*يوسف ضمرة
ينحاز الكتاب والشعراء إلى الخرافة والحكاية الشعبية، بحسب رأي فرويد، فهم يؤمنون تماماً بقيمة الحُلم وبتأويله، ويرفعون من قدره إلى مرتبة علياً، تماماً على عكس العلم الذي لا يرى في الحلم قيمة تُذكر.
تصر العلوم على أن الحلم استجابة نفسية لعامل فسيولوجي ليس إلا، بينما الأديان والأساطير والخرافات الشعبية كلها تمنح الحلم قيمة جوهرية، فمقدرة النبي يوسف على تفسير الأحلام تلعب دوراً بارزاً في قصته، من بدايتها إلى نهايتها، منذ حلمه إلى تفسيره أحلام السجناء إلى تفسير حلم الفرعون.
بالنسبة للشعراء والكتاب، فإنهم لا يرتقون بقيمة الحلم فحسب، بل إن بعضهم يبدأ الكتابة متكئاً على أحلامه، بكل ما فيها من غرابة، ولكن العلاقة الأبرز بين الكتابة والحلم تتعين في استعارة تكنيك الحلم نفسه في الكتابة.
المفارقة هنا هي أن الشعراء والكتاب في حياتهم الخاصة لا يؤمنون بالحلم أو بتفسيره، فهم يؤمنون بالعلم وبالتفسير العلمي للظواهر والوقائع، ولكنهم في الكتابة يمنحون الحلم مرتبة عالية لا تفوقها مراتب العلم والمنطق.
والمفارقة الكبرى هي في قراءة النقاد للكتابة، التأويل الذي لا يشبه شيئاً سوى تفسير الأحلام، فثمة إشارات وعلامات يلتقطها الناقد، ويعتمدها كمفاتيح لأبواب مغلقة في النص، وربما تكون مغلقة أمام المؤلف نفسه، والغريب هو أننا نقبل على هذه التأويلات بشغف وفضول، ونحن لا ندرك أننا أمام محاولة لتفسير حلم لشخص ما!
فتأويل قصة المسخ لكافكا يندرج في هذا السياق، فالقصة نفسها مجرد حلم يمكن لأي شخص أن يراه؛ أن يرى نفسه حشرة لزجة تنزلق عن السرير، ولكن الغرابة هي في التأويل، حيث يلجأ الناقد إلى تقنية تفسير الحلم تماماً، يخبرنا أن شخصية كافكا «السيد أي شخص» يعيش واقعاً موضوعياً شرساً وضاغطاً، يتم التعبير عنه في الكتابة «الحلم» بانسحاق هذا الشخص. هل هي رغبة لم تتحقق، أم تخوف الإنسان من تحققها؟ في الحالين فإننا أمام حلم «القصة» وأمام تفسيره «النقد».
ولكن، هل الكتابة حلم؟
إذا كانت أحلام الناس تحقيقاً لرغبات مكبوتة، فإن الكتابة خير ما يحقق ذلك لصاحبها، وإذا كانت الأحلام تعبيراً عن اضطرابات سيكولوجية بسبب اشتباك المرء مع واقع موضوعي عنيف وقاس، فالكتابة أكثر ما يجسد الصراع الناجم عن هذا الاشتباك. وإذا كانت الأحلام محض أمنيات مستقبلية، فإن الكتابة سيد من لعب هذا الدور بامتياز، وإذا كانت الأحلام مفككة ومتقطعة وتقفز في الزمان وبين الأمكنة بسهولة ويسر، فإن الكتابة فعلت ذلك، وتفعله دائماً، حتى إن الكتابة وصلت إلى ما بعد الموت، والتقطت صوراً للجحيم والفردوس بأقلام كتاب مثل دانتي وأبي العلاء المعري.
تقوم الأحلام بالكشف عن شخوص لم نرها من قبل، ووقائع لم تحدث من قبل، وهو ما تقوم به الكتابة نفسها، وإذا كنا نفاجأ برؤيتنا لبعض الشخوص التي رأيناها في أحلامنا، فإننا نفاجأ برؤيتنا لشخوص كتبناها على الورق، ومن هنا نشأت الدونكيشوتية والبوفارية والشفيكية والزورباوية، نسبة إلى هذه الشخصيات الأدبية، التي يمكن نعتها بـ«الحلمية».
تستطيع الكتابة أن تعبر بنا مناطق لا نجرؤ على عبورها في الحياة، وهو ما يفعله الحلم تماماً، وحينها تصبح للكتابة أهمية فائقة من حيث قدرتها على تحطيم الحواجز، والكشف عن مكنونات النفس البشرية، وتوقها إلى آفاق سرية وغامضة.. فلنحلم كثيراً.
______
*الإمارات اليوم