“سيميائية الخطوات الأولى”
( شهادة إبداعية)
زينب السعود
***************
فسيفسائية تلك الطريق التي التهمت خطاي منذ حداثة سني وأنا أمشي على حواف الحروف واتكئ على الكلمات وأتشرب معان أكبر من سنوات عمري وتجاربي ، يستعسر فهم بعضها ويُلغز علي ، ولكنني أواصل الجري خلف فراشات تحوم في حقل من الجمل المتراصة عبر أثير الصفحات ، ألتهم ما جادت به قرائح الكتّاب ولم أكن حينئذ منهم . هكذا بدأت رابطة الحب الأولى مع القراءة أولا منذ أن كنت على مقاعد الدراسة الأولى عندما تم انتخابي من معلمتي لتمثيل المدرسة في مسابقة أوائل المطالعين التي كانت تنظمها وزارة التربية فتبدأ عقليتي الساذجة في التفكير بطرق مبتكرة للفوز برضى لجنة التحكيم ، فيهديني تفكيري إلى أن أفضل وسيلة للفوز هي الإبهار .أذهب يوم المسابقة وقد جهزت في ملف المسابقة قائمة القصص التي قرأتها أنا طالبة الصف السادس فيتبادل الأساتذة المحكمون الابتسامات وهم يتأملون قائمتي التي لم تكن تحوي قصة واحدة تناسب مرحلتي العمرية بل كانت قائمة (الإبهار) تتضمن كتبا متخصصة وقصصا أكبر من عمري جعلت اللجنة تستحسن ذلك من طفلة تحاول أن تقلد ما يقرأه الكبار.
نجحت خطتي في بعض الأعوام فكنت أفوز بمراكز متقدمة في المسابقة ولكن الفوز الأكبر أنها قدمت لي فيما بعد الجائزة الكبرى ، عندما أدركت لاحقا أن تلك القراءات التي فهمت بعضها والتبس علي بعضها الأخر بذرت في داخلي بذور الوعي المبكر لتبدأ قصتي المشوقة مع الكتب ، وتنعطف بي إلى الأدب الذي وجدت فيه ضالتي في الحصول على الدهشة والتحليق في فضاءات بعيدة والتوغل في عالم الأفكار الذي عرفته باكرا .كانت القراءة عالمي الحقيقي بدأت جزءا منه في مسابقات المدرسة وأكتمل بعضه في قصص المغامرات والألغاز التي كنا نتداولها في محيط العائلة فكانت قصص المغامرون الخمسة للكاتب المصري محمود سالم وروايات أجاثا كريستي وقبلها كانت روائع المكتبة الخضراء التي ألهمتنا بكثير من الخيال الجميل وكان الكنز الثمين عندما حصلت على أعداد مجلة ماجد من صديقتي التي لم تكن صداقتنا لتطول لولا حصولها على أعداد المجلة أولا بأول وكان ذلك سببا كافيا لألتصق بها.
لقد كبرت الفكرة وتعددت الحقول وتزينت بالأزهار فاستجلبت النحل الذي يروم أكثر من التنقل كالفراشات بين عبير السطور فكان أن بدأت رحلتي مع الكتابة .
كتبت خواطري باكرا كما فعل كثير من أبناء جيلنا وطعمتها بما أتقنته من خيال ، ولاحقا تحول الأمر إلى حاجة ملحة للجلوس خلف الطاولة واستلال القلم والتأمل لدقائق قد تطول أو تقصر لجمع أشتات المعاني والصور ذهنيا قبل البدء في بعثها على الورق فكانت أولى مقالاتي الناضجة فكريا واسلوبيا مقال نشر في مجلة تصدر عن إحدى الجامعات .وقد يستغرب البعض ما سأذكره وما أنا مؤمنة به حقا ، لقد صنعت سنوات الدراسة الجامعية مني شيئا أو لأقل أحدثت في تفكيري نضجا وفي عقلي وعيا وأشرعت لي أبواب المعرفة والاطلاع والقراءة في الأدب والكثير من أمهات الكتب .فمن جميل قدري أنني كنت من الدفعات الأولى التي درست في جامعة آل البيت التي كانت تتبنى نظاما تعليميا مختلفا عن بقية الجامعات في الأردن من حيث عدد الساعات المعتمدة ونوعية المواد الثقافية المساندة واعتمادها مادة البحث العلمي الموثق منهجا أساسيا وشرطا لاجتياز المواد الدراسية بنجاح . ولا أراني أبالغ إذا قلت أن تلك الأبحاث التي استنزفت وقتي وجهدي وراحتي صنعتني بطريقة ما ، وأن أعداد الكتب والمراجع والحوليات التي اطلعت عليها غرست بذورها دون أن أدري في تربة إدراكي لتشكل فيما بعد وعيي وتبلور كثيرا من المفاهيم لدي ، وأعظم ما قدمه لي الاشتغال على الأبحاث العلمية أنه أعطاني دافعا لزيارة العديد من المكتبات بحثا عن مرجع مفقود او مصدر لا يتوفر إلا في مكتبة معينة ، ولا أنسى زيارتي إلى مكتبة جامعة اليرموك في عام تخرجي عندما كنت أعمل على مشروع التخرج . قبل أعوام عديدة مضت حدث ذلك المشهد على أرضية مكتبة اليرموك في مدينة إربد وتحديدا مقابل رف الدوريات القديمة افترشت إحداهن الأرض وأخذت تتصفح مجلة الرسالة بأوراقها العتيقة. كانت الأعداد المهترئة محفوظة داخل ملفات كبيرة بهدف الحفاظ عليها بعد أن تحولت أوراقها الى اللون البني كأن قدحا من الشاي قد انسكب فوقها فأحدث فيها خطوطا متعرجة متداخلة تجعل بعض جهات الورقة أغمق من بعضها الأخر .كانت تقلب الصفحات باهتمام وبطء شديدين ، استوقفتها الصفحات البالية ، انهمكت في القراءة ثم لم تلبث أن بكت . المقال الذي جعلها تتأثر لدرجة البكاء كان مقالا كتبه أحمد حسن الزيات عن مصطفى صادق الرافعي مؤبنا له بعد وفاته . نعم يا سادة لقد بكيت على وفاة الرافعي في تلك اللحظة من ذلك اليوم من عام 2000م كأنه توفي اللحظة ، وكأن نعيه حدث الآن .أما لماذا الرافعي فلأن بحث التخرج كان دراسة عن المرأة في مقالاته التي جُمعت في كتاب وحي القلم . إذن هي المكتبة والكتب هي القراءة المتعمقة هي العيش داخل المتون لبضع ساعات هي الروايات وأشعار المتنبي وروائع المعلقات هذه هي بعض ما شكل أدواتي وبعض ما برى يراعي وأرهفه ورققه وما زلت إلى اليوم مدينة لجملة الرافعي وبهاء صورته وجمال لفظه وبيانه وتفرد صنعته وأخيلته . وإذا كانت القراءة هي الخطوة الأولى فلابد أن تكون خطوة محكمة وثابتة على أرضية صلبة ، وليس يعطي الأديب ذلك إلا سعة اطلاعه على إبداعات الأمم الأخرى فكان أن وقع بين يدي نسخة من رائعة الأدب الروسي ( الأخوة كارامازوف) لديستويفسكي أحببت عبقريته الفذة وقلمه الساحر في وصف المجتمع والدخول عميقا في نفس الإنسان وعقد المناقشات الفلسفية التي تبحث في كل ما يحيط بشخصياته من تفاصيل لتبدأ بعد ذلك علاقة قوية مع الأدب الروسي الذي يندرج تحت تصنيف الأدب الممتع .
لم أكن أتوقف كثيرا عند سؤال : ماذا أفعل لأكون كاتبا ؟ فهو سؤال يبدو بالغ التعقيد لدى الكثيرين ولكنني كنت معجبة جدا بعبارة لأحمد خالد توفيق يقول فيها ” الحقيقة أنك إما أن تولد كاتبا أو لا تولد …” وقد أعجبتني فكرته عن المزيج السيميائي من الجينات والتربة المناسبة والبيئة والقراءة المبكرة والعقد النفسية والرغبات المحبطة التي تتدخل كلها في تشكيل شخصية الكاتب شرط أن يمتلك شيئا داخليا يدفعه لملاحقة أفكاره فوق الورق. غير أني أعترف برهبة كانت تتملكني قبل إصدار روايتي الأولى وإظهارها إلى العلن سيما أنني مكثت لسنوات عدة أكتب لنفسي دون حساب لرقيب أو ناقد ، ورهبة أخرى مبعثها إيماني أن الكتابة عملية نفسية معقدة تتأرجح بين الغرور وانعدام الثقة بالنفس وربما كان الكثير من الأدباء بحاجة إلى أطباء نفسيين ليفسروا ما يمرون به من حالات عدم الرضا عن النفس أو شعور الإعجاب الشديد والنشوة بالنصوص حد التقديس . ومن رحم هذا وذاك ولدت روايتي الأولى ( الحرب التي أحرقت تولستوي ) وتلتها بعد ذلك ( العبور على طائرة من ورق ) . وهاأنذا أسير الآن بخطى حذرة على أسفلت ساخن في عمل جديد ومختلف تماما عن الروايتين بعد أن وجدت أن التوقف عن الكتابة تسبب حالة من الازدحام الفكري ، وتظل الأفكار تطرق جدران العقل والوجدان لتتحرر وتنفلت على الورق فتزهر وتخصب وتستولد أفكارا أخرى تمنح النصوص الحياة. لماذا وكيف وما الذي ….؟؟
قدري أن أحب الكلمة .
- عن مجلة صوت الجيل