة ومكلفة جدا، فليس بمقدورنا تنفيذها، إلخ. ما الدليل على أن الديمقراطية هي الغاية الأساسية؟ هل لديهم دليل على هذا كله؟ حتما لا دليل لديهم. لقد صرح الرئيس بهذا، وكل تقارير الأخبار تفترض هذا الأمر سابقا.
وفي الواقع، هنالك حالة استثنائية واحدة وجدتها في الصحافة الأميركية في خبر لجريدة واشنطن بوست، والتي نقلت تفاصيل استطلاع للرأي العام أُجري في بغداد. سُئل البغداديون عن اعتقادهم في سبب قيام الولايات المتحدة بالاجتياح. قام الجميع بإعطاء إجابة واضحة وجلية: وهي التحكم بمقدرات ومصادر العراق ولإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط فيما يتلاءم مع مصالح الولايات المتحدة الأميركية. أنت لا تجرؤ على البوح بهذه الفكرة هنا في أميركا. إذا كان هذا رأي الغالبية في بغداد، ماذا عن فكرة تأسيس الديمقراطية؟ كانت نتيجة الاستطلاع 1%. وفيما لو كان الأمر لمساعدة العراقيين، كانت النتيجة 5%. ومثل هذا النوع من المواقف هو ما حاول سعيد استثماره. كان سعيد دوما الناطق المتفرد لهذه الحقائق.
وغالبا ما يستكين المثقفون بصورة عمياء لأوامر السلطة رغم أن هذه الأوامر لا تُفرض قسرا، بل يميل الكثيرون لاستمراء التبعية لها. أحاول جهد نفسي أن أجد تعليقا في الصحافة الأميركية يشير إلى ما يؤمن به معظم البغداديين، فلا أجد سوى أشياء تُذكر على الهامش. ما زال هذا الصمت هو سيد الموقف قضية تتلو أخرى. فمثلا، إن تغطية أحداث الصراع الإسرائيلي العربي لأمر في غاية السخف. فليس بمقدورك أن تسرد أخبار الحقائق الجوهرية. فلقد كان اجتياح لبنان سنة 1982 هو الأسوأ من بين الاجتياحات الخمسة التي شنّتها إسرائيل. ففي كل الصحافة الإسرائيلية، هنالك أخبار تفسر ماهية الاجتياح. لقد كانت القيادات العليا العسكرية والسياسية واضحة بهذا الشأن. كان الأمر متعلقا بالضفة الغربية.
أرادت إسرائيل أن تجهض مقترحات مفاوضات سلطة التحرير الفلسطينية، والتي كانت محرجة. لقد ضاق الإسرائيليون ذرعا بمفاوضي السلطة الفلسطينية، لذا كان عليهم إيقافهم عن ممارسة هذا الدفاع الدبلوماسي المحرج لمحاولة تهدئة الأوضاع. ليس بمقدورك أن تنقل خبرا مثل هذا في الولايات المتحدة ولا حتى أن تنبس ببنت شفة. إن القصة كانت في الولايات المتحدة، والتي هي محض افتراء، أن إسرائيل قامت باجتياح لبنان وذلك بسبب سقوط صواريخ كاتيوشا على شمال الجليل، الأمر الذي كان برمته مجرد اختلاق.
وفي الحقيقة، إن أول شاهد رأيته لما هو فعلا من أحداث اجتياح 1982 كان قبل عام تقريبا، عندما قام مراسل إسرائيل في صحيفة نيويورك تايمز، جيمس بينيت (James Bennett)، بتضمين سطر في خبر يصرح فيه بأن إسرائيل قد اجتاحت لبنان من أجل وقف توصيات المفاوضات. لقد استغرق الأمر عشرين عاما لظهور سطر واحد بهذا الشكل، إلا أن إدوارد سعيد كان مرارا يتحدث جهارا عن الموضوع، بل إنه استطاع أن يحظى بجمهور يسمعه. كان دوما يشهر الحقيقة قضية تلو الأخرى. ولهذا كان ممقوتا لديهم.
عادل اسكندر: عندما خرج كتاب “الاستشراق” للعيان عام 1978، اعتبره الكثيرون نصا مؤثرا على فهم صورة الآخر. لقد أحدث تغييرا في معظم الخطابات الأكاديمية المتعلقة بسرد صورة الآخر، أو صورة الآخر الهامشية “Othering”. ما زلنا نرى صورا لاقت انتشارا لسجن أبو غريب بالإضافة إلى الأعمال الوحشية التي ارتكبها الأباطرة لإقصاء الآخر. كيف ينظر إدوارد سعيد إلى هذه التمثيلات في العقود الثلاث التي تلت نشر كتاب “الاستشراق”؟
نعوم تشومسكي: عندما تتحدث عن الخطاب الأكاديمي، فأنت تتناول الدراسات الثقافية والأدبية، وليس العلوم السياسية أو العلاقات الدولية أو حتى المثقفين العموميين الذين يظهرون على شبكات الإعلام. لم تتغير هذه الحقول بالطريقة التي وصفتها. بالتأكيد، لقد أحدثت أعماله ثورة في الدراسات الثقافية والعلوم الاجتماعية، وكل حقول المعرفة من الأنثروبولوجيا وحتى النقد الأدبي. كان لأعماله الأثر الكبير على المجتمع، لكن هذا الأثر لم يكن ليغير الخصائص الجوهرية ما لم يخترق الوعي أو الفهم الجمعي. إنه مهم لتأثيره الحضاري على المجتمع، لكنه لن يغير من وظيفة الدعاية الإعلامية والتيار السائد للمثقفين. لقد أصبح هذا الدور متأصلا في الأنظمة المؤسساتية للسلطة.
كتاب الاستشراق لـ ” إدوارد سعيد” (مواقع التواصل)
وفي حقيقة الأمر، لو نظرنا عن كثب في الطريقة التي مررت بها فضائح أبو غريب، لوجدتها مشابهة لمجازر ماي لاي التي حدثت في فيتنام. ودوما تُعلّق اللائمة على شماعة “الآخر” وليس علينا. ليس علينا نحن الزملاء المرموقون في نوادي الكلية ومكاتب التحرير. هذا الآخر جنوبي بائس مختلف عنا نحن. فهو شخص غير مثقف وفقير الأرومة والمنبت. تماما مثل ماي لاي، لم ينسب أبو غريب لأناس مثقفين ومسؤولين. أما بخصوص مجزرة ماي لاي، فقد أُلقي باللائمة على أشخاص غير مثقفين، أشباه مجانين. تكمن الحقيقة في أن ماي لاي هي شاهد على مجزرة جماعية تم تنظيمها من قِبل أشخاص متحضرين تماما مثلنا يجلسون في مكاتب مكيّفة.
يتوقف النقد عند استخدام لغة الحرب. ولو حاولنا سبر أغوار الموضوع، لوجدنا أن الأمر مرتبط بمنظومة من الأوامر وإطار يعمل من خلاله أولئك الجنود لأن هذه الأوامر تأتي مباشرة من رأس الهرم. والسؤال هنا: ماذا كان يفعل أولئك الجنود؟ ماذا كانوا يضمرون؟ كانوا ببساطة يصفّون حساباتهم مع الرأس المدبر لتفجيرات مبنى التجارة العالمي. يا تُرى، من أي مصدر جاؤوا بمثل هذه الفكرة؟ أجل، جاءت من أناس متحضرين يديرون مؤسسة فوكس نيوز. هكذا كانت الحكاية، وهكذا تمت قصقصة هذا الجزء منها. فاللائمة دائما تُعلّق على شماعة الآخر. وصادف أن حكاية الآخر حسب الرواية الأميركية هنا كانت مطابقة لذلك الآخر في حكاية ماي لاي. لكنها كانت زوبعة في فنجان. لأنه ما زال “الآخر” لذا بمقدورنا أن نشن الحرب عليه. إن الدافع وراء عدم إشهارنا للحقيقة هو في نهاية المطاف أنه نحن من يتحمل المسؤولية، وليس الآخر.
لقاء سعيد ومنظمة التحرير الفلسطينية
عادل اسكندر: هل ما زلت تذكر لقاءك الأول بإدوارد سعيد؟
نعوم تشومسكي: لقد كان لقاؤنا الأول قبل خمسة وثلاثين عاما تقريبا، في أواخر الستينيات من القرن المنصرم. لكنني لا أذكر في أي مناسبة كان هذا اللقاء على وجه الخصوص. والاحتمال الأكبر أنه كان متعلقا بالوضع الفلسطيني الإسرائيلي، الأمر الذي كان شخصيا لدينا نحن الاثنان. لقد كنا نلتقي في بعض الأحايين في اجتماعات منظمة التحرير الفلسطينية.
عادل اسكندر: لم يُنشر الكثير عن مثل هذه اللقاءات مع المسؤوليين الفلسطينيين في صحيفة نيويورك تايمز. إلى أي مدى كنتما منخرطين معا خلال تلك الحقبة البناءة؟
نعوم تشومسكي: لم يحدث أنني تطرقت أو كتبت عن هذا الموضوع قط. وللأسف، فكل الأشخاص الذين كانوا مشاركين في هذه الاجتماعات قد قضوا نحبهم. وليس لدي ما أتكئ عليه الآن سوى ذاكرتي. لم يتطرق أحد لذكر هذا الموضوع. لقد حاول إدوارد سعيد جاهدا منذ السبعينيات، كما حاول الآخرون، أن يؤثر على القيادات الفلسطينية من أجل تبني سياسات مثمرة وبنّاءة أكثر لتمهيد الطريق أمام الفلسطينيين لنيل حقوقهم. وهذا بالطبع ما لم تقم به هذه القيادات. كانوا يتبعون سياسات لم تكن أكثر من محاولة استفزاز هشة للإسرائيليين والأميركيين. كانت ردود أفعالهم وكأنهم عملاء مأجورون للعناصر الأكثر تطرفا وعنصرية في إسرائيل والولايات المتحدة. ومن الذين بذلوا جهودا في هذا الصدد هو إقبال أحمد الذي كان على علاقة شخصية بقيادات منظمة التحرير الفلسطينية.
إقبال أحمد (مواقع التواصل)
ولقد أجرى محادثات مماثلة على طريقته الخاصة. كان اللقاء في نيويورك والمحادثات الأخرى متعلقة بهذا الشأن. ولكن لا بد من القول إن هذه اللقاءات لم تؤتِ أُكلها كما ينبغي. لم تستوعب القيادة كم هي الحاجة ملحة إلى إذكاء تعاطف وتضامن ودعم الشعب الأميركي. كنت على علاقة وثيقة بحركات العالم الثالث عبر العقود المنصرمة، ومن الواضح أن القيادة الفلسطينية غير قادرة على استيعاب هذه الأمر. حتى إن قادة كوريا الشمالية، بطريقتهم التي بدت جنونية، حاولوا التأثير على الرأي العام الأميركي من خلال الترويج لأعمال كيم سانغ وغيرها من الإجراءات.
لم تكن هذه الطريقة مثمرة في ذلك الوقت، لكن هؤلاء القادة، على الأقل، قد استوعبوا الدرس جيدا وهو أنهم سيسحقون سياسيا عن بكرة أبيهم ما لم يظفروا بمستوى معين من دعم الرأي العام الأميركي. هكذا يسير العالم. إن الشيء الوحيد الذي يستطيع التأثير على قوة الولايات المتحدة وبطشها هو الرأي العام. لم يحدث أن استوعبت القيادة الفلسطينية هذا الأمر قط. فلو جاء هؤلاء إلى الولايات المتحدة لإشهار الحقيقة جهارا بخصوص موقفهم، حتما سيحظون بتأييد شعبي غير مسبوق.
كانت الحقيقة ببساطة هي أنهم كانوا وطنيين محافظين أرادوا ترشيح ممثليهم وإدارة مجتمعاتهم، إلخ، الأمر الذي يعد رسالة مثالية تلقى قبولا لدى التيار الأميركي السائد. لقد أصروا دائما على أن يقدموا أنفسهم كثوريين ماركسيين يحملون أسلحة الكلاشنكوف ويقودون ثورة عالمية، الأمر الذي كان فعلا هزليا. إنهم ببساطة يكررون أنفسهم. وفي السبعينيات، وجّه القادة الفلسطينيون هجمات إرهابية ضد أناس كان من المفترض أن يكونوا حلفاءهم الطبيعيين في إسرائيل. كان المخطط الداخلي في إسرائيل يقتضي أن يتم إرسال اليهود العرب البائسين إلى الحدود مع لبنان، بينما كان الفلسطينيون يشنّون هجمات يقتلون فيها الناس هنالك. وبمنأى عن أي تقييم أخلاقي، فإن مثل هذا المنهج هو أمر في غاية التخلف السياسي. كان بالإمكان أن يتم التفاعل البناء مع هذه المجموعة ضمن المجتمع الإسرائيلي، لكنهم آثروا قتلهم.
يبدو ان مفهومهم عن السياسة يتلخص في الانسجام مع أصحاب الثروات والظفر باتفاقية ما خلف الكواليس. لذا، فلو تمت دعوتهم لمطبخ البيت الأبيض وأجروا محادثات مع كيسنجر، عندها يكونون قد مارسوا السياسة بدلا من قيامهم بمبادرة ما قد تساهم في تضامن شعبي. سأعطيك شاهدا يؤكد هذه الأطروحة. ففي حرب عام 1982، لم يكن للاجتياح الدموي الإسرائيلي أن يحدث لولا الدعم الأميركي، والذي يتضمن حق الفيتو لقرارات مجلس الأمن والتي تنادي بوقف نهائي للجرائم واستخدام القوة العسكرية.
كانت هذه الأحداث في غاية الترويع، خصوصا ما يتعلق بتفجيرات بيروت. حتى إن ثوماس فرايدمان (Thomas Friedman) صرح قائلا: إن التفجيرات التي قامت بها إسرائيل ليست مزحة. وهنالك قصة في غاية الأهمية لمسؤول إسرائيلي عسكري يُدعى دوف ييرمييه (Dov Yirmiah) والذي كان شخصية بطولية مخضرمة ومن مؤسسي الهاجناة، المنظمة الأقدم للدفاع عن أرواح وممتلكات إسرائيل. كان ييرمييه مثارا للإعجاب لاستقامته وشجاعته. ولقد كان طاعنا في السن بالنسبة لشخص ينتسب للجيش، إلا أنه انضم للقوات العسكرية كواحد من أعمدتها المدنية، إذ تم تعيينه للتعامل مع قضايا الشعب المحتل وغيرها من القضايا. إلا أنه صُدم بشكل غير اعتيادي، فلقد تم تحطيم مُثُله عن بكرة أبيها حتى إنه ضاق ذرعا بالرعب والأعمال الوحشية.
دوف ييرمييه (مواقع التواصل)
ثم كتب مذكراته عن الحرب يسرد فيها تجربته بأسلوب فوتوغرافي مثير وآسر للمشاعر. لقد قرأت هذه المذكرات باللغة العبرية، وخطر ببالي أنها ستكون فكرة رائعة لو تسنى لي ترجمتها. لذا قمت بإقناع ناشر مغمور هنا في أميركا للقيام بترجمتها. وبالفعل قام بهذه الترجمة ونُشرت كمذكرات حرب. كنت قد طلبت من إدوارد سعيد إذا كان بمقدوره أن يقنع منظمة التحرير الفلسطينية -والتي هي مثال للثراء الفاحش وواحدة من أكثر منظمات العالم الثالث ثراء- أن تساهم بتوزيع هذه المذكرات من خلال شرائها وتوزيعها على المكتبات مثلا لجعلها متوفرة في مكان معين.
كنت على يقين أن الموضوع لن تتم مراجعته هنا في أميركا. لم يحصل الناشر على أي تمويل لتسويق المذكرات. وبالفعل طلب سعيد من منظمة التحرير الفلسطينية القيام بذلك، ولكن المنظمة وافقت على ذلك بشرط أن يختم على الكتاب عبارة “طُبع بدعم من منظمة التحرير الفلسطينية”. وهذا افتضاح لإخفاق هذه المنظمة في فهم الكيفية التي يسير من خلالها المجتمع الديمقراطي. لقد كان فشلا ذريعا بامتياز وطويل المدى فهو يتكشف قضية تتلو الأخرى. لقد بذل إدوارد سعيد جهودا مضنية لتغيير هذا الأمر، وكنت، في الواقع، جزءا من بعض هذه الجهود. لقد قمنا أنا وسعيد وأستاذ التاريخ الروسي في جامعة كولومبيا، آليكس إيرليخ (Alex Erlich) بالاجتماع مع قادة منظمة التحرير الفلسطينية ولكننا رجعنا بخفي حنين.
عادل اسكندر: لو رجعنا بتمعن إلى الوراء، نجد أن سعيدا كان يمتلك رؤية استشرافية ثاقبة تعري إرهاصات الأثر السلبي لاتفاقية أوسلو على مصير حياة الفلسطينيين. إلى أي مدى تتطابق رؤاك مع سعيد بخصوص شروط الاتفاقية؟ وكيف تتخيل ردة فعل سعيد على الوضع الراهن؟
نعوم تشومسكي: عليّ أن أخمن في هذا المقام. لقد كانت ردة الفعل لدينا على اتفاقية أوسلو متطابقة تقريبا، وكنا قلقين بخصوص هذه الاتفاقية، حتى إننا كنا نستخدم العبارات نفسها تقريبا في خطاباتنا دون أن نتحدث وجها لوجه. فجُلّ هذا الرأي تشي به كتاباتنا. أما في الوقت الحالي، فأشك أن تكون ردة فعله مطابقة لردود فعلنا على أوسلو. ولنكن أكثر موضوعية، فإن وقف إطلاق النار كان بمنزلة نصر مؤزر للولايات المتحدة وإسرائيل، بل ولأوروبا أيضا.
اتفاقية أوسلو (الجزيرة)
لقد نجحت الولايات المتحدة وإسرائيل في إعادة رسم أبعاد القضية، فما يعنيهم هو العنف الفلسطيني، فإسرائيل والولايات المتحدة ستكونان في غاية السعادة عندما تلجم أفواه الفلسطينيين، وعندها سيتسنّى لهم استئناف برامجهم المتعلقة بضم الضفة الغربية والسيطرة على خيراتها ومصادرها، ومن خلال مشاريع تطوير البنية التحتية الضخمة والتي من شأنها تقسيم السكان. وهذا هو المبتغى الذي عليه اتفقوا، لم تضمّن كلمة واحدة عن الاحتلال، فحسب عالمهم، فإن المستوطنات لم تظهر على السطح، ولا حتى برامج إسرائيل التوسعية، ولم يتم التطرق لموضوع الجدار العازل.
لذا كان الأمر برمّته بمنزلة نصر للولايات المتحدة ولموقف إسرائيل، والصادم أكثر أن هذا النصر لاقى قبولا من قِبل أوروبا، بل والعالم أجمع. فهذه الرؤية تتلخص في أن القضية الوحيدة المطروحة الآن هي أمن الإسرائيليين، بما فيها المستوطنات. لا أحد تواق لقتل أحد، فالكل سيكون في غاية السعادة عندما يوضع حد لدراما العنف.
مفاهيم صهيونية متنافرة وقومية ثنائية:
عادل اسكندر: في عام 1990، بدأ سعيد المجاهرة علنا وتبنيه الدعم الكامل لحل الدولة الواحدة. هل كنتما متفقين على هذا الأمر. كيف تقارن رؤاك عن السلام برؤى سعيد؟ وهل كلاكما مؤيد لحل القومية الثنائية؟
نعوم تشومسكي: كانت هذه النظرة في أواخر حياته، فإدوارد سعيد لم يُعبّر عن هذه الرؤية إلا في أواخر التسعينيات.
أما بالنسبة لي فقد كنت ملتزما بهذا الحل منذ البدايات. أعتقد أنه كانت هنالك وجهة نظر واقعية في الفترة الواقعة بين 1967 وحتى عام 1973. ولقد كنت قد تطرقت للموضوع، وكتبت الكثير عنه، لكنني لا أذكر أن أحدا آخر قد تطرق له في ذلك الوقت. وفي الحقيقة أنني كنت عرضة للتشهير والإساءة من قِبل الجانبين: الفلسطيني والإسرائيلي. وبالطبع، فلقد استشاط المراقبون الأميركيون غضبا. ويبدو أن الأمر كان واقعيا في تلك الفترة. وبناء على مذكرات مسؤول إسرائيلي وعسكري رفيع، نجد أن مصدر هذه الاقتراحات ينبع من المخابرات الإسرائيلية العسكرية، والتي كان بالإمكان أن تقود إلى هذا الاتجاه.
إلا أن هذه المقترحات سرعان ما تم تقويضها من قِبل قادة سياسيين كبار. ولكن منذ منتصف السبعينيات، لم يكن الأمر ممكنا إلا كمرحلة تأتي تباعا وضمن عملية طويلة المدى. وفي هذا السياق، فإن فكرة إقامة الدولتين لاقت إجماعا دوليا، وهذا ما كان سعيد ملتزما به، حسبما أعتقد. كنت أيضا ملتزما بهذا الأمر، رغم أنني كنت أتمنى أن يُشكّل خطوة إيجابية أقرب باتجاه الاحتواء. وعندما أطلّت أوسلو علينا، كنا نراها أنا وسعيد تقويضا صارخا من قِبل منظمة التحرير الفلسطينية، والذي يمارس من خارج الحدود، وكقضية لأولئك الفلسطينيين في الخارج الذين يستخفون بجدوى فكرة إقامة قومية ثنائية، والتي قد تأخذ بالحسبان الحقوق الشرعية للفلسطينيين في الداخل.
عادل اسكندر: هل تعتقد أن الأمر كان كذلك عندما تبنّى إدوارد سعيد فكرة حل الدولة الواحدة؟
نعوم تشومسكي: لو تمعنت في كتاباته، فإن الفكرة، حسبما أعتقد، بدأت تطفو على السطح في كتاباته قبل عامين، بعد أن أصبحت فكرة سقوط أوسلو جلية للعيان.
عادل اسكندر: عندها أصبح سعيد محموما جدا في كتاباته حتى الرمق الأخير من حياته.
نعوم تشومسكي: وهذه كانت من المواضيع التي لم نتفق عليها. فلقد كنت ملتزما بها طيلة السنوات التي خلت منذ بداية الأربعينيات. كنت أعتقد أن الإصرار على الفكرة حتى أواخر التسعينيات كان خطأ تكتيكيا وفكريا على السواء. ومن المثير حقا أن الأمر لاقى قبولا لدى التيار السائد في أواخر التسعينيات. لذا كان بمقدور إدوارد سعيد الكتابة عن الموضوع نفسه في صحيفة نيويورك تايمز، كما استطاع توني يوت (Judt Tony) التطرق له في مراجعات نيويورك تايمز لبعض الكتب بالإضافة إلى آخرين تطرقوا للموضوع في أماكن أخرى.
ومنذ عام 1967 وحتى منتصف السبعينيات، عندما كان ممكنا اقتراح الأمر، كان الأمر بمنزلة ضرب من التابوهات. إذًا ما وجه الاختلاف؟ لقد كان الاختلاف هو أن الأمر تم فهمه في أواخر التسعينيات على أنه مجرد فكرة لا يمكن تطبيقها، وفجأة، أصبح ممكنا التحدث عنها. وأنا لا أفترض سوء النية لدى أي جانب، لكنني أعتقد أن هنالك إساءة فهم للموقف. فبإمكانك أن تتمنى إقامة دولة قومية ثنائية، إلا أنه لا بد لها أن تمر بمراحل عدة. فكان بالإمكان تطبيق الأمر عام 1967 وحتى منتصف حقبة السبعينيات. كان من الممكن تطبيق نظام فيدرالي في أجواء من السلام العام.
إلا أن هذا الاقتراح لا جدوى منه في الوقت الراهن، ولكن من الممكن تحقيقه مرة أخرى ضمن مراحل مختلفة. فقد تكون المرحلة الأولى فكرة حل الدولتين جنبا إلى جنب مع اتفاقيات جينيف على الأقل كخطوة أساسية لمفاوضات جادة لكي يتسنى لك الأمر بعده بالانتقال خطوة أخرى باتجاه التعاون. والحديث عن دولة واحدة في مثل هذا السياق هو مجرد تقديم هدية لليمين الإسرائيلي والولايات المتحدة. لهذا الأمر أعتقد أن الأمر أصبح موضوعا قابلا للنقاش لدى التيار السائد من الناس وأختلف مع سعيد في هذه المسألة التكتيكية.
عادل اسكندر: يقول سعيد في كتابه “السلطة والسياسة والثقافة” أن هنالك اختلافات بينكما لكنها ليست مهمة أو جديرة بالاهتمام (19).
نعوم تشومسكي: إن نقاط التشابه بيننا لم تكن فقط كبيرة لكنها في غاية الأهمية، وكثيرا ما كنا نشير إليها، لكنني متأكد من وجود الاختلافات أيضا. وأقصد هنا أننا لم يحدث أن تطرقنا لها رغم أنني متأكد من تعاطفي مع المشروع الصهيوني بصورة مختلفة عن سعيد. أستطيع تفهم الأمر، فأنا أرى الصراع يتمحور حول الحقوق، ولا أعتقد أن سعيدا يشاطرني الرأي على الأقل فيما يتعلق بهذه الخصوصية.
كتاب “السلطة والسياسة والثقافة” لـ “إدوارد سعيد” (مواقع التواصل)
عادل اسكندر: إلى أي مدى تختلفان في آرائكما عن الصهيونية؟
نعوم تشومسكي: لقد نشأت الصهيونية في سياق أوروبي، لكن أغلبها جاء من أوروبا الشرقية. ومن هذا المكان جاءت الهجرات. كانت هنالك الصهيونية السياسية والتي كان يمثلها ثيودر هيرتزل (Theodore Herzl) وشخصيات قيادية أخرى، إلا أن الاستيطان الحقيقي على الأراضي جاء من ثقافة اليهود لأوروبا الشرقية والتي كانت ثقافة مختلطة. كانت هذه الثقافة تتضمن عناصر من الحياة الفكرية الروسية والأوروبية الشرقية. وكانت هذه الثقافة متجذرة في الجيتو اليهودي الذي كان خليطا معقدا من أصول هجين. وأنا تقريبا أقرأ الأشياء من خلال هذا النسيج. كنت دوما معارضا للصهيونية السياسية كما فعل سعيد، لكنني كنت متعاطفا مع بعض الهوامش الأخرى.
عادل اسكندر: هل لك أن تستطرد أكثر بخصوص هذه النقطة؟
نعوم تشومسكي: حسنا، لقد كنت ملتزما منذ طفولتي لاتجاهات اشتراكية وقومية ثنائية تحت مظلة الصهيونية. كانت الميول تتعارض مع قيام دولة يهودية، لكنها كانت أقرب إلى بناء مجتمع يهودي ومركز ثقافي ومنظومة من المؤسسات الاشتراكية مثل مؤسسات الكيبوتس على أمل أن تتحقق وتتكامل مع المجتمع الفلسطيني، وعلى أساس طبقي. خذ مثلا واحدة من القضايا الملموسة والمثيرة للجدل. إن أحد عناصر الهجرة اليهودية الأوروبية إلى فلسطين، والتي تتضمن ميولا اشتراكية لقومية ثنائية، كانت تنمية ما يسمى بالعمالة اليهودية.
كان مثل هذا المفهوم ينادي باقتصاد مغلق كاقتصاد يهودي منكفئ على نفسه بعمالة وإنتاج يهودي. بالطبع هذا أمر فيه تمييز ضد السكان الأصليين. إن هذه الفكرة مثار لجدل كبير وربما أسوأ. على أي حال، فإن أردت مناقشة الفكرة بجدية عليك أن تسأل: ما جذورها؟ إن مصادرها لأمر معقد. ولتوضيح الأمر بصورة أبسط، لو كان هنالك أي هجرة، مما يقودنا لسؤال آخر: هل هنالك أي حق للهجرة أصلا؟ لو افترضت جدلا أن هنالك مبررا للاستيطان وإنشاء مركز ثقافي ومكان يكون فيه لليهود حياتهم الخاصة بهم تصبح مسألة العمالة اليهودية أكثر صعوبة.
الأمر صعب لأن المستوطنين الذي يأتون يستوعبون خيارين اثنين: أولهما كان متعلقا بأسلوب ملاك الأراضي الجنوب أفريقيين والذين يستغلون العمال الفلسطينيين. أما القرار الثاني فهو قلب الهرم للحياة اليهودية رأسا على عقب كما يفهمها الصهاينة اليهود اليساريون. وبالنسبة لهذا الرأي، فإن المجتمعات الطبيعية الفاعلة غالبا ما تستند إلى إنتاجية الناس بما فيهم المزارعون والعاملون وهم أنفسهم من يُشكّل الهرم. إن عملهم الإنتاجي هو المحرك الفاعل للتجارة والمثقفين والجامعات والمهنيين وغيرهم. إلا أن المجموعة الأولى هي رأس الهرم.
فكثير من المفكرين يعتقدون أن هرم الحياة اليهودية هو مقلوب رأسا على عقب لخلوه من وجود أساس يستند إليه. لقد أرادوا تشكيل ما يعتبرونه مجتمعا طبيعيا، مما يعني ضرورة وجود أساس للطبقة العاملة اليهودية وطبقة الفلاحين. إن مثل هذا النوع من المجتمعات ممكن قيامه فقط من خلال احتكاره لفئة معينة بشكل حصري. لا تستطيع أنت ولا أنا الذهاب إلى وسط أفريقيا ونصبح جزءا من مجتمع قادر على البقاء لأننا لا نمتلك أدوات البقاء. الأمر ذاته ينسحب على أولئك القادمين من مجتمعات أكثر فقرا من أوروبا الشرقية. فلو حاولوا أن يجربوا حياة الفلاح الفلسطيني، فلن يكونوا قادرين على البقاء.
لذا فالخيارات المتاحة كانت تكمن في خلق مجتمع طبيعي أساسه الطبقة العاملة، مما يتيح الفرصة للمهنيين وللمثقفين أن ينتجوا فائضا للقاعدة العمالية. ولتحقيق هذا، كان عليهم أن يقتصروا على عمالة يهودية بشكل حصري، الأمر الذي كان بالفعل معضلة. لكن فهم هذه المعضلة هو أمر في غاية الأهمية لرفض مثل هذا الموقف. ولا يتسنى ذلك إلا من خلال فهم خفاياه وأصوله تلك التي تعتبر أمرا معقدا.
تأملات
عادل اسكندر: لو رجعنا للوراء، بعد معرفة طويلة الأمد بسعيد، ماذا يُمثّل لك إدوارد سعيد؟
نعوم تشومسكي: بداية، لقد كان إسهامه عبقريا وفذا في ميدان الثقافة والوعي المعاصرين من خلال أعماله الأكاديمية. كان بالفعل رجلا شجاعا ونزيها، إذ ظل مصرا على إشهار الحقيقة جهارا في وجه الجميع شاء من شاء وأبى من أبى. والأمر ذاته ينسحب على الفلسطينيين، فلقد حاول سنين طوالا أن يوصل رسالته لمنظمة التحرير الفلسطينية، رغم أنها كانت مشروعا في غاية البؤس. ولقد أشركني في محاولته تلك في بعض الأحيان. لذا فقد كان مشروعه تأصيليا وسبّاقا. فعلى سبيل المثال اتفاقيات أوسلو: فهو من القلة القليلة الذين صرحوا مباشرة وبدقة متناهية بأن هذه الاتفاقيات ستكون وبالا على الفلسطينيين وأشار إلى الأسباب وراء ذلك.
لكنّ الفلسطينيين أشاحوا بوجوههم عن سماع هذه الحقيقة. لم يكن سعيد يُلقي مواعظ على الملأ، لكنه كان يجأر بالحقيقة جهارا أمام أولئك الذين يجب عليهم سماعها. ولقد لقي من التقدير والحظوة ما أراد من أولئك الناس الذين يُعنى بهم. وربما لم يصل إلى بعض الشرائح من الناس، لكن الجميع لم ينكر الاعتراف بمنجزه بغض النظر عن مدى كراهيتهم لما يقوم به. فبعض المستنسخين البيروقراطيين قد أمطروه بألقاب سخيفة تدينه بأنه “بروفيسور الإرهاب” وغيرها من الألقاب. ولو أن إدوارد سعيد قد ألقى بالا لما يقولون لكان عليه أن يُعرض عن الجاهلين، بل كان عليه أن يُقدّر مثل هذا النوع من التشهير.
إسرائيل تقدم خدمة عظيمة للولايات المتحدة. فهي دولة قوية وثرية ومتقدمة. إنها كقاعدة عسكرية وتكنولوجية متقدمة تابعة للولايات المتحدة، وفي أكثر الأقاليم أهمية في العالم
عادل اسكندر: هل حقق سعيد ما كان يصبو إليه؟
نعوم تشومسكي: فيما يتعلق بوضع وإبقاء القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية، نعم، بل وبشكل لم يحققه غيره. ولكن هل حقق أيًّا من معطيات العدالة للفلسطينيين؟ فلو تأملنا ما يجري في الوقت الراهن، لوجدنا أن الوضع مزرٍ، بل أسوأ من المتوقع. ليس من السهل تحقيق مثل هذه الأشياء. وبعبارة أكثر موضوعية، فإسرائيل تقدم خدمة عظيمة للولايات المتحدة. فهي دولة قوية وثرية ومتقدمة. إنها كقاعدة عسكرية وتكنولوجية متقدمة تابعة للولايات المتحدة، وفي أكثر الأقاليم أهمية في العالم.
ماذا قدّم الفلسطينيون؟ لا شيء، فهم لا يمتلكون الثروة ولا القوة ولا حتى المصادر، فهم بلا قيمة حسب المعايير الجوهرية لبناء الدولة، ولا مجال هنا للتنافس. حاول سعيد ببسالة لا نظير لها، وبالفعل نجح في حث الناس على التفكير بالأمر، بل وأذكى مستوى الوعي لديهم. وفي الحقيقة فإن غالبية الرأي العام كان متفقا مع موقف إدوارد. فلو ألقينا نظرة على استطلاعات الرأي العام في الولايات المتحدة، لوجدنا أنها مثيرة للدهشة. فمن بين اثنين إلى واحد يعتقد الناس في الولايات المتحدة أنه على الولايات المتحدة أن تقطع إمداداتها لكلا الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني اللذين لا يتفاوضان بجدية من أجل الحل الدبلوماسي للدولتين.
وما يقارب الأغلبية نفسها من الرأي العام الأميركي يرون أنه إذا تم التفاوض بجدية من قِبل الطرفين فإنه يجب على الولايات المتحدة تقديم المساعدات للطرفين بالتساوي. إن هذه الفكرة تبدو بعيدة كل البُعد من أن تكون مثارا للنقاش من قِبل أي شخص. لذا فإن الرأي العام هو في حقيقة الأمر أقرب إلى موقف إدوارد سعيد فيما يتعلق بهذا الأمر. لكن في مجتمعنا، فإن الرأي العام بعيد كل البُعد عن صناعة السياسة، ليس فقط فيما يخص هذه القضية، ولكن فيما يخص قضايا أخرى أيضا.
وفي نهاية المطاف، فإن رحيل إدوارد سعيد لخسارة تنفطر لها القلوب، فعلى المستوى الشخصي، كان صديقا مقربا وشخصا أُكنّ له كل الاحترام والتقدير.
هذه المقابلة أجراها الباحث عادل إسكندر مع الفيلسوف وعالم اللغويات نعوم تشومسكي، وقد حصل موقع ميدان على حق ترجمتها حصريا، وهي مقابلة تسلط الضوء على العلاقة التي جمعت تشومسكي بالمفكر إدوارد سعيد، والتي يكشف عبرها بحميمية نقاط الالتقاء والاختلاف بينهما. هنا مقابلة غنية بالأفكار واللغة الشفافة التي تكشف الكثير من الود بين تشومسكي وسعيد