ِحوار مع الشاعر المغربي أحمد لمسيح

 “ثقافات”

حوار مع الشاعر المغربي أحمد لمسيح:

أكتب بالعامية ولا أقدسها كرد فعل ضد لغات أخرى

حاورته: سعيدة شريف

 

اختار الشاعر المغربي أحمد لمسيح منذ سبعينيات القرن الماضي العامية المغربية “الدارجة” لغة للكتابة الشعرية، وبرع فيها وطوع الزجل وارتقى به إلى مستوى القصيدة العربية الحديثة، وكان أول شاعر مغربي يصدر مجموعة شعرية في تاريخ القصيدة الزجلية المغربية معلنا الانتقال من الشفوي والخطابي إلى المكتوب مع ديوان “رياح التي ستأتي” عام 1976.

لا يكتب لمسيح بالعامية ضدا في اللغة العربية أو أي لغة أخرى، ولكن لأنها الأقرب إلى نفسه والمعبر عن كل ما يختلج كيانه، لذلك تجده يغرد خارج سرب من يرغبون في تكسير قداسة اللغة العربية وخدمة اللعة الفرنسية، ويعترف بفضل اللغة العربية عليه، وبكونها الزاد الذي ينهل منه باستمرار ويجد فيه مرجعيته مثلما يجده في الملحون والعيطة وغيرها.

لم يكن التحرر من أسر الأيديولجيا والقيود الكلاسيكية المحافظة بالأمر السهل، ولكن عشق الزجال لمسيح للكلمة الشعرية الصافية وإنصاته لصوته الداخلي، مكناه من التحليق بالقصيدة الزجلية الحديثة بعيدا، وإقامة مسافة بينها وبين القصيدة الكلاسيكية المعروفة بالملحون، وبين القصيدة الموجهة للغناء، فكتب قصيدة زجلية جديدة إنسانية تنصت إلى الكون والذات، وتنتصر للبعد الجمالي والفني أكثر من البعد الأيديولوجي الذي رهنها لفترة طويلة.

ولعل هذا الاجتهاد والإخلاص هو ما مكنه من انتزاع الاعتراف الرسمي بقصيدته العامية، حيث توج ديوانه “جزيرة ف السما” بجائزة المغرب للكتاب في صنف الشعر لهذا العام، وهي أول مرة يحصل فيها ديوان مغربي بالعامية على هذه الجائزة.

وعن هذا التتويج وإنتاجه الشعري الذي بلغ 24 ديوانا شعريا زجليا كان لموقع “ثقافات” هذا الحوار الخاص مع الشاعر أحمد لمسيح.

 * تم أخيرا تتويج ديوانك “جزيرة ف السما” بجائرة المغرب للكتاب في صنف الشعر، وهي المرة الأولى التي يتوج فيها شاعر بالعامية، فهل ترى في الأمر اعترافا ولو متأخرا بهذا الرافد الأساسي في الشعر المغربي؟

**الأمر يظل نسبيا، وهو لا يتعلق بالوزارة برأيي، لأن لجان التحكيم هي التي تبث في الموضوع، وهم مؤهلون لذلك، ولو كانت لجنة هذه السنة تضم أعضاء لا يميلون أو يعترفون بالزجل كمكون من مكونات الشعر المغربي بجميع اللغات التي يتداول بها المغاربة، لما حصل عليها ديوان بالعامية. لذلك فترشيحي لديواني للجائزة يعود الفضل فيه إلى صديق أخبرني بأنه في عدة مرات كانت أعمالي تظل في القائمة القصيرة للجائزة، فرشحت عملي رغم أنني يئست من ذلك وهيأت نفسي لليأس هذه المرة أيضا، لكيلا أتوتر وأحس بالإحباط.

لهذا فحصول ديوان بالعامية على جائزة المغرب للكتاب هذا العام هو اعتراف رسمي بالزجل المغربي الذي كان ينظر إليه إلى وقت قريب كما لو أنه صوت نشاز في المشهد الشعري المغربي، وبهذا الديوان الذي فيه جهد خاص، وهو يدور حول تيمة واحدة، وهو اختيار أقدمت عليه في أعمالي الأخيرة رغم أنه متعب جدا. إن جوهر هذا العمل ككل هو العابر والزائل، ومصدره هو التأمل في علاقة السحاب بالظل، فالسحابة لا يمكن أن تكون دائمة، فهي مرحلة من مراحل الماء، حيث تصعد الأبخرة وتتجمع بفضل الرياح وتنزل على شكل ماء أو ثلج، ثم تزول. فحياتها فيها دائما العابر والزائل، كما هو الشأن مع الظل وضوء الشمس الذي يعطي للأشياء فرصة للوجود وأيضا للزوال، وهو ما ينطبق على الحياة الإنسانية فكل شيء فيها مبني على العبور والزوال، حيث ليست هناك ديمومة.

*على الرغم من أنك بدأت الكتابة باللغة العربية الفصحى، إلا أنك انتصرت للعامية وساهمت في تطوير القصيدة الزجلية المغربية، وعملت على تطويع العامية، هذا في الوقت الذي كان ينظر فيه إلى الزجل بنوع من التنقيص، كما لو أنه في المرتبة الثانية، فلم الإصرار على القصيدة الزجلية؟

** أنت تكرمت على أن القصيدة الزجلية وقلت إنها كانت تعتبر في المرتبة الثانية، ولكن الذوق العام والنقاد وحراس الذاكرة كانوا يصنفون الزجل خارج الشعر، ومن ضمنهم الكثير من الزجالين والزجالات الذين يحملون هذا التصور، وينسبونه إلى الثقافة الشعبية، وأشياء أخرى خارج المشهد الشعري، متناسين أن ميلاد الزجل كان ضمن كلية شاملة في الغرب الإسلامي بالأندلس، لأنه كانت هناك ثورة على الفقه المشرقي، والمدارس النحوية المشرقية، وغيرها من الأمور التي كان الهدف من ورائها مناهضة الهيمنة المشرقية، التي كانت ترغب في أن يكون الغرب صدى للمشرق فقط. ولعل هذا الرفض والثورة هو ما ظهر في الفلسفة والتصوف وكثير من الأمور. وداخل الشعر وجد الموشح الذي مهد للكتابة بالعامية، حيث كان هناك من يجمع بين الكتابة بالفصحى والعامية. وهنا أحب أن أستشهد بديوان السلطان مولاي عبد الحفيظ، فهل نقول عنه إنه ديوان شعبي وهو الدارس والعارف والفقيه، والشيء نفسه مع أشعار سيدي عبد الرحمان المجدوب الذي كان ينتمي لطائفة “الملاماتية” القريبة من التصوف.

إن مرجعي واختياري للكتابة بالعامية هو هذا التراث الذي تربيت عليه والمتمثل في الملحون والعيطة والأمازيغية وغيرها، ولكن ميلادي كان من خلال شعر الفصحى، وخاصة الشعر الحديث، على مستوى التقنية والرؤى والفضاء العام للنص والكتابة. ولكنني اخترت الزجل بشكل لاشعوري، فحينما نكون محكومين أو مستعمرين، فذلك القوي الذي يتحكم فينا، لا يتحكم فينا فقط بالسلاح، بل باللغة والمال والقوانين، ونحن كنا تحت هيمنة مشرقية محافظة، لهذا كان جزء من روح التمرد لدى الجيل الذي أنتمي إليه هو تكسير تقديس اللغة العربية، والنظر إلى من يكتب بغير اللغة العربية الفصيحة كما لو أنه مذنب أساء إلى الإسلام والتراث العربي العظيم، مع العلم أن اللغة العربية الفصحى لم تستطع محو الإرث المحلي، وأنا أقول دائما: “الدارجة ولدتني والعربية ربتني”. أنا لا أنكر فضل اللغة العربية علي، فهي اللغة التي علمتني وقرأت بها وفتحت لي مجال الاطلاع على الثقافات الأخرى، ولكنني في الوقت نفسه أرفض تسلطها وتحكمها في، فأنا حر في الكتابة باللغة التي أشتهي، وهنا أستحضر علمين مهمين ومؤثرين في الثقافة المغربية وهما عبد الكبير الخطيبي وعبد الفتاح كليطو، فقد اهتما بتراث الفئات الشعبية وبالتراث العربي القديم واشتغلا عليه بلغة أخرى، هي اللغة الفرنسية. وهذا لا يعني الحط من قيمة لغة والإعلاء من شأن أخرى، فاللغة العربية درس بها الطب والفيزياء والرياضيات والفلسفة وعلوم أخرى، ولكن العامية لم تصل بعد إلى هذا المستوى، وعلينا ألا نحلم بأنها ستصل إلى ذلك المستوى، لأنها ظلت محصورة في الإبداع والمسرح والسينما والأغنية، وذلك لأن القوي أزاح الأمازيغية والعامية. هناك من يدافع عن العامية كتطرف في الحب أو أحيانا لخدمة اللغة الفرنسية، وأنا لا أومن بالاثنين معا، فالعربية لها فضل كبير علي في التمدرس والتثقيف والتكوين، ولكن في الوقت نفسه أرغب في أن أكون مستقلا عن هيمنة اللغة العربية، لا كراهية لها كما يفعل البعض، بل حبا في العامية ورغبة في الارتقاء بها.

*المتتبع لتجربتك الشعرية يقف عند مرحلتين: مرحلة كانت القصيدة يطغى عليها البعد السياسي والوطني والقومي، ومرحلة انتقلت فيها إلى الاهتمام بالبعد الإنساني والجوهري والذاتي مع “شكون طرز الما” أي من طرز الماء، و”توحشت راسي” أي اشتقت إلى نفسي، فكيف تمكنت من الارتقاء بالقصيدة العامية لتستوعب التعبير عن معاني سامية وقضايا وأفكار ومسائل حميمية؟

** حينما بدأت بكتابة الزجل، كنا قلة نكتب عفو الخاطر، ولم يكن في الأمر أي تخطيط مسبق، ولكن الزجل ولد في عز الثورة الثقافية بالمغربية، حيث لم نكن نرغب في كتابة زجل للغناء أو مثل الملحون، بل كنا نرغب في تقديم زجل جديد، وهو الزجل الذي ستحضر فيه المواضيع السياسية والاجتماعية. ولهذا فالبعض منا مال إلى النفس الحكمي لسيدي عيد الرحمان المجدوب، والبعض سعى إلى الاغتناء وملء الذات والذاكرة المشتركة به، والتحرر منه في الوقت نفسه، حتى لا يظل مجرد علامة تشوير للقصيدة. استفدت من الملحون كقارئ وتعلمت منه، ولكن الذي ارتويت منه كما يقول “الملاحنية”، وأقولها بشجاعة، هو الشعر المعاصر باللغة العربية الفصحى أو بلغات أجنبية. أنا عاشق للملحون والعيطة وأتمتع بهما بشكل كبير، ولكن لا آخذ منهما أشياء للكتابة. أكيد أنهما مليئان بالصور، ولكنهما ليسا ضمن الشروط ولا القواعد التي أرغب في اللعب بها. أحيانا يعيبون علي وعلى من يشتغلون مثلي ويقولون بأننا نسعى إلى تفصيح الدارجة. ولم لا نسعى إلى تفصيحها؟ ولم سأكتب بدارجة تعود إلى أربعة أو خمسة قرون؟

أنا أكتب بالعامية ولا أقدسها كرد فعل ضد لغات أخرى، وأعي أن مؤهلات الدارجة ليست هي نفس مؤهلات اللغة العربية، لهذا يجب أن نسعى إلى تطوير رأسمال الدارجة.

* ألهذه الدرجة كان الاجتهاد في الارتقاء بالدارجة المغربية من الطابع العامي والكلاسيكي الطاغي أمرا غير مقبول؟

** فعلا لم يكن الأمر مقبولا من قبل المتشددين، حيث كان الرفض يشرع دائما في وجهي ويقال لي يجب الحفاظ على الدارجة كما في الملحون والكتابة على منواله، فكنت أجيبهم وما زلت بأن ذلك شرف لا أدعيه، لأن الشروط التي أنتج فيها مبدعو الملحون الكبار لا تتوفر لدي، فالملحون هو بمثابة معلقات الدارجة. هناك من يجتهد ليكتب قصيدة الملحون، ولكنه لا يمكن أن يصل إلى مستوى ما كتبه المبدعون الحقيقيون فيه، وهو الشيء نفسه الذي يمكن قوله عن القصيدة العمودية، حيث لا يوجد من يستطيع الكتابة مثل المتنبي مثلا. اشتغلت على الدارجة وعملت على تطويعها في قصيدتي الزجلية، فاللغة ليست مجرد مفردات وكلمات، بل هي حمولة فكرية وأيديولوجية، فأنا لا يمكن أن أوظف كلام السوق أو الشارع في القصيدة، بل هي تحتاج إلى قاموس يتم الاشتغال عليه بفلسفة ورؤية معينة. وهنا أنا أستغرب من الذي يقبل توظيف كلمات مثل “التران” أي القطار بالفرنسية و”الطوموبيل” أي السيارة، و”الماشينة” أي القطار، و”الكيرا” أي الحرب، ولا يقبل توظيف كلمة من العربية الفصحى، فهذه ازدواجية خطيرة برأيي، قد تؤثر على المخيلة وتضع لها قيودا. اختيار الاجتهاد في الكتابة بالعامية لدى البعض هو “بدعة”، في حين أنا أراه “عقوقا واجبا”، حتى لا أكون نسخة عن السلف.

الجانب الأساسي الذي يجب أن نبحث فيه هو الشعر، وهل ما نقدمه شعر أم ليس شعرا، وليس اللغة التي نكتب بها، فاللغة تأتي في المرتبة الثانية، فهي بمثابة الوعاء الذي نضع فيه تصورنا. إذا كنت سأكون نسخة عن والدي، فأين أنا من كل هذا؟

إننا للأسف ما زلنا نعاني من ذوي القربى رغم أننا لسنا ضد الملحون والعيطة ولا أي لون آخر، لأننا نرغب فقط في الخروج عن السائد ونؤمن بأنه من غير المعقول في الإبداع أن نكون صدى لما مضى، ونبحث عن صوتنا المخصوص والمختلف.

* أصدرت إلى الآن 24 ديوانا شعريا، والملاحظ فيها هو حفاظك على التيمة الواحدة، كما أن المتأمل لعناوينها يقف على تكرار كلمات معينة ذات دلالة عميقة مثل الماء )شكون طرز الما، خيال الما، استرها بماك (، والكلام  )كلام ضاوي، كلام آخر، ريحة الكلام (، فهل هذا اختيار مقصود؟

**هناك جانب قصدي وجانب آخر هو أنني مسكون بهذه الكلمات التي ذكرت، فالماء يحضر باستمرار في أعمالي، لأنني من خلال هذه العلاقة الشخصية بالماء كنت أسعى إلى الانفصال عن الشعر ذو النفس السياسي والاجتماعي، لأنتقل إلى الشعر الوجداني، كما أنه منذ القدم إلى الآن، كان هناك حضور لما يسمى ب “ماء الشعر”. فما بين أن الماء موضوع وما بين أنه محقق لهوية المكتوب، كنت مفتونا ولا زلت بالبحر، حيث كنت في طفولتي بالبادية أخرج إلى الفضاء لاستقبال أولى قطرات المطر، خاصة أن الماء له قيمة كبرى في البادية. عشقت الاشتغال على الماء لأنه يأخذ حيوات مختلفة، حيث يكون سحابة وتتحول إلى ثلج أو ماء، مثل الفراشة التي اشتغلت عليها، تكون بيضة ويرقة ودودة وشرنقة وداخلها تتكون الفراشة.

ما أثار انتباهي هو تعدد أشكال حياة الماء، فالماء يحيي ويميت، وإذا زاد عن حده فإنه يقتل الإنسان والحيوان. الحياة بدأت من الماء، وستأتي فترة وتغرق الأرض، ولا نعرف ماذا سيحدث فيما بعد. أما الكلام فبدأت به في بداية ثمانينيات القرن الماضي في “شكون طرز الما” حيث “الما كانة” أي مزاج. وبشكل عام فلكي نكتب نصا يجب أن يكون لدينا رأسمال قوي من المجاز، أما إذا أعدنا نسج الكلام نفسه فلا فائدة منه. وبعدها تحولت من الكلام إلى الحديث عن الكتابة في حد ذاتها، ثم إلى الكتابة عن القصيدة، حيث أصبحت مسكونا بها الآن بشكل كبير.

*في دواوينك الأخيرة يحضر سؤال كتابة القصيدة بشكل كبير، فهل هذا يشكل هما للشاعر لمسيح؟

**بالفعل إن كتابة القصيدة تشكل هما كبيرا لدي، لأنني أعتبر نفسي ما زلت أترافع عن الكتابة بالعامية، وأبرهن للجميع أن ما يكتب كمقال يمكن لي الارتقاء به ليحضر في الشعر. في عملي المستمر يحضر هم الكتابة حتى أثناء الكتابة، حيث لا أتحدث عن الدارجة من خارج النص، بل أعيش القلق نفسه داخل النص.

*بالإضافة إلى هذه الأشياء التي ذكرت، الملاحظ في أعمالك هو البحث الدائم عن القصيدة المشتهاة، ألم تعثر عليها بعد؟

**أتمنى ألا أعثر عليها حتى أواصل العمل والإنتاج، لأن كل ما أكتب هو قربان للاستنارة نحو القصيدة. أحيانا أأنسن القصيدة وأجعلها أنثى أتغزل فيها، وأتملق لها لكي تسعفني. والحمد لله أنا أتخاصم مع القصيدة وأتصالح معها باستمرار. أحيانا تكون القصيدة لينة وطيعة ومنساقة، وأحيانا تكون صعبة المراس. وبقدر ما يكون هذا الأمر مقلقا وموترا ويشعر بالعجز، بقدر ما هو محفز ومنشط للذاكرة. وبالنسبة إلي فالجمركي أو الرقيب المتمثل في الذوق العام والأخلاق والقيم والمجتمع والذاكرة الذي كان متحكما في أعمالي من قبل، لم يعد له وجود، حيث صار الرقيب هو الفن ولا شيء آخر، وهل ما أقدمه فن أم لا.

*على ذكر النشر، الملاحظ هو أنك نشرت أغلب أعمالك على حسابك الشخصي، هل الأمر يعود إلى غياب الاهتمام بنشر الزجل؟

**إنه اختيار شخصي، ولو أن هناك بعض الناشرين الذين نشروا لي بعض الأعمال باقتراح منهم ك “دار البوكيلي للنشر”. أنا لا أدق أبواب الناشرين، وأفضل أن أنشر أعمالي على نفقتي ما دامت لي شروط لا يمكن للناشر أن يوافق عليها، فمنذ ديواني “شكون طرز الما” كان لدي اختيار على مستوى الكتابة وتوزيع الصفحات، فهناك صفحات لا تضم إلا أربعة أسطر، وذلك حسب النفس الذي أكتب به، فأحيانا أحتاج إلى البياض كي أتنفس وأستريح لأستأنف الكتابة من جديد. وحينما يكون لدي نفس طويل يمكن أن تضم الصفحة 21 سطرا، والناشر لا يمكن أن يقبل بهذا الاختيار، لأنه تاجر بالأساس وعليه الاقتصاد في الورق وفي جودته. لهذا فنشري لأعمالي نابع من رغبتي في التحكم بطريقة نشرها وشكلها وجودتها، لأن هناك بعض دور النشر التي تقدم كتبا تفسد بمجرد فتحها مرة أو مرتين، فباستثناء “دار التوحيدي للنشر” التي قدمت لي عملين: الترجمة الفرنسية لديوان “أنا ماكاينش”، والجزء الرابع من الأعمال الزجلية، فأغلب الناشرين لا يعتنون بالكتب بالشكل الذي يليق بها. لهذا أنا أفضل أن أصرف على أعمالي من مالي الخاص وأكتب كما أريد، وأنشر في الحدود المقبولة حسب إمكانياتي.

*ترجمت لك مجموعة من الأعمال إلى لغات أجنبية من بينها الإنجليزية والإسبانية والفرنسية، فهل عادت هذه الترجمات بالفائدة على القصيدة الزجلية؟

**الترجمة لها فائدة كبرى، سواء تلك التي كانت عبر دواوين أو أنطولوجيات شعرية تضمنت قصائدي، ولهذا فأنا أقول إن الاهتمام بك من خارج البلد غاليا ما يقود إلى الاعتراف بك في بلدك. وبالنسبة إلينا كزجالين فقد عبرنا إلى إخواننا المشارقة من خارج المغرب، فالترجمات التي حظينا بها في أمريكا وهولندا وإسبانيا، هي التي دفعت بالمشارقة إلى البحث عنا. والغريب في الأمر هو أن الزجل اختضنه الفرانكفونيون. فالترجمة ساهمت بشكل كبير في حضور الزجل في العديد من الأنطولوجيات، خاصة الزجل القابل للترجمة، لأن هناك تجارب زجلية عصية على الترجمة وضعفها يكمن في إغراقها في المحلية وفي قاموسها البدوي، الذي لا يفهمه القارئ العادي أصلا ولا يمكن شرحه.

*وما حظ الزجل من الدراسات النقدية والأكاديمية اليوم، لأن الغالب في السابق هو دراسة الملحون مع الراحل الدكتور عباس الجراري؟

**الأمر يعود إلى الدارس والناقد وقدرته على التحدي والمثابرة ومدى استيعاب الجامعة المغربية لدراسة الزجل، فالدكتور عباس الجراري قدم أطروحة حول الملحون إلى الجامعة المغربية ولكنها للأسف قوبلت بالرفض، فاضطر للذهاب إلى مصر، حيث أشرف على أطروحته أكاديمي مصري يهتم بالثقافة القديمة بما فيها الزجل، وكانت فتحا مهما للاهتمام بالملحون وبالزجل. فعمله الهادئ والرصين وطويل النفس هو الذي جلب للمغرب اعتراف اليونسكو بالملحون كتراث عالمي. إن مجهوداته القيمة وتتلمذنا على يده، هو الذي دفعنا إلى التجرؤ على الكتابة بالعامية. فالأساتذة الذين تعلمنا على أيديهم هم أيضا عانوا من أجل تقديم أعمالهم، فالأمر لا يقف عند المعاناة أو التحقير، بل قد يصل إلى درجة المحاكمة.

*خصك حديثا الشاعر والباحث مراد القادري بالدراسة في أطروحته الجامعية حول “جمالية الكتابة في القصيدة الزجلية المغربية”، واستند على تجربتك الشعرية لكي يجد أدوات تمكنه من دراسة القصيدة الزجلية، فهل القصيدة الزجلية برأيك عصية على أن تدرس بالأدوات النقدية المتوفرة؟

** لم تستفد التجربة الزجلية بالمغرب إلا من الفتات، فالدراسات النقدية التي اهتمت بالزجل قليلة جدا، ومن قدموها أعتبرهم مناضلين ثقافيين حقيقيين، وأول عمل في الجامعة المغربية عن الزجل الحديث كان في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حيث قدم الشاعر والكاتب حسن نجمي بحثا تحت إشراف الدكتور محمد برادة حول نصوصي الشعرية الزجلية. وثاني دراسة هي للشاعر والباحث مراد القادري الذي عانى أيضا لكي تقبل أطروحته في الجامعة المغربية، فالسائد هو الملحون أو العيطة. ومراد القادري ناضل أيضا من أجل الاعتراف بأن القصيدة المكتوبة بالعامية هي أيضا شعر، ولهذا فأطروحته برأيي هي مرافعة عن الزجل وبحث في الأدوات النقدية الكفيلة بدراسة القصيدة الزجلية من داخل القصيدة وليس خارجها.

* ما هي الخصوصيات التي تتميز بها القصيدة الزجلية المغربية مقارنة مع نظيرتها العربية خاصة في المشرق؟

** الميزة الأولى هي التنوع، فهناك أنواع من الزجل، زجل كلاسيكي مثل المعلقات بالنسبة إلى الشعر العربي وهو الملحون، ولديه قياسات معينة وعرف تطورا وطفرات من التحول التي عرفت مقاومة من طرف الكلاسيكيين المتعصبين. هذا التنوع والغنى هو الذي يبرز لدينا في العيطة والرباعيات في شعر النساء. وهنا أستحضر ما قاله الشاعر المصري عبد الرحمان الأبنودي عن الشاعر “ابن عروس” بأنه ليس مصريا وبأن ما قدمه هو استنساخ لرباعيات الزجل. التنوع نفسه نجده في النصوص الزجلية الجديدة التي تشتغل بتقنيات الشعر الفصيح، الاختلاف فقط في اللغة والرموز. في الستينيات كان الاعتماد على الأساطير، وتجربة الأقنعة، وتجربة النص الواحد في الديوان، تجربة الشذرة، هذا التنوع آت من تنوع الخلفيات والاختيارات الجمالية. وبعدها بمدة طويلة بدأ الشعراء في التعامل مع ما هو يومي في الحياة وبالأشياء الحميمية. لهذا فالتجربة المغربية ليست سجينة للقوالب والمدارس القديمة، التي لها إيجابياتها، بل تسعى إلى أن تكون تجربة متفردة ومتميزة في القول الشعري بالعامية.

* صدر لك حديثا ديوان يحمل عنوان “وجوه في مراية المتوسط”، فهل البحر الأبيض المتوسط وما يعتمل فيه من قضايا وإشكالات هو موضوع هذا العمل؟

**هذا الديوان يتحدث بالفعل عن البحر الأبيض المتوسط، كحوض تحيط به مجموعة من الحضارات، خرج من جزء فيه عدد من الأنبياء. المتوسط كان ناقلا للحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية وحضارات شمال إفريقيا، تخللت الكثير من الحروب، والآن أصبح حوضا للحدود وليس للعبور من ضفة إلى أخرى، الحدود ليس بالمعنى الجغرافي والجمركي، حيث ظهرت هناك عنصريات أخرى وأشكال مخيفة من التطرف. المتوسط كان مثل يد إلهية من ماء تسخر للإنسان الانتقال من جغرافية إلى جغرافية أخرى، وبالتالي انتقال الثقافات والحضارات الإنسانية والذاكرات والتراث، ولكنه اليوم أصبح فخا ومقبرة وعائقا حتى ما بين الإخوة، فحينما يقتل أناس في المتوسط، فهذا فيه استباحة للنفس والدماء. المتوسط اليوم مليء بالسلبي أكثر من الإيجابي، ومع ذلك مازال هناك دائما أمل.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *