الطبعة الأولى

*أمير تاج السر

كنت قرأت خبرا عن صدور «بعيدا عن الشتاء» الرواية الجديدة للكاتبة التشيلية المعروفة إيزابيل أليندي، التي تتحدث فيها عن واقع المهاجرين في أمريكا، في شهر يونيو/حزيران الماضي، بلغتها الأصلية، أي الإسبانية، وكانت الطبعة الأولى قد صدرت في ثلاثمئة ألف نسخة، أي أن ثلاثمئة ألف قارئ، يتوقع أن يلهثوا خلف الرواية لقراءتها، أو لعلهم ينتظرون صدورها، وقاموا بالفعل بحجز نسخهم مع الإعلانات الأولى للكتاب، التي عادة ما تسبق الصدور بأشهر عدة، يكون فيها الكتاب جاهزا للتوزيع، وهناك من قام بكتابة مراجعة له في صحف مهمة.
أيضا ذكر الخبر، أن طبعات بلغات عديدة أخرى منها الإنكليزية والفرنسية، والإيطالية، ستصدر لاحقا قبل نهاية العام، وستطرح أيضا كميات كبيرة، من الكتاب للقراء الذين ينتظرونه. مثل هذه الأخبار تبدو رائعة على الصعيد العام، لمن يتعاطى الكتابة، ثمة فرح غامر أن هذا العدد الكبير من النسخ لعمل إبداعي ستطرح، ويتوقع لها أن تنفد، وقد تلحق بها طبعات أخرى مستقبلا، في فعل ليس مغامرة على الإطلاق وإنما فعل عادي، لا يربك الناشر ولا يربك سوق القراءة. إنه يعني أن الأدب سلعة أساسية عند تلك الشعوب، تتعامل معها كما تتعامل مع كثير من السلع الأخرى الضرورية للحياة، وفي الوقت نفسه، إذا نقلنا الخبر لمتابعينا وقرائنا هنا في الوطن العربي، سيكون صادما للغاية، فلا كاتب مهما بلغت شهرته، ووصل صيته إلى أي بقعة في الوطن العربي الكبير، ستنشر له ثلاثمئة ألف نسخة، من كتاب إبداعي، ولا حتى من كتاب للطبخ أو النكات، أو التعامل مع الجن والعفاريت، وكل تلك الكتب المنتشرة، التي دائما ما توضع في قوائم الأعلى مبيعا والأوسع انتشارا.
لن أتحدث عن هذا الزمن، لأن الأمر معروف، ولطالما نوهت ونوه غيري، إلى سطوة التكنولوجيا الحديثة، وجبروتها، وكيف قامت بسرقة القارئ، وبرمجته في مسارها، بحيث أضحى الهاتف المحمول خاصة، ملهاة دائمة، لا تفارق العيون ولا اليدين ولا الذهن العاشق لها، إلا في ساعات النوم، وحتى في تلك الساعات، قد يستيقظ النائم فجأة، لا لشيء، سوى أن يداعب هاتفه، يرسل ويستقبل شيئا غير ضروري، ويواصل النوم من جديد.
سأتحدث عن الزمن القديم، حين كانت القراءة هي الترفيه الوحيد للناس، بجانب السينما وأحيانا المسرح، أي حين كانت المكتبات المنزلية، أو التي في أي ركن في الشوارع والأسواق، غاصة بالكتب بأنواعها، والناس مهما تضاءلت سبل عيشهم، لا بد أن يقتنوا الكتب ليستمدوا المعرفة، وأيضا ليرفهوا عن أنفسهم في تلك الساعات التي يقضونها بلا عمل، ولا ارتباطات أخرى. في ذلك الزمن إذن كان المتعلمون معظمهم قراء، أو يصادقون القراء، أو يحاولون أن يكونوا قراء، وأيضا كانت الطباعة بدائية، وغير مكلفة كثيرا، وعلى الرغم من ذلك لن يجرؤ ناشر على طرح هذا العدد من النسخ، الذي طرحه ناشر أليندي، ليس هذا العدد ولا حتى ربعه أو خمسه، في لغة يتحدث بها ملايين الناس، وليست لغة يتحدث بها عدد يعتبر محدودا أيضا، وأقصد الإسبانية.
المسألة إذن في تركيبة الشعوب، ولن أقول بسبب شهرة الكاتب، وهناك كتاب ليسوا مشاهير كثيرا، في بلدان أوروبية وأمريكية، يوزعون بطريقة جيدة أيضا، ودائما ما نسمع كل عام عن كتاب حقق انتشارا كبيرا، هو عبارة عن رواية أولى ألفها صياد للسمك، يحاور فيها سمكة للقرش، أو يبكي فيها مع شبكته التي لا توقع بالفرائس كثيرا، أو حطاب في غابة عثر على شجرة مبتلة، وتخيل أنها تبكي وأراد أن يكتب ذلك البكاء، وكلنا يعرف كتاب: «طعام حب صلاة» الذي ألفته امرأة قد تكون قارئة، لكنها لم تكن على صلة بالكتابة، وسجلت فيه يوميات رحلة قامت بها وهي مكتئبة، لكن شيئا ما تحقق وانتشر كتابها، وحقيقة لا أعرف إن كانت قد كتبت مرة أخرى أم لا؟ لكن ما كتبته في تلك اليوميات، كان كفيلا بتغيير حياتها تماما.
هناك أشياء كثيرة في الحياة، وأعني حياة الغربيين، يمكن أن تلهم الكتابة وتحقق لهم الانتشار فورا، بينما الأحداث نفسها لا يمكن أن تصنع لنا أي مجد، مهما كتبناها وأرخنا لها وزدنا عليها من خيالنا لنحولها إلى عمل إبداعي، فتجربة السجن مثلا، سواء كان سجنا سياسيا أو سجنا من أجل سرقة أو مشادة في الطريق، أو أي شيء آخر، هناك من يسجلها في الغرب، وتغري بالقراءة كثيرا، وهنا أيضا يوجد من يسجلها ويقرأها البعض، لكنها لا تترك ذلك التأثير الكبير أبدا.
الطبعة الأولى عندنا لأي كاتب، باستثناء عدد قليل من الكتاب، لا تزيد عن ألف نسخة، وهذه الألف رغم ضآلة وزنها، تظل تترنح في سكة البيع، زمنا ليس بقليل قبل أن تنفد، والكاتب السعيد هو من تنفد ألفه من السوق في عام أو عام ونصف العام، وأعرف كتبا نشرت منذ عشرة أعوام، تحمل داخلها قضايا مهمة، على الصعيد الفكري والإنساني، ويملك أصحابها أسماء كبيرة وجيدة، ما تزال موجودة في المكتبات أو معارض الكتب، بطبعتها الأولى نفسها، حتى الآن، وقد اصفر ورقها وضاعت زركشتها تماما، وعثرت مرة في معرض للكتب، على رواية قديمة لي، بدت لي بلهاء، وغريبة المنظر، وسط الكتب الجديدة، التي تزهو بأغلفة ملونة، ونهج طباعي مختلف تماما عن نهج تسعينيات القرن الماضي.
لن نفكر إذن في طبعة أولى بحجم طبعة إيزابيل ولا بخمسها، فقط في طبعة أولى منعشة قليلا وأعني ألفين أو ثلاثة آلاف نسخة، تنفذ من السوق في عام.

_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *