qrf

التاريخ والحلم والقصيدة.. عرائس الخيال عند “فوزي صالح”

(ثقافات)

التاريخ والحلم والقصيدة.. عرائس الخيال عند “فوزي صالح”

 حاتم السروي

في مجموعته القصصية “حكايات على سبيل الثرثرة” يغزل لنا الكاتب “فوزي صالح” بخيوطٍ من أثير عباءةً نلبسها فنختفي عن الواقع لنطير مسحورين في عوالم الخيال الرَّحب ذي اللغة الشعرية المُجَنَّحَة التي ترسم لنا طريقًا من ورودٍ وأشواك، وتخاطبنا بكل ما يستبطنه الإنسان من عظمةٍ وانكسار، وصعودٍ وانحدار، ودهشةٍ وتساؤل، ووَعْيٍ وهذَيَان.. تخاطبنا بلغة الأحلام، وتضع على لسان “الريِّس حامد” المصاب بخَرَف الشيخوخة حقائق من التاريخ، وفي حكي “ابن يوسف” زفراتٍ من الواقع..

إنها حكايات ليس فيها أثر للثرثرة؛ فالعنوان يلعب مع القارئ لعبة الإزراء اللافت حتى يشده إلى روحه فيجد الأبطال مرآةً له تنبض حركاتهم وحكاياتهم بكل ما رآه، وأعني بالرؤية هنا ما شاهده بالحس، وما تجلى فعاينه بيقين البصيرة.

وبين القصة والقصيدة يأخذنا “صالح” لنستمع معه إلى صوت الأب وهو يتلو عليه في صفاءٍ نادر “آية الليل” فالليل صديق وليس عدوًا، نصحبه ويصحبنا إذا جَنَّ ظلامُه فغطى سواده الأشياء لتبدأ الرؤية، رؤية الكائنات التي يخفيها النهار فتنهار؛ فإذا وافاها الليل بسِحره دبَّت فيها الروح، وما علينا إلا أن نتملَّاها بعمق “فتدخلنا الدهشة، والدهشة تلد الأسئلة، وهي مفتاح باب المعرفة”.

وفي حوارٍ ممتع يقول الابن لأبيه: “يا أبي لليل رهبة لا يكسرها إلا اللغو، واللغو لا يكون بمُفْرَدٍ. فيشير الوالد بإصبعه المطرزة بمواسم القحط: اكسر رهبته بهذا” ويظهر لنا أن الكاتب يكثر من استخدام التشبيهات الموحية بالفقر والعمل الشاق وتقادم السنوات التي حفرت بالتجاعيد مكانًا لها على الوجوه، جاعلًا من هذه التشبيهات دلالة على نياشين الفخر وأوسمة البهاء، كما يبدو للقارئ أن السرد القصصي في المجموعة نوعٌ من الموسيقى المُلَحَّنَة بنغم تراثي؛ حيث يعمد الكاتب إلى لغة فصيحة عميقة وقديمة مستمدة من التراث وأمهات كتبه مثل مقامات “أبي القاسم الحريري” و”الحيوان” للجاحظ، و”عيون الأخبار” لابن قتيبة الدينوري، ومراد الكاتب من هذا أن تناسب لغته حالة “النوستالجيا” أو الحنين إلى ماضٍ عريق حمل معه العز والفخر والحكمة، والتاريخ الذي صنعه الأجداد فجعله بعض الأحفاد قبض ريح.

وفي غمرة انشغالنا بواقعٍ مرهِق، ضيِّق الزوايا، لاهث الخطوات، كئيب الصوت والملامح، يشير “فوزي صالح” إلى رغبة التحرر عند”عصفورٍ أَزْغَب يلوح معافِرًا الهواء بجناحين هشَّيْن في مناوشات دائبة للفِكَاك” بينما “يطل الجعفري بوجهه المدبوغ – دبغت جلدَه الأيام- وعينيه الطَّيِّبَتَيْن كَعَيْنَيْ تمساحٍ نيليٍّ مُقْعَد ويقول: سلنا عنه يا عم “يقصد الليل” فردناهُ طاولةً، ونقشنا عليه كؤوسًا وأنهارًا من شَفَقٍ مُصَفَّى”..

وهنا تبرز خاصية لأدب “صالح” وهي دقة التعبير مع جمال اللفظ بلا مبالغة تجرُّه إلى الزركشة الأدبية، مع بلاغة الصورة الشعرية وما تحويه من تُحَف التشبيه والاستعارات؛ فالناس في مدينة “فوزي” المسحورة لديهم قدرة رائعة على تطويع الليل مثلما لان الحديد لداوُد فصار عجينة يشكلها كيف يشاء، وكانت الريح ذَلُولًا لسليمان، وانقاد الخشب لابن مريم فصنع منه الكراسي، وهكذا أبطال الحكايات الأحرار يجعلون من شبح الليل طاولة يضعون عليها كؤوسًا من عُنَّابٍ مُثَلَّج، وينقشون عليها أنهارًا من شفقٍ/ عسلٍ مُصَفَّى، فيحيلون الظلام المخيف إلى جنة يأكلون منها رَغَدًا حيث يشائون، فإذا عاد النهار وانفض السامر رجعوا يأكلون خبزًا بعرق جبينهم ويمشون على الحَسَك..

وفي الحكايات نرى “الريِّس حامد” بحكاياته الملتهبة عن بطولاته المزعومة ومعركته التي خاضها بمفرده مع الإنجليز، ونرحل معه إلى “الجمال” ابن صديقه وأخيه الذي رباه مع ولده “الجميل” وأعطاهما الديك الرومي الذي أهداه له صديقه العثماني “التركي” – وهذا الديك بالمناسبة عرفه المصريون من خلال الأتراك لذا سُمِّيَ بالرومي- فجعلا منه حصانًا ليصير ويصيران معه حديث القرية حين يلف بهما الديك الرومي وهو مُلَجَّم كَفَرَس؛ غير أنه في يومٍ عاصف ينفجر ويحترق بعد أن ربطه الولدان إلى أسطوانة حديدية، فيترك الحسرة في قلب الريِّس حامد.

ومن الواضح طبعًا أن الكاتب هنا يتكئ على تيمة “الواقعية السحرية” ويعيد إلى أذهاننا أدب “جابرييل جارسيا ماركيز” فالديك ليس حصانًا، ولكن ما المانع أن يكون حصانا؟! وما الذي يمنع أن يكون موته الفاجع دلالةً ورمزًا على موت راكبه – الذي كان عملاقًا مثله- والذي صار زعيمًا وهو “الجمال” وقد جعله الكاتب مُعَرَّفًا بالألف واللام ليومئ إلى أنه الجمال كله لأن الألف واللام يفيدان الاستغراق، فهو لوحة درامية تصحبها موسيقى إنسانية تعكس لنا الطموح والحلم والكفاح والانكسار، وقد مات فجأة بعد رحلة طويلة أخذ فيها أرض المواطن “الريِّس حامد” فوزعها على “الحرافيش” أي “الصعاليك” ثم استدعاه إلى قصره فأكرمه وجعله صَفِيًّا له ومشيرًا عليه يستمع إلى نصحه فهو بمنزلة والده، في إشارة واضحة إلى ما شهدته حقبة الستينيات من ظلمٍ وكرامة، ودمعة وابتسامة، وتأميم وعطايا؛ فالجمال كان يأخذ بيدٍ ويمنح بالأخرى، يضرب بكفٍ فتدمع العيون ثم يمسح الدموع بأخرى، والريِّس حامد حمد ربه على أرضه التي أُخِذَت منه ثم راح ينصح الزعيم بإخلاص أن يصطفي بطانةً صالحة تدله على الخير وتحثُّه عليه..

أما “ابن يوسف” فهو “شِقْوَةٌ مُجَسَّمة، ما اقتربت من أحدٍ إلا مسَّتْهُ بريحها.. خليطان من سفهٍ وعَشَى” فهو شخص كئيب بل هو التعاسة تمشي على قدمين، والكآبة عدوى كما نعرف، كما أنه مزيج من الحماقة والعمى، وكلمة “العشى” تعني في اللغة انعدام الرؤية بالليل، فهو إذن ليس مثل “الجعفري” الذي جعل هو ورفاقه من الليل طاولة وضعوا عليها كئوس المتعة؛ وإنما يحمل ليلُه معنى العجز وفقدان الرؤية، و”كان لمَّا يأتي يمطِرُني بالضجيج.. يجول بلسانه الحرير في عوالم الدخان، ويَهْمِي أقاصيص بلا ذيل، ينقشها في ذاكرتي حقائق لا تحتمل الجدل، فأتسرب في نسيج مجازاته سندباد، وحين أنكُص معبَّأً بالمحارات والقواقع يُعِيدُني”..

إن “فوزي صالح” يجول بنا سابحًا في بحر الخيال، ويطلعنا من خلال “ابن يوسف” على الرحلة الخرافية بالكلمات السَّلِسَة أو “الحريرية” في عالم الوهم المسحور الذي لا نهاية لأنحائه الفضفاضة، إنه “الدخان” بما تحمله الكلمة من معاني الاختناق واللاشيء ، ويغوص بنا الكاتب في لُجَّةِ العجائبية والحكي المسترسِل بلا نهاية من قِبَل “ابن يوسف” الذي يعتبر خرافاته رغم كل ما فيها حقائق لا تقبل النقاش، وحينها يتقبل البطل/ الراوي هذه التخاريف على أنها “مجازات” فيتسرب في نسيجها ويسافر بين خرافةٍ وأخرى كما السندباد، كل هذا وغيره يسرده الكاتب مستمِدًا من القصص القرآني رموزًا وإشارات ينسج بها ثوبًا قصصيًا شعريًا من خيوط رضا “حامد” وعزيمته، وانكسار “ابن يوسف” الذي يحمل اسمه دلالةً على الحزن لا تخفى على قارئ القرآن.

إن “فوزي صالح” لا يكتب تلك الكتابة التقريرية الوصفية التي يراها بعض الأدباء الشكل الأمثل للأدب الواقعي؛ بل يكتب إبداعًا حيًّا يخرج من المَوَات فيُحيِي فينا فن التذوُّق، ويُكسِب مخيلتنا قدرة على تجاوز صهد الظهيرة في الصيف القائظ، وعُبُوس الشجر في نهارات الخريف، ويمتعنا حين نصغي إلى “الريِّس حامد” وهو ينحت أكاذيبه المليحة عن بطولات وهمية لم يذكرها المؤرخون لأنهم – بحسبه- حنقوا عليه وحسدوه على قوته الخارقة وشجاعته الفائقة وهو يحارب جيشًا عرمرمًا جاء بجنوده وعتاده خصيصًا ليقبض عليه وحده! فلمَّا هزمهم خبَّأه “سعد باشا زغلول” في عِزْبَةٍ له ليحافظ على حياته التي طالت جدًا لتكشف لنا كل التحولات، منذ أن كانت مصر ولاية عثمانية وكان وُلاتُها ينافسون “الباب العالي” وفي الوقت ذاته يدينون له بالولاء، وحينها كان “الريِّس حامد” مُضطَّهَدًا لأنه يناصر “آل عثمان” فلذلك نقله الحاكم إلى الصعيد وجعله أمينًا لبريدِه، ولما صار “الجمال” زعيمًا أخذ منه أرضه، ونفهم من هذا أن الريِّس حامد “المصري” لحقه الظلم في كل العهود، ومع هذا فهو “حامد” لا يجزع بل يصبر ويرضى، ولم يمنع الظلم صوته من العلو في الحق وعند اللزوم، وكان أمله في الأفضل مثل نار المجوس لم يَخْبُ ذات يوم، إنه الرجل الأصيل الذي عاش في كل الظروف ولم يكسر الدهر صخرة عزيمته؛ بل إن “حامد” احتوى الدهر في ذاكرته وكشف لنا عن صَيْرُورَتِه وأشهدنا أنه “نهر كبير” يتعدد فلا ينزله السابح مرتين؛ لأنه كل يومٍ في شأن، أليس كذلك؟!

شاهد أيضاً

اللغة في رواية ( ظل مريم ) لعامر محمد درويش

(ثقافات) اللغة بين طواعية الاستخدام وألق المعنى في رواية ( ظل مريم ) لعامر محمد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *