شعرية اللغة في “لحظات معراج” لخديجة بوعلي

(ثقافات)

شعرية اللغة في “لحظات معراج” لخديجة بوعلي.

الدكتور امحمد امحور

 صدر للشاعرة خديجة بوعلي ديوان شعري بعنوان: “لحظات معراج” عن دار بصمة لصناعة الكتاب،  الطبعة الأولى 2022، وقد دبجت الشاعرة والفنانة التشكيلية أمينة لفقيري لوحة الكتاب بلوحة فنية بديعة اختارت لها من الألوان المفتوحة، والأشكال الهندسية،  ما يتناسب والخط الكاليغرافي المغربي الذي استوى فيه أود العنوان الذي يسلمنا عن طواعية،  وعن سبق إصرار لقراءة النص الأول من هذا السفر الجميل “لحظات معراج” (ص: 11). وقد لا نكتفي بالقراءة العاشقة _على حد تعبير الشاعر محمد بنيس  خاصة وأن هذا النص العتبة/المفتاح، مصدر هو الآخر  بمقدمة أو نص متعال، يتغيى الموضوعية والحياد، ويرفض السقوط في منعرجات الانطباعية والتقريض،  ويغوص عميقا في استعارة مفاهيم الشعرية الحديثة من (إيلوار) ومن المذهب الأدبي السوريالي ؛هذه المقدمة الموازية هي للشاعرة السورية،  عضو اتحاد كتاب العرب، السيدة أحلام حسين غانم وهي من هي في نظم القريض على منوال الشعراء المعاصرين.

يتضمن هذا السجل ثلاثين مقطوعة شعرية وفرت لها الذات الشاعرة مساحات نصية للبوح والمناجاة، تتراوح بين صفحتين وخمس صفحات مختزلة في عناوين،  هي بمثابة بؤر دلالية،  تحيل على الذات وما تستضمره من حنين وشوق،  وما تستشرفه من رؤى شعرية غارقة في الخيال الجموح،  لكنها مؤطرة بنوستالجيا الطفولة. ولعل” الإهداء “يندرج في هذا البوح الشعري المباشر الذي صاغ في أسطر شعرية تحيل إلى الآخر/الأنثى التي سكنت شغاف القلب ونبضاته.

إلى التي أطفأت حرقة الغياب بخراطيم نورها

إلى التي ظللتني في أوج الهجير بأفياء حبها

إلى التي ترممني بعد كل كسر

ترتق فتوق الروح بجدائلها

إلى التي أبعدتني عنها الحياة والمسافات ولم

تفرقنا الشغاف والنبضات

إلى توأم روحي آمنة بوعلي أهدي لحظاتي الموثقة.

وقد صيغت عناوين هذه المقطوعات الشعرية في صيغ شتى:

شبه جملة (على قارعة ضياع، تحت زخات الملل، من غياهب الحصار، )

الأمر: (إليك عني، أعدني إليك)

جملة اسمية منفية: (لا قواعد لنبضي، ما عاد للروح نبضي)

نكرة موصوفة ( بوصلة شاردة، غبية أنا بما يكفي)

الإضافة (لعنة غباء، سدرة المشتهى، رقصة طائر ذبح، صليل الروح، انكسارات موج).

يبدو أن هذه البؤر الدلالية قد انتزعت من الذات الشاعرة في لحظات البوح والمناجاة، بعد أن كثفتها في بنيات سطحية تحيل على قارئ مفترض يمتلك كفايات فنية مسعفة على بناء البنيات العميقة وإعادة الحياة  للحقل الدلالي المنسل من الذات الشاعرة على حين غفلة (الشرود، الملل، الضياع، ياء المتكلم، المشتهى، رقصة الطائر…)

وبعبارة أخرى فإن البنيات العميقة للبؤر الدلالية تحيل بشكل أو بآخر على علاقتها بذلك الآخر الذي ترغب في الانفصال عنه على مستوى الإنشاد الشعري على الأقل،  وتحيل كذلك على تلك الأنثى/توأم الروح التي تود الاتصال بها على مستوى التخييل والانصهار في البوح الشعري عبر تقنية السرد المسترسل، وهذا الانصهار الشعري تدل عليه البؤر الدلالية التي صيغت في جمل فعلية مثبتة  أو أسلوب شرط.

تنطلق الذات الشاعرة من بؤرة دلالية “أقبض الريح بيدي” وتسافر على جناحي الريح راغبة في الاتصال بتوأم الروح أو المرسل إليه، لكن هذا الاتصال يظل يقتصر على اللغة الشعرية المجازية المسعفة على تقريب المسافات الروحية على مستوى الاحتفاء بملكوت الذات الغائصة في نسج معالم نص سردي  ينمو على إيقاع موسيقي بطيء.

كان للريح جناحان

يحملاني، كلما هويت من أعلى انتظار

يأخذاني على متن شعاع فجر

يسيجاني بنسمات تدغدغ النفس

كان للريح جناحان

من قص للروح جناحيه؟!

قدماي مشدودتان بمرساة في قعر طين مبلل

يداي مثقلتان بأصفاد من حجر

في الجب أصارع انحباس المنى…

أقارع في السداد طواحين الملل.

أقبض الريح بيدي (ص98)

تمتلك الذات الشاعرة ناصية اللغة المجازية تيمم بها شطر ملكوت الكينونة والوجود قابضة على الريح بيدها،  وتبحث عن علاقات دلالية ممكنة بين المقارعة والسداد، وتضيف الطواحين إلى الملل الذي يحيل بشكل أو بآخر على الريح الذي لم يعد يهز باب الروح المبدعة عنوة في الليل البهيم، ولا غرو فأن يفقد الريح جناحيه،    وتغوص قدماه في قعر الطين المبلل، وتصفد الأيادي عنوة،  فذلك مربط الفرس. وكأن بالذات الشاعرة هاهنا تدخل في حوار مونولوجي مع الشعر الجاهلي في أبهى صور التحدي المصفد بالأغلال زمن الأسر والإبعاد القصري عن زمن الاشتباك والمقاومة والذود عن الأهل والأحبة أو توأم الروح سيان.

أقول وقد شدوا لساني بنسعة

أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا

وتضحك مني شيخة عبشمية

كأنها لم تر أسيرا يمانيا.

إن الذات الشاعرة تستعيد كينونتها عبر اللغة المجازية الانزياحية التي تسعفها إلى حد كبير على أن تهتدي ببوصلة الأمل للإبقاء على خيط التواصل الروحي قائمة بينها وبين توأم الروح باعتباره سدرة المشتهى.

وعلى إيقاع بحر الرمل (فاعلاتن/ فاعلاتن/ فاعلات) ترغب الذات الشاعرة في السفر على جناح السرعة إلى توأم الروح،  لكن الموسيقي الداخلية لهذه المقطوعة الشعرية لا تقو على مفارقة ملكوت الذات، وظلت لصديقة بياء المتكلم، وحروف المد باعتبارها قوى فاعلة معارضة لهذه الذات ومستفزة لذخيرتها اللغوية المجازية الرصينة التي ظلت تراوح مكانها على مستوى تنامي الأحداث السردية:

نادرا ما أمشي على الأرض

أجدني معلقة بخيط سحاب

رأسي هناك في أعلى غيمة،

قدماي بلا متكأ

أسرع في ملكوت لا يعرف إلا الهذيان

تبدو الذات الشاعرة متوترة في هذا المقطع إلى أبعد الحدود، وهذا التوتر انبرى في جمل شعرية فسحت المجال للانزياح ليكسر زمن السرد، ويمنح المجال للإيقاع الداخلي ليخفف من غلواء هذا التوتر للذات المتلقية للخطاب الشعري ؛هذه الذات التي اندغمت في المقول الشعري إلى حد يصعب معه الفصل بين الذات المنتجة للخطاب الشعري والذات المتلقية له. والمتلقي الذي يعول على البنية الداخلية للنص للامساك بدلالته سيظل عاجزا عن ذلك،  ما لم يربطه بالواقع الكائن الذي أنتج مثل هذه البنيات. وهو واقع سوريالي على الأقل،  لحظة توهج القريحة الشعرية،  واستحضار توأم الروح على مستوى التخييل،  وإلا كيف يمكن للمرسل إليه باعتباره ذاتا منتجة للدلالة الشعرية انطلاقا من الفراغات،  والبياضات،  والفجوات،  التي لم تستطع الذات المنتجة للخطاب الشعري أن تملأها،  ليس لأن ذخيرتها الفكرية صفحة بيضاء، ولكن لحظة الإبداع الشعري هي لحظة التوتر بامتياز،  خاصة إذا كان الموضوع المرغوب فيه بعيد المنال. والمعول في هذا السياق يكون على القارئ النموذجي الذي راكم سجلا شعريا موسوعيا لملء هذه الفجوات وهذه الثغرات والبياضات، ويفهم هذا التوتر الذي لحق بالمسند والمسند إليه على مستوى البنية السطحية للجمل الشعرية: (خيط سحاب، أعلى غيمة، قدماي بلا متكأ، أسرح في ملكوت، فلذات العتمة دهاليز الشفق، شفرات غروب، ريح تعوي، للغات فصول، للغات أوان… صفحة98-99)

وعلى إيقاع التوتر البطيء والانزياح المولد للدلالات الشعرية الفيحاء،   والموسيقى الداخلية،  ملاذ الذات الشاعرة(تكرار صوت الراء والسين والشين، والصاد وحروف المد “، نص أقبل الروح بيدي نموذجا”) يمتد الانزياح اللغوي ويستوي عوده في جمل شعرية متوترة لحظة البوح الشعري البهي؛ لحظة نشدان الذات المنتجة للخطاب للحرية:

باحة طويلة…عريضة

سراجها وهاج ينثر النور

في كل الجوانب.

لا سقف لها

لا جدران

لا حاجة للنوافذ

لا فواصل فيها

ولا لها سواحل

حجمها حجم البحر

لكن مالها رقراق

بلا ملح…(ص64)

إن الذات المنتجة للخطاب الشعري يسعفها الإيقاع الداخلي الذي اختارت له ها هنا لازمة لغوية أحدثت نوطة في وجدان المتلقي (لاسقف، لاحاجة، لا فواصل، لا سواحل…) وهي لازمة ستعين هذا المتلقي ليلج ملكوت الذات بحثا عن دلالة صوت اللام في علاقته بالبنية العميقة المؤطرة بالبؤرة الدلالية (الحرية)،  والتي لها امتدادات على طول وعرض هذا السجل الشعري المحكم البناء على مستوى الانزياح اللغوي، وعلى مستوى بنية الموسيقى الداخلية المؤثثة للمقول الشعري قبل الإنتاج وبعد التلقي والقراءة النموذجية للخطاب الشعري. وتكرار صوت الراء على امتداد صفحات هذه الأضمومة الشعرية يدخل في هذا السياق.

هكذا تدخل الذات المنتجة للخطاب الشعري في حوار عميق مع المتلقي المفترض وتقترح عليه بؤرة دلالية “لعنة غباء” وتترك له بعضا من الفجوات،  والفراغات،  ليملأها بدلالات تتجاوز البنى السطحية، ويقترح دلالات جديدة تنهل من البعد التداولي، ولعل ما سيساعده على ذلك هو تكرار صوت الراء بشكل لافت.

ذات غباء…

طرقت بابي الرياح

فتحت المدى على المصارعين

فرشت الرمل على جنبات السماء

لقنت النجمات رقصة…رقصات

على خصرها وضعت

خيطا رفيعة بألوان قزح (ص60)

إن الذات المنتجة للإبداع الشعري على إيقاع الموسيقى الداخلية، وشعرية الانزياح اللغوي، تحاور على مستوى التخييل شعرية بدر شاكر السياب (الباب ما قرعته كفك)، ومقصديتها في ذلك تتجلى في تشييد معالم  اللغة الشاعرة كما تمثلها الناقد ميخائيل نعيمة، بحثا عن” توأم الروح” الذي سكن في السويداء من القلب. وقد نجحت إلى حد كبير في رسم صورة شعرية مثلى لهذا التوأم على مستوى التخييل الشعري المعضد بالسرد المسترسل المتناغم والسجل الموسوعي للذات المتلقية لأرخبيل المجازات، والانزياحات، في هذا السجل الشعري الوارف.

إن المقاطع الشعرية الثلاثين في هذه الأضمومة قد انصهرت فيها أصوات الذات المتلفظة ذات الإيقاع الرصين لتعانق شعرية اللغة المجازية على صهوة التخييل الشعري الجميل.

شاهد أيضاً

الانفجار الروائي العظيم ودلالاته

(ثقافات) الانفجار الروائي العظيم ودلالاته فراس حج محمد| فلسطين لا شيء أكثر انتشاراً من الرواية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *