الخطاب الأدبي النسائي ومظاهر اختراق المسكوت عنه

(ثقافات)

الخطاب الأدبي النسائي ومظاهر اختراق المسكوت عنه

*ليلى ناسيمي

الكتابةُ الإبداعية استجابةٌ لحاجتنا الملحة في ممارسة طقسِ الحرية، والحرية في مجتمعاتنا العربية، مشروطة بعَدَمِ الخَوْضِ في ما يُثيرُ حَفيظةَ الغُلاة في الدّين، حراسُ المعبدِ… وعليه فإن كنتِ مبدعةً حقا عليكِ بِخَلْقِ لُغَة لا تُذَكِّرُ ولا تُشْبِهُ أو تتقاطَعُ مع الكلام المقدّسِ لطَرْحِ فِكْرَةٍ لا صِلَةَ لها بما حَرَّمَ أو نَهى عَنْهُ كِتابٌ مقدّس والحالُ أنّ الكُتُبَ المقدّسة أحاطَتْ بكلِّ المعارِفِ والأفكارِ… إذا عليكِ – أنت المرأة المبدعة – أن تَخْلُقِي لكِ لغةَ وأمْكنةً وأزمنةً وأفكارا بطَرْح بعيدٍ عن كوكبِ الأرضِ وعن درب التبّانة حتى… وإن كُنتِ مُصِرَّة فيجِبُ أن تتمتّعي بدهاءِ الكُهّان ومُرُونةِ راقصٍ على الحَبلِ كي تُحافظي على توازنِ وراحةِ هذه الكائنات الهشّة التي تحيط بنا.

وهي أيضا -الحرية- مشروطةٌ بعدمِ الخَوضِ في ما يخْدِشُ بِلَّورَ ذَوِي الرّهافَةِ في المشاعرِ والغرائزِ المطْمورةِ تحتَ الأقنعة فحاذِري وأنتِ تُميطينَ ستائِرَ عن الجسدِ أن تثيري رغبةً مستهامةً لدى قارئٍ لا يَحُدُّ جُموحَ خَيالِه حَدٌ.

     قبل كل ذلك ما يجب التأكيد عليه أننا اعتدنا مفهوم جاهز “للحرية”، تلك “الحرية” الموهومة التي لا تتصدى للبُغاة ذوي السلط المفوضين على الرقاب المستحلين لحليب حاحا المستباحة والضحية عادة هي المرأة ﻷنها الحلقة الأضعف في مجتمعاتنا ولذلك يتم تعليب الكلام ولَفِّهِ في سولوفان الاستعارة والانزياح والترميز، بهذا كانت “الحرية” في أوطاننا داخل علبة جاهزة للاستعمال حتى لا ينزعج السياسي ورجل الدين وحتى لا نخدش مشاعر العامة.

     التطور الذي عرفته مجتمعاتنا خاصة بدخول المرأة للتمدرس، و ادراكها  المكانة الاجتماعية الدونية التي تعيشها و التي جعلتها مشدودة بسلاسل إلى الجهل الديني والتخلف اﻻجتماعي والوصاية السياسية لا تعكس حقيقة المرأة كإنسان لها حقوق وحريات. رغم ذلك نجد المرأة المثقفة والمبدعة تتقدم بشجاعة وتفكر ضد الثالوث المحرم (الدين، الجسد، السياسة) الجاثم على العقول والقلوب واختارت في ذلك وسائط ابداعية متعددة مستعملة الرمز والانزياح والاستعارة، بالإضمار والتضمين والرصد، بالحجاج والتدليل فكرا وسردا، شعرا و رواية و مسرحا.

     عندما تجرأت المرأة المبدعة وفكرت  حول المقدس وفي مواجهته بمعنى عندما تناولت مواضيع  المحرّم أو ما يسميه ميشيل فوكو بالمسكوت عنه نجد أن أساليبها اﻻبداعية تختلف من جنس أدبي لآخر لكنها تخضع حتما لمقومات كل نموذج إبداعي و تلتزم بتقنياته الجمالية لغة وبناء بمعنى أن تناول المرأة لقضايا لها علاقة بالمسكوت عنه لم تتم بشكل ارتجالي و عفوي، لم تقدم أطروحات ابداعية مباشرتية في هذه المواضيع الحرجة ولكن اشتغلت في كل مرة حسب ما تقتضيه المضامين التي تقترحها المادة اﻻبداعية التي تمثل دعامة لمواقفها في الحياة و لرؤيتها للعالم.

تلجأ المبدعة الشاعرة (مثلا) في طرحها لأي من أضلاع المثلث المُحرّم غالبا إلى الصورة الرمزية والجملة الانزياحية و الاستعارية وإلى تفكيك المسكوت عنه لغويا، وإعادة انتاجه بما يحقق الجدوى و المتعة في نفس الوقت وهذا يعني ضرورة نجاح الفكرة في الوصول للمتلقي بكل حرارتها و صدقها وجماليتها و عنفها وبذلك تجعل المرأة من القارئ شريكا لها في عملية التفكير و الرفض عندما يبحث بنفسه  في دلالات القصيدة وبالتالي تورط القارئ على الدخول في فكرتها و سيجد نفسها يساندتها في تمردها.

أَسُوقُ هنا نماذجَ مقترحة من تجارب إبداعية مهمة ولافتة في الوطن العربي: 

في الشعر أقدم أمثلة من قصائد لسُنية مَدُّوري وفاطمة بن فضيلة من تونس وعائشة المغربي من ليبيا و في السرد أتناول النص الروائي اللافت “الملائكة لا تطير” لفاطمة بن محمود وفي المسرح أستعرض تجربتين من تونس لنجوى ميلاد و من المغرب مسرحية لفرقة أكواريوم.

في التجربة الشعرية:

     اختارت سُنية مَدُّوري أن تتمرد بكل جرأة و وضوح  ومن خلال صورة متناهية في الشفافية و الدقة، فتلقي عنها العقائد والأغلال جانبا و تبشّر بوطن من لغة تخصها بعيدا عن فضول العسس، وهي لا تتوسّل في تمردها التمويه أو التجريد بل تنطلق مباشرة بالفكرة إلى مداها و تعيد للتفاح عنفوان الاشتهاء وتؤسس الوطن المشتهى والبيت لجوقة من الآلهة ولا دخل لغيرها فيه تقول:

 القُبلةُ الحمراءُ آلهةُ النبيذِ…تقولُ عاشقَةٌ وتُتْرِعُ كأسَ شهوتها

وتمضي في اختبار اللّيلِ.

تبّا لأغلال العقائدِ والعوائد والنّذورِ

سأمنَحُ التفّاحَ شَهقَتَهُ الأثيرَةَ والمُثيرَةَ

لا تلُمْني أيّها الوطَنُ المريضُ بنصفهِ السفليِّ

يا وطَنَ العقولِ المفْلِسَهْ.

سنؤَسّسُ الوَطَنَ الجَميلَ بحرفنا

البيتُ، بيْتُ الآلهة.

لا دخْلَ للحُرّاسِ في لون الحشايا والحكايَا والهوى

 (قصيدة كنائس المعنى الشاعرة التونسية سنية مَدُّوري)

      الشاعرة التونسية فاطمة بن فضيلة تعلن مواقفها من العنف والهجرة و التطرّف الديني و  ترفع صوتها في وجه السياسيين المتاجرين بأوطانهم بكثير من التّضمين فهي تلتقط الصّورة الحيّة التي تفضح الآخر/ الاقصائي وتلقي بها في وجهه  حيث لا يتوقعها.

تقول على لسان بيّاع النهود لمريضات السّرطان في باب المشفى:

نهود حقيقيّة لنساء جميلات،

هذا مازال طازجا،

رماه البحر أمس

على الميناء القديم

وهذا لصبيّة صغيرة

ماتت اختناقا وهي تحاول العبور

في سفينة بشراع يتيم،

وهذا لطالبة انتحرت

في المسكن الجامعي،

هيّا اقتربن، نهود إفريقية متوثّبة…

نهود بحَلمات ناعسة

من آسيا الصفراء،

هيّا اقتربن…

هذا لامرأة فجّرت نفسها

في الشّارع الكبير

أفسدته الشّظايا قليلا

قد يصلح لجسد مترهّل”.

يدفع الرّجل الخمسينيّ،

بيّاعُ النّهود عربتَه

من علوّ هضبةِ المشفى،

وهو يهمس بين أسنانه

“أو للقطط…”

في نص ايرسبتين نقرأ لها:

تسألني امرأة يصبّون في عرقها الاصطناعيّ

ما قد تبقّى من الإرسبتين،

أنا حصّتان وأمضي، بتروا نهديَ الأيسر،

وأنت متى تكملين، وهل بتروا الأيسر مثلي

أم…؟

-أنا… بتروا فكرتي مرّتين…

… وشجّوا بلادي

أما الشاعرة الليبية عائشة المغربي، اللاجئة في فرنسا حيث شُرّعت لها أبواب الحرية والأمان بعد أن تعرضت للتهديد في بلدها ليبيا تقول في احدى قصائدها الجميلة:

بمرارة القهر

حِبني أكثر

حِبني بقوة

كبلاد مقهورة

تفتح فخذيها للقوادين

وتجار النوايا الخبيثة

وتدسّ أطفالها تحت السرير

حين يمطر الدم

حِبني بعنف

وخُذني إلى خيمة العالم الإنساني

إلى أرض الله الضيقة.

وهي هنا تفكك مسكوكة لغوية شبه مقدسة وتعيد إنتاجها وهي “أرض الله الواسعة” و تحولها إلى “أرض الله الضيّقة” فتنكّل في قصائدها بتجار النوايا الخبيثة.

هذا اﻻختيار من عائشة المغربي يعكس توظيف لغوي يَرِدُ كثيرا في النصوص الشعرية للعديد من الشعراء المتمردين، إذ يستعمل معجم اللغة “المقدسة” ويُستعار الأمثلة والمقولات من هيكل الجملة و يتم إعادة بنائها.

من المغرب الذي جئت منه محمّلة بارث ثقافي هو نفسه الذي تعانيه النساء في وطننا العربي  يمكن أن نلاحظ ان المثلث المحرم تتداخل أضلاعه وتنغرس في لحم المرأة الطري، في نص شعري تساءلتُ مستنكرة:

ثم ما معنى أن تنمو

أعراش الأركانة بين فكّي تيس

ولا تتكسر أضلاع المثلث…؟

في زاوية الغياب تغفو الحروف

ولا تحركها في عزلتها

سوى الظنون،

تعبث بسرها ولا يتفشى.

أول الظن تدبير

وأخره تبديد ظلمة

مهما كان بعظه إثما،

أما الأعلام فتلك لقطة أخرى.

ترف على أجنحة الخوف

ويحرسها جبان. !

تعرفها أسماء الشوارع،

وتتلوها الدروب بالإضمار والتضمين

نموذج آخر لتفكيك مسكوكة “إن بعض الظن إثم…”

في التجربة السردية:

     على عكس الشعر عالم السّرد منحوث بوعي مكشوف، ولا يوجد  مجال للتأويل بالعودة إلى لاوعي الروائي أو لتفريغ مكبوتاته، في السرد وعلى خلاف الشعر يقدم الروائي أفكاره ولا يحتاج ترميزا مبهما و لا إيغال في التجريد، وفاطمة بن محمود في روايتها “الملائكة لا تطير” لم تكتب روايتها بعفوية و لم ترتجل الأحداث و لم تخترع الشخصيات، أتت بالواقع وشرّحته كما هو وتناولت ما فعله اﻻسلام السياسي عندما وصل سدّة الحكم فقد قام بتغيير مشاكل المجتمع و إستبدل اسئلته و حاول توجيه مسار تفكير الشعب نحو ما يريده.

 مشاكل المجتمع الحقيقية ومطالبه الرئيسية رفعها الشعب التونسي من خلال شعارات واضحة أثناء اﻻحتجاجات الشعبية وهي:شغل، حرية، كرامة وطنية. غير أن الإسلام السياسي اقترح بدائل عن هذه المشاكل الحقيقة بافتعال مشاكل زائفة ليلوكها المجتمع (مثل ختان البنات، تعدد الزوجات، نكاح الجهاد… ) .

يتحدث الباحث بو علي ياسين عن “الثّالوث المحرم” فيقول إنه يحمل وجعا وجوديا وقلقا نفسيا وأرقا ثقافيا لا يستقيم معه العيش إلا بالمواجهة والمرأة في أوطاننا واجهت بوجه مكشوف.

     الروائية فاطمة بن محمود في رواية “الملائكة لا تطير” كانت جريئة في سردها و تحدثت بضوح عن “ختان البنات” هذه الظاهرة لم يعرفها المجتمع التونسي والمغاربي عموما، وتونس تحديدا تعتبر قلعة تحرّر للمرأة التي تتمتع بمجلة الأحوال الشخصية التي تضمن لها حريات عديدة و هامة جدا مثل سن للزواج وحق طلب الطلاق وتضمن لها حقوق كبيرة في كل الوضعيات القانونية و اﻻجتماعية، لكن عندما وصل اﻻسلام السياسي للحكم سعى إلى الاستيلاء على المجتمع بإضعاف المرأة، لذلك بدأت الشائعات  تغزو الشارع التونسي لارباك المجتمع في وسائل التواصل اﻻجتماعي و اعلام المجاري، نجد مثلا اشاعات مضمرة وموجهة تنشر بين الناس تقول أن هناك قوانين جديدة ستسمح بتعدد الزوجات، كما أن قدوم الدعاة إلى تونس استغل عادة لاثارة زوبعة ضد المرأة، مثلا عندما زار وجدي غُنيم الداعية المصري المشهور بفتاويه من أجل فرض ختان البنات راجت معه شائعة “ضرورة ختان الأنثى”، و بضغطة زر أصبح الجميع يتحدث عن هذا الموضوع الغريب عن تونس والمشكل الزائف و الخطير عن المجتمع الى حد أن ظهر أنصار من التونسيين أنفسهم يتبنون فكرة “ختان الأنثى” وهو ما مثّل صدمة للعديد من الشرائح الواعية من النساء و الرجال على السواء.

هنا حدثت الرجّة على ما يبدو للشاعرة و القاصة  فاطمة بن محمود واختارت أن تستفيق بسرعة من هول ما يحدث في المجتمع و ما يهدد المرأة و تكتب هذه الرواية.

في الفصل 30 ستتوقف المؤلفة عن السّرد بعد حادث الخفض أو الختن الذي تعرضت له نور على يد أبيها وصاحب المقص الغريب لتقحمنا معها في جدال بينها وبين نفسها وبينها وبين زوجها حيث جاء فيها ما يلي (متحدثة عن فعل الختان للطفلة نور):

 “صرختُ وأنا أدور في مكاني:

 من قال أنها لم تقع، إنها تحدث في أذهانهم ويبررونها وهذا يعني أنها يمكن أن تحدث في الواقع أيضا، ومهمتي أن أواجه مثل هذه الجرائم حتى إن كانت باسم الدين” (ص 130)

أفهم جيدا أن دافع السرد لكتابة هذه الرواية هو الواجب، من واجب المبدع أن يلتزم باللحظة التي يعيشها لذلك يبدو أن إحساس بن محمود كان شديدا تجاه لحظة  رِدّة ثقافية واجتماعية كادت تقضي على البلاد.

أعتقد أنه يمكن الإشارة أن رواية “الملائكة لا تطير” ربما أول نص روائي عربي يملك الجرأة للحديث عن “ختان البنات” وجعله التيمة الأساسية في الرواية،

المفكرة النسوية الشهيرة نوال السعداوي فقد اهتمت بهذا الموضوع وكرّست له جهودها و كتاباتها و تحدثت عنه كتجربة اجتماعية و من زاوية البحث السوسيولوجي أساسا يعني تناول نوال السعداوي لختان الأنثى كان من خلفية علمية وهي محقة في ذلك كثيرا وجهدها لا يستهان به اطلاقا.

أما  أما أدبيا بمعنى أن يتحول ختان البنات إلى تيمة مستقلة بذاتها، إلى فضاء سردي تدور حوله الأحداث و الشخصيات يبدو أنه لم تكن هناك الجرأة الكافية للدخول في هذا المبحث الذي تحيط به أضلاع الثالوث المحرم  ويفتح مباشرة على الجسد والدين والسياسة.

 بعض الكاتبات العربيات تناولن هذا الموضوع بالتلميح من خلال سطر مبهم قد لا ينتبه له القارئ العادي مثل العراقية فوزية شاويش السالم في روايتها “سلالم النهار”، وهناك من تناولته في اطار سِيَرِي دون تفكيك وهو ما قامت به الكاتبة السودانية اشراقة مصطفى في كتابها “أنثى الأنهار، من سيرة الجرح والملح والعزيمة” وهو كتاب في السيرة الذاتية، تحدثت صاحبته في فصل وحيد وتحديدا في نص صغير على تجربتها الشخصية مع الختان دون تحديد موقف منها تجاه الحدث/ الجريمة، لم تقل أنها مع أو ضد ما عاشته كأنثى، أي قامت بعرض الحدث بشكل سريع وعابر وكأنه حدث عادي. أعتقد ان الكاتبة السودانية اشراقة مصطفى كانت جريئة في اﻻشارة إلى تجربتها الشخصية لكنها كانت جرأة محاصرة و محدودة، هذه الكاتبة تقيم – منذ مرحلة شبابها – في النمسا بمعنى أن الحرية والأمان متوفران لديها لكنها لم تقدم رأيها في الجريمة التي انتهكت حرمتها  الجسدية، هذا ما يجعل اﻷمر يبدو للقارئ وكأن “ختان الأنثى” حدثا عاديا و مسلّم به ويجب التطبيع معه. في رواية “الملائكة لا تطير” ﻷول مرة نجد “ختان البنات” هو التيمة الرئيسية التي تتناولها الرواية بكل شخصياتها وأحداثها و زمنها و مكانها وهو ما يُعد سبقا في مدونة الرواية العربية عموما وليست النَّسوية فقط. 

استنتاج آخر أجده مهما وهو التالي: من عادة الرواية التي تنقد الإسلام السياسي وتفضح مقولاته الوهمية و تكشف جهله و تطرفه أنها تفعل ذلك من خارج الحيز الجغرافي والزمني الذي يملك فيه الإسلام السياسي سلطة، بمعنى ان تكون الكتابات الموجهة ضده بعيدا عن زمنه و بعيدا عن مكان حكمه لذلك اختار البعض ان يواجه التطرف الديني من منفاه مثلما فعلت الروائية اﻻفغانية مريم هاشمي التي كتبت روايتها المهمة والمؤثرة “اللؤلؤة التي كسّرت محارتها” من منفاها بالولايات المتحدة الأمريكية وصدرت الرواية في الكويت عن دار كلمات سنة .2020 

     ما يحسب لفاطمة بن محمود أنها كتبت ضد اﻻسلام السياسي زمن حكمه و في مكان سلطته، كتبت عنه و مارست حقها في النقد وهي لم تغادر تونس و أيضا طرحت الرواية في السوق التونسية و الاسلاميون  على رأس السلطة. 

لم تواجه بن محمود قمعا مباشرا من السلطة وهذا قد يعود حسب رأيي إلى إدعاء الديمقراطية لدى اﻻسلام السياسي حتى يطمئن لهم أعدائهم في الداخل و الخارج، لذلك تركوا هامش الحرية “مؤقتا” حسب ظني حتى يضمنون التمكّن، فضلا عن انشغالهم بالوصول الى الحكم و التحكم التام في كل السلطات و التغلغل في كل مفاصل الدولة.

أعتقد أنه تحسب بشدة هذه الجرأة التي اختارتها بن محمود في كتابتها السردية خصوصا عندما نرى العديد  من المبدعين في تونس يختارون الصمت و يفضلون الكتابة في مواضيع مجردة فيأخذون القارئ إلى عالم الغيب و اﻻساطير و الخيال أو يختارون مواضيع لا تعني المجتمع التونسي و لا تعبر عن واقعه المتشظي مباشرة.

ما يمكن أن أشير إليه و يعزّز جرأة بن محمود أن هناك عدةَ دور نشر عربية رفضت نشر رواية “الملائكة لا تطير” مثلا في مصر  “دار رؤية للنشر و التوزيع” امتنعت عن نشرها لجرأتها، أيضا في السودان و في احدى دول الخليج حيث وصلت الرواية إلى القائمة القصيرة وكان ثمة عقد للنشر و الترجمة وقع التراجع عنه ﻷن الرواية عملا جريئا يفضح بنية التفكير الديني المتطرف. إذن لم تجرؤ دار نشر عربية على تقديم رواية “الملائكة لا تطير” التي تتحدث بعنف و بجمالية أيضا عن الإسلام السياسي وتفكك بنية تفكيره الزائف للدين، هنا لا بد التنويه بدار زينب للنشر في تونس التي استغلت هامش الفوضى في البلاد وقدمت لنا هذا العمل السردي المهم. 

 في هذه الرواية ألقت بن محمود بصخور في البرك الآسنة وألقت بالأسئلة المزعجة على لسان شخصياتها مرة  باسم نور وطورا بانزياح من ليلى في أحلام اليقظة أو عبر سيف نفسه في انسياقه خلف ذكرى لبنى واستغفاره، هذا الاستغفار الذي تكرر باستمرار و استعملته الساردة كإشارة أن المستغفر قد أتى مكروها أو زلّة و هذا يؤكد اهتزاز في شخصية المتديّن التي نجدها تعيش صراعا حادا بين العقل و الجسد  و تناقضا شديدا بين ما يقوله و ما يمارسه. 

في هذه الرواية بن محمود وضعت القارئ في مواجهة  فتاوي الفقهاء فيما يخص التطهر أو حول قبول المال الحرام والإنفاق منه ولعل قمة التراجيديا جاءت في فصل الختن المطروح في هذا المتن السردي،  وكذلك أبرزت التناقضات الشديدة التي تحفّ بالشخصية المتدينة والهنات البارزة في حياتها و التركيبة المعقّدة لسيكولوجيتها وهو ما فعلته بكل دقة عند رسم عوالم المتدينين المتطرفين بواقعية صارخة وكشفت عاهاتهم المستدامة في التفكير و فضحت تشوهاتهم الأخلاقية  وعُقدهم  النفسية المؤثرة، سنجد مثلا أن سيف المتشدد الديني المستبد على أهل بيته والسارق لطفولة ابنته والذي يستدرج الشباب الغِرّ ليلقي به في بالوعة التطرف والإرهاب الديني هو نفسه لم يتخلص من حنينه إلى حبيبته السابقة وهو نفسه له صفحة خفيّة في الفايسبوك بعنوان “العاشق الولهان” يستدرج فيها الغانيات ليمارس معهن الجنس الممنوع عبر النت.

 لم تفوّت الساردة في رواية “الملائكة لا تطير” الفرصة للكشف عن المأزق الديني اليومي المُعاش في ظل الجماعة الإسلامية وساقته بسلاسة إلى القارئ حتى أنه يصعب بعد قراءة الرواية ألا تشعر برغبة في البحث عن أجوبة كثيرة لأسئلة أيقظها السرد من سبات أو من اطمئنان وكل ذلك دستّه بن محمود في طيات الرواية ببساطة شديدة وبذكاء لافت.

من يقرأ الرواية سيطرح بشدة أسئلة من نوع:

لماذا نجد الفتاوى الدينية تبيح جريمة ختان البنات ؟
هل شرف المرأة في عقلها أم في عضو من جسدها؟

لماذا يفكر المتدينون في أنصافهم السفلى بكل هذا التشدد؟

هل الدين (من خلال فتاوي علمائه) يحمي المرأة أم يهينها؟

لماذا يتحالف رجل الدين ورجل السياسة عندما يتعلق الأمر بجسد المرأة؟

نلاحظ أن مثل هذه الأسئلة تفتح على مثلث : الجسد والدين والسياسة.

لم تكتف بن محمود باللغة أداة للسرد بل استعارت كاميرا المصور والتقطت بدقة مشاهد سردية مصورة ، بمعنى أننا نلاحظ توظيف الصورة السينمائية في أكثر من مشهد سردي لتُقرّب الفكرة والشخصية من القارئ وهي هنا تتصدى لسرطان التطرّف الديني بأشكال ابداعية فنية و جمالية لتعبر بجرأة وتدافع عن الحق في التعبير والتفكير والاعتقاد أي الحق في الحياة بكرامة.

ملاحظة أعتقد أنه لابد منها في ختام هذا الفصل أننا اليوم – في هذه الندوة مثلا – نتحدث بحرية عن جسد المرأة وهذا يعني أن “ختان البنات” الذي كان يهدد نساء تونس قد فشل، بذلك نؤكد على أن من أدوار المبدع هو استباق الحدث والتنبؤ بكارثيته و التمهيد لإفشاله وهذا ما فعلته بن محمود وأظنها رواية يمكن أن تُقرأ في المستقبل بشكل جيد لأنها كانت صادقة مع واقعها كثيرا.

في التجربة المسرحية:

      في المسرح وفي باب السيرة الذاتية نجد أن الفنانة المسرحية التونسية نجوى ميلاد في مسرحيتها الناجحة “للرجال بَركة” التي قدمتها في عروض عديدة في تونس لم تتهيّب من تشخيص نص مونودراما لسيرة امرأة عاشت تجارب عاطفية واجتماعية نهبتها و مزقت روحها. تقدم النفانة  نجوى ميلاد تجاربها على الركح بكل عنف و بكل شفافية وتختار الحكي لتستعرض نماذج من رجال عبروا حياتها، اللافت في تجربة المسرحية نجوى ميلاد انها قدمت على الركح سيرتها الذاتية وتعرت أمام الجمهور لتكشف عن ندوب في روحها وجروح في ذاكرتها و أعطاب في قلبها.

 نجوى ميلاد عبّرت وضوحا و ترميزا عن موقفها ورؤيتها للإسلام السياسي ولدولة الخلافة من خلال حديثها عن جهاد النكاح وعن الزواج العُرفي وعن الجنس، تحدثت عن تلك العلاقات الشائكة و الملتبسة بين الذكر و الأنثى في الدولة الدينية.

المسرحية نجوى ميلاد لم تخشى من تشخيص جزء مهم من سيرتها العاطفية والاجتماعية دون الخوف من طابو الجنس والدين والسياسة.

مسرحية “للرجال بَركة” رصدت مكنونات الثقافة الذكورية في تونس من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مما حرك حفيظة المتشددين فتعرضت للعديد من المضايقات كما حصدت عديد الجوائز…

في المغرب فرقة أكواريوم أثارت بدورها جدلا ثقافيا واجتماعيا بعرضها مسرحية تتطرق لمسألة الحق في الجسد في علاقة بالقضايا النسائية من خلال مسرحية “ديالي” التي تعني في الدارجة المغربية “الفرج” من خلال سِيَر ثلاث نساء، فاستفزت  بذلك حفيظة المتشددين دينيا وتعرضت المخرجة للعديد من الانتقادات اللاذعة و المواجهات الحادة.

يقول أوغست بوال “أن تكون مواطنا ليس معناه أن تعيش في مجتمع بل معناه أن تعمل على تغيير المجتمع الذي تعيش فيه”

    مجمل القول، أن المرأة العربية المبدعة ورغم الخوف الذي لا يمنع الموت بقدر ما يمنع الحياة، رغم التهديد ورد فعل المتلقي الذي غالبا ما يكون عنفا رمزيا وماديا أيضا، بمعنى قد يأخذ شكل الشتائم والثلب، ويمكن أن يأخذ أشكال النبذ و اﻻقصاء اﻻجتماعي و الاقتصادي و اﻻعلامي كطريقة لمحاصرة كل تفكير منفلت وكل جرأة في التعبير.

 وهذا يعني أنه يجب على كل امرأة مبدعة و متحررة أن تخفض جناح الذل أمام التطرف، ولا تتكلم أمام الظلم والتجبّر ولا تواجه الوعي الذكوري الذي يدعّم مكانته بقراءة متخلّفة و متشدّدة للدين اﻻسلامي.

     لذا المطلوب من كل امرأة ومبدعة- بالنسبة لي – أن تتحمّل مسؤوليتها كمثقفة وتكون صوت المهمّشات و المنسيات و المقهورات و أن تكون المحرار الحقيقي الذي يقيس نبض المجتمع ويكشف عن هنّاته ويسعى إلى تشذيبها وتهذيبها من خلال طرح الأسئلة الحقيقية و تقديم البدائل الثقافية.

*ليلى ناسيمي كاتبة وناشرة من المغرب.

قدمت هذه الشهادة على هامش فعاليات ملتقى المبدعات العربيات بسوسة، تونس سنة 2022  (الدورة 24)، ضمن محور “الثالوث المحرّم في إبداع المرأة العربية”.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *