ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات في الدول الغربية؟

(ثقافات)

بمناسبة افتتاح معرض لندن للكتاب 2024:

ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات في الدول الغربية؟

مولود بن زادي – كاتب وباحث ومترجم مقيم في بريطانيا

 يُعدّ معرض الكتاب حدثًا هاما في عالم الأدب، إذ يجمع الناشرين والمؤلفين والوكلاء الأدبيين والقراء الشغوفين بالمطالعة للاحتفاء بجمالية اللغة وقوة الكلمة.  ومع اقتراب موعد انعقاد معرض لندن للكتاب لعام 2024، يتجدد السؤال الذي تردد طرحه في معارض كتب غربية دولية ماضية متعددة، كان آخرها معرض فرانكفورت للكتاب في نسخته ال75 في أكتوبر/تشرين الأوّل المنصرم: لما فشلت الكتب العربية في جذب اهتمام القراء الغربيين؟

 صعوبات الترجمة تعيق نجاح الروايات في الخارج

 لا تخلو اللقاءات الأدبية بين الناشرين العرب – بما في ذلك معارض الكتب – من مناقشة القضايا والتحديات التي تواجه مبيعات الكتب العربية خارج الوطن العربي. وغالبًا ما يُلقى اللوم على الترجمة باعتبارها همزة وصل بين اللغات ومرآة تعكس آداب الشعوب وثقافتها. إذ يجادل كثيرون بأن ندرة الترجمات الماهرة تصرف اهتمام القراء الغربيين عن المؤلفات العربية وتقلّص فرص نجاحها في الخارج.

وإن كنا لا نشكّ مطلقا في مدى تأثير الترجمات الضعيفة في جودة الكتب العربية المترجمة، لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن ننسب فشل الأدب العربي في جذب اهتمام القراء العالميين كلية إلى الترجمة. فالترجمة مرآة تعكس أفكارنا نمط تفكيرنا ولا يمكنها أن تصلح ما أفسده المؤلِّف. جدير بالذكر أيضا أنّ وكالات الترجمة المعتمدة  في الدول العربية والتي توظف مترجمين مؤهلين ومتمرسين تزداد انتشارا في الوطن العربي، ما يوفر خيارات واسعة للناشرين. فضلا عن ذلك، تتولى دار كتارا للنشر ترجمة ونشر الروايات الفائزة بجائزة كتارا المرموقة للرواية العربية، ولا نشك مطلقا في حرص هذه المؤسسة على اختيار مترجمين ذوي كفاءة عالية للقيام بالترجمة. ويمكن للناشرين العرب أيضًا الاستفادة من خدمات وكالات الترجمة العريقة التي تزخر بها الدول الغربية والتي توظف ناطقين أصليين باللغات الأوربية، ما لا يدع شك في ضمان جودة عالية. ولا شيء في الواقع يمنع الناشرين العرب من (التماس) مراجعة الترجمة قبل إصدار الروايات المترجمة وتسويقها عالميا. فثمة قضايا جوهرية تتجاوز إطار الترجمة تعيق انتشار الأدب العربي في الخارج لا يمكننا أن نغض أبصارنا عنها.

 

تراجع القراء واختيارات أدبية محدودة

 من العوامل المعيقة لنجاح الأدب العربي على المستوى العالمي صعوبة تحديد الكتب العربية القادرة على جذب الاهتمام في الخارج. السبب؟ قلة الخيارات الأدبية وتراجع عدد القراء، وهو ما أشار إليه الناشر المصري شريف بكر في معرض فرانكفورت للكتاب حيث قال إنه لا توجد صيغة لتحديد الكتب الأكثر مبيعا عالميا في الأدب العربي، مؤكدا ضرورة تركيز الناشرين على إصدار مجموعة متنوعة من الأعمال تغطي مواضيع مختلفة. وقال لصحيفة ذا ناشيونال: “أحيانا ينزع بعض الناشرين العرب للترويج لنوع معين من الكتب ثم تخصيص الكثير من الموارد له، بدلاً من محاولة التركيز على إصدار مجموعة متنوعة من الأعمال التي تغطي مواضيع مختلفة”.

 في الغرب، يتم استخدام مصادر مختلفة موثوقة لجمع بيانات المبيعات، مثل خدمات تتبعِ صناعة النشر، وسجلات مبيعات المكتبات، وتصنيفات بائعي التجزئة عبر الإنترنت، وقوائم الكتب الأكثر مبيعًا التي تجمعها الصحف والمجلات والمؤسسات الأدبية. يضاف إلى ذلك الاهتمام الكبير بالقراءة فيها، وهي كلها عوامل تساهم في زيادة المبيعات. في المقابل، يشهد الوطن العربي عزوفا كبيرا عن القراءة، ما أدى إلى إغلاق كثير من المكتبات واستبدالها بمطاعم ومقاهي ومراكز ألعاب وترفيه.  وأدى أيضًا إلى إغلاق دور النشر في العالم العربي وخارجه.  كانت آخر ضحية مكتبة الساقي الشهيرة، التي فتحت أبوابها في لندن عام 1978 لكنها أغلقت في 31 ديسمبر/كانون الأوّل 2022. قالت مديرة المكتبة سلوى غاسبار، “لقد تقلص حجم شراء المكتبات العربية في المملكة المتحدة…  وفقدنا جزءًا كبيرًا من قاعدة عملائنا نظرًا لتقلص عدد الزوار العرب من الخارج.  ثمة أيضًا مشكلة تتعلق بالأجيال، فالشباب لا يزورون المكتبة كثيرًا مثل آبائهم.”

 

 الأثر السلبي للجوائز الأدبية في الأدب العربي

 على الرغم من الفوائد العديدة التي تجلبها الجوائز الأدبية، بما في ذلك بروز الأسماء الأدبية والتقدير والدعم المالي، فقد كان لها مساوئ من جملتها صرف انتباه الكتاب عن القضايا الجوهرية وحصر الأدب في إطار محلي وإقليمي ضيق وتحديد الاختيارات الأدبية. فقد أصبح همّ المؤلفين إرضاء لجان التحكيم والفوز بالجوائز الإقليمية بدلاً من إرضاء الجماهير العالمية. حمى الجوائز الأدبية هذه فتحت أبواب عصر جديد للأدب العربي – عصر الجوائز الأدبية.  والجوائز سلاح ذو حدين: تستطيع أن تلهب نار الإبداع الأدبي وتخمد شعلته في الوقت ذاته. فقد استطاعت الجوائز الأدبية العربية أن ترفع الأقلام الأدبية إلى مقام النجومية لكنها ساهمت في حرمان الرواية العربية من تحقيق العالمية.  فالثيمات المختارة وإن كانت تروق أذواق الحكام إلاَّ أنها لا تلقى صدى لدى القراء خارج العالم العربي، الذين يجدون أنفسهم أمام خيارات أدبية واسعة من مختلف أنحاء العالم. فلا عجب لم ترْقَ الروايات الحائزة على جوائز مرموقة إلى تطلعات القراء خارج العالم العربي، ما يفسر قلة الطلب عليها. تعثر الرواية العربية في الخارج يدعونا حتما إلى إعادة مراجعة الثيمات توجيهها في طريق العالمية.

الصور النمطية والمفاهيم الخاطئة عن الأدب العربي

ويعزو المدافعون عن الرواية العربية عدم نجاحها في الخارج إلى الصور النمطية والمفاهيم الخاطئة المحيطة بالأدب العربي.  ويجادلون بأن إحدى الصور النمطية السائدة هي تركيز الأدب العربي على موضوعات دينية أو قضايا سياسية. يفندون ذلك مستشهدين بأعمال الكاتب المصري الشهير نجيب محفوظ، مشيدين برواية “أبناء حارتنا”، التي تتعمق في ثيمات الحب والهوية والتحديات المجتمعية، وتصوّر المجتمع المصري خارج السياقات الدينية والسياسية.

 لكن تجدر الإشارة إلى أن نجيب محفوظ عاش في عصر مختلف رفقة قامات أخرى مؤثرة، تركت بصماتها في سجل التاريخ.  انخرط هؤلاء في كتابة عفوية، وعبّروا عن أفكارهم وعواطفهم، ووصفوا تجاربهم، وصوروا المجتمع من حولهم.  ومن خلال ذلك، تناولوا ثيمات عالمية يرتبط بها القراء من كل أنحاء العالم.

 إن عام 1988، الذي شهد رحيل الأديب العالمي الشهير ميخائيل نعيمة، وفوز الوطن العربي بجائزة نوبل للآداب لأول مرة، يؤذن بفجر عهد جديد في تاريخ الأدب العربي يطبعه انبهار متزايد بالجوائز الأدبية، يمكن الإشارة إليه في الأجيال القادمة باسم “عصر الجوائز الأدبية”.  ويرجّح أن يستمر هذا الاتجاه إلى يوم يتحرر فيه المشهد الأدبي من جاذبية الجوائز الأدبية.

الفوارق الثقافية تؤدي إلى سوء الفهم

 ويشير هؤلاء إلى مفهوم خاطئ آخر ينص على أن الروايات العربية لا تلقى صدى في الخارج بحكم اختلاف المرجعيات الثقافية وأساليب الكتابة. فنراهم يعترضون على ذلك مشيرين إلى أعمال مترجمة حققت نجاحا خارج الديار على منوال رواية “حكاية زهرة” (1980) للكاتبة اللبنانية حنان الشيخ و”الاعتداء” للجزائري ياسمينة خضرا. الملفت للانتباه أن هذه الأعمال التي شقت طريقها إلى العالمية نادرة بحكم حجم العالم العربي ووفرة الكتاب النشطين فيه. والإشارة إلى ياسمينة خضرا لا تبدو في محلها بحكم أنه أقام في فرنسا وانغمس في الثقافة الغربية ويكتب بالفرنسية وبأسلوب أكثر انسجاما مع التقاليد الأدبية الغربية. مثالٌ آخر يؤكد أهمية تكييف كتاباتنا مع الثقافة الغربية نجاحُ “رباعيات” عمر الخيام في الغرب مقارنة بأعمال شرقية أخرى لا تحصى. فقد تصرّف الكاتب الأمريكي فيتسجيرالد كثيرا في الترجمة مُكيّفا النصوص الفارسية الأصلية لتناسب الأساليب والأذواق الغربية، وهو سر نجاحها.  وإنّي اليوم أساند هذا الموقف بحكم تجربتي في حقل الترجمة وبناءً على تجارب شخصية. لما نشرتُ اقتباسات من أعمالي العربية مترجمة إلى الإنكليزية، لم تجذب اهتماما يذكر.  في المقابل، عندما شاركت اقتباسات من رواية إنكليزية كتبتها وأنا أفكر بالإنكليزية وبأسلوب يفهمه المجتمع الغربي، ترددت الاقتباسات في مواقع وصحف وكتب باللغة الإنكليزية.  تدعونا هذه الأمثلة إلى إعادة تقييم أسلوب كتابتنا ونهجنا في التواصل مع الشعوب من حولنا لتحقيق تقارب وتفاهم وتآلف معها.

ضرورة إصلاح الأدب العربي

على الرغم من كل هذه التحديات، ليس من شك في أنّ الأدب العربي قادر على تجاوز العقبات والتقدم نحو العالمية. ولتحقيق ذلك نحتاج إلى إصلاحه وتوجيهه في الطريق الصحيح – بعيدًا عن هوس الجوائز الأدبية والثيمات المحلية، نحو ثيمات أكثر تنوعًا وعالمية يتردد صداها لدى الجماهير العالمية. فقد أحسنت صحيفة الغارديان تصوير حال الأدب العربي عام 2004 عندما قالت، “بغض النظر عن عدد الكتب المنشورة حقا في العالم العربي، فالسؤال الأكثر أهمية هو كم عدد الكتب التي تستحق القراءة؟ وما الذي تساهم به في مسار المعرفة المفيدة والفهم؟  أو انتشار أفكار جديدة؟ كل هذه الصفات ضرورية إذا أردنا أن يكون للإصلاح في العالم العربي أي أمل في النجاح.”

لم يتغير الكثير منذ إدلاء الصحيفة البريطانية بهذا البيان قبل عقدين من الزمن، ولا تزال الأسئلة التي أثارتها الغارديان قائمة تنتظر آذانا صاغية ومعالجة.

 إن التحديات التي يواجهها الأدب العربي لا ترجع أساسا إلى قضايا الترجمة وإنما إلى انحصار أدبنا في إطار إقليمي ضيق يطبعه التسابق للفوز بالجوائز بدلا من الفوز بقلوب الجماهير في عالمنا الواسع. وتُفسّر أيضا بالفروق الثقافية الدقيقة والتباينات في الهياكل السردية، ما يدعونا إلى بذل الجهود لاستكشاف سبل أفضل لجذب الجمهور العالمي باعتماد نهج أكثر مرونة وتكيفا مع الاجتهاد لفهم طريقة تفكير الشعوب المجاورة والتركيز على الثيمات والتجارب المشتركة التي يتردد صداها لدى جماهير من خلفيات ثقافية مختلفة، مما يؤدي بشكل فعال إلى سد الفجوة بين الثقافتين العربية والغربية.

* كاتب بريطاني من أصل جزائري

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *