رواية “زمن الغبار” للأديبة التونسية فاطمة بن محمود

(ثقافات)

رواية “زمن الغبار” لفاطمة بن محمود

مرارة الذاكرة في مواجهة وباء التكفير وثقافة الكراهية

 الغربي عمران – اليمن

 

 

تقديم الرواية:

رواية “زمن الغبار”، والصادرة  2023 عن دار زينب للطباعة والنشر، تونس. لصاحبتها فاطمة بن محمود شاعرة وناشطة ثقافية متميزة، لها مشاركات أدبية، قرأت لها بعض أعمالها الشعرية والقصصية والسردية، واليوم بين يدينا “زمن الغبار” وهي الرواية الثالثة لها بعد “امرأة في زمن الثورة” و”الملائكة لا تطير”.

 

لعبة التقسيم الزمني و دلالته:

 سأتجاوز العنوان رغم دلالاته العميقة، ولوحة الغلاف وجمالها، وكذلك العتبات الداخلية من الإهداء إلى التصدير، و أسلك طريقي إلى متن الرواية الذي استفزني من أول صفحة، وقد ظهر رئيس الدولة كما لو كان رئيس عصابة مع صبيانه في حديقة عامة. بداية من التبويب المختلف، إذ أن زمن الغبار تقع في مئتين وعشرين صفحة، قُسمت إلى ثلاثة فصول، الفصل الأول صفحة ونصف فقط، بينما الفصل الثاني امتد ليحتل المائتي صفحة، ليأتي الثالث في صفحة وبضعة أسطر مماثلا لمساح الفصل الأول. قُسم الفصل الثاني إلى خمسة وأربعين قسم كل عناوينها بصيغة واحدة عدا اختلاف الساعة والدقائق، أو المكان، فمثلا أول عنوان في الفصل الثاني “يوم الاثنين 29 جويلية 2023 الموافق ليوم 20 من شهر رمضان 1434هجري الثامنة صباحا و5 دق(بتوقيت سوريا) في مكان غير معلوم”. والعنوان ال45 من نفس الفصل “يوم الاثنين 29 جويلية 2013 الموافق ليوم 20 رمضان 1434 الساعة السادسة من مساء و25 دقيقة(بتوقيت تونس) في مصحة الهناء، غرفة رقم 216”. ذلك التبويب اللافت والعناوين المتطابقة تترك القارئ باحثا عن دلالتها، و حتما ستختلف قراءتها من قارئ إلى آخر، ويختلف تأويلها، إلا أن المغايرة تبرز بشكل جلي ليس من خلال ذلك التبويب، بل من خلال حضور الذاكرة كأداة لدى شخصيتي الرواية ربيع وأمه ثريا، في فضح أدوات السلطة حين تُخضع الوطن إلى ما يخدم أهدافها، تلك الأهداف التي تصبّ في مصلحة جماعة الإسلام السياسي. الأمر الآخر أن حيز وجود شخصيتي “زمن الغبار” ربيع وأمه ثريا لم يتجاوز اليوم الواحد، قضيا ساعاته على فراش المرض، هذا إذا استثنينا اليوم السابق لإصابتهما واليوم اللاحق لخروج ثريا من المصحة. إذا فشخصيتي الرواية يتذكران مجمل اﻷحداث التي عاشاها من على فراش الإصابة في يوم واحد، يوم 29 يوليو 2013 الموافق 20 رمضان 1434. ربيع برصاص معركة دولة الخلاف، وأمه ثريا بهراوة حرس رئيس الدولة، ليستخدما الذاكرة التي جعلتها بن محمود أبرز أدواتها في هذه الرواية الماتعة، ثريا بعد تلقيها ضربة بهراوة أحد حراس رئيس البلاد على رأسها أثناء محاولتها صارخة “أريد أن أخبر رئيس الدولة بكل شيء”، الذي لم يكن بعيدا وقد نزل لغرس شجرة في حديقة عامة بالعاصمة، تراه هناك “اقترب رئيس الدولة وبيده مجرفة نظيفة وأخذ يسوي التراب الناعم حول جذع الشجر ” لكنها فجأة بضربة قوية على رأسها تسقط أرضا فاقدة وعيها، ويتم نقلها إلى مصحة الهناء غرفة 216 ، “تتأرجح بين غيبوبة عميقة واستفاقة باهتة وتتمنى لو أنها نجحت في الوصول إلى رئيس الدولة وحدثته بحقيقة ما جرى”. في الوقت عينه كان ابنها ربيع بعيدا عنها وعن وطنه تونس، يرقد على سرير الإصابة برصاصة في معركة بين دولة الخلافة والقوات السورية أفقدته وعيه، داخل قبو معتم “عن يمينه لمح أحد الجرحى أتوا به منذ حين رجله مضمخ بدماء يابسة داخل حذاء عسكري بدا جديدا، فرشوا له ملاءة متسخة على الأرض، ألقي عليها بإهمال وهو في غيبوبة” يتناثر حوله عشرات الجرحى ينتظرون الموت. يصحو ربيع من غيبوبته مرددا “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة” وتارة “رب أكتبني عندك من الشهداء الصالحين”. منتظرا طبيبا قيل بأنه سيأتي لمعالجته لكنه لا يأتي، مستخدما ذاكرته، ليذهب بالقارئ إلى االماضي قبل أن يتعرض الى عملية غسل دماغ حولته من طالب يستعد لاختبارات الباكالوريا في بلده تونس إلى ارهابي يقتل الناس في الرقة بسوريا

الذاكرة شخصية رئيسية في الرواية: 

الرواية تعالج قضية انتشار عناصر تحكم عناصر الإسلام السياسي بالمجتمعات، والتغرير بالقصر والشباب من جميع أنحاء العالم للجهاد ونصرة الله، ضمن صفوف دولة الخلافة التي تعدهم بأنها ستحيل الوجود إلى جنة . بن محمود في هذه الرواية بدت مختلفة فنيا عن روايتها السابقة “الملائكة لا تطير” إذ جعلت من الذاكرة أداة رئيسة لسرد أحدث حيوات شخصياتها، ثريا أم ربيع تسافر بالقارئ إلى حكايات وحكايات ماضوية، وابن غادرها دون أن يخبرها ليموت تحت وطأة إهمال دولة الخلافة لمصابيها، بعد أن حولت قبو في مدينة الرقة مكانا لحشر من يصابوا في معاركها ضد السلطة السورية. وعدى عن محور الرواية، عالجت الرواية عدة قضايا منها: التفكك الأسري، فساد السلطة، معاناة المرأة في ظل غياب القوانين الداعمة لها… معتمدة على النقلات السريعة، بين حاضر شخصيتي الرواية وماضيهما. ربطت ما يدور في تونس وما يماثله في دولة الخلافة الإسلامية التي سيطرت على مساحات واسعة من العراق وسورية، معتمدين على جحافل من جميع أصقاع الأرض، لتسفك الدماء وتبيد النسل والحرث، بإبادة ذكور قرى كاملة، وسبى نساءها، كل ذلك باسم الله ونصرة له. وبتلك النقلات السريعة منحت بن محمود لروايتها مرونة وتشويق لذيذ. مطعمة الرواية بحكايات بعض الشخصيات مثل حكاية نادية الإيزيدية، وحكاية أمل حبيبة ربيع، التي أقنعها بمصاحبته للجهاد في دولة الخلافة. لتجد نفسها وسط مجتمع خليط من مجاهدات النكاح، وسبيا يباع في أسواق النخاسة. واقع مر صورته الكاتبة لشخصيات مجتمع روايتها. بأسماء تجاوزت الثلاثين شخصية، إضافة إلى من عرفوا بكنياتهم، نجحت الكاتبة الإمساك بخيوط تلك الشخصيات، وأن تتحكم بمسارات الأحداث بتمكن لافت، لتقدم نبض ذلك المجتمع بإيقاع متوازن حتى نهاية الرواية. جاعلة من الذاكرة أداة لنسج حيوات شخصياتها، لتقربها من قارئها، بل وتشركه في حياة ذلك المجتمع الذي يعيش ويلات التطرف السلفي في محاولة للتحكم به. في هذه الرواية تبرز سعة معرفة الكاتبة الدينية، من خلال كم الاستشهادات التي أوردتها على ألسنة شخصياتها، من أحاديث وآيات قرآنية وأقوال لفقهاء، امتلأت بها صفحات هذا العمل، من خلال حوارات ومجادلات تستعين بها شخصياتها،و بما يرونه داعما لتوجههم، وقد أوردت تلك الاستشهادات بشكل مجرد، دون أن تنتصر لطرف على الآخر، تاركة جدل لا ينتهي بين من يدعون لنصرة الله، ومن يرون أن الله لا يحتاج لمن ينصره بسفك الدم وامتهان الغلمان والصبايا. جانب أخر تجلت قدرة الكاتبة على تشويق القارئ، من خلال استمرار احتفاظها ببعض الغموض لأحداث وشخصيات روايتها، حين تقدم الشخصية بكنيتها، أو بأفعال غامضة، ليكتشفها القارئ بعد حين وضمن سياق أحداث لاحقة أن أبو شداد القائد لكتائب دولة الخلافة في سورية ما هو إلا رامي ابن إحدى الأسر الموسرة في تونس، وقد استطاع طواغيت مسجد الفتح التغرير به وبالعشرات من أمثاله على ترك مقاعد الدراسة والالتحاق بقتال الكفار والمشركين في سوريا والعراق، وهكذا شخصيات أخرى قدمتها للقارئ بكنياتها، لتعود إلى ماضي حيواتهم، ليعرف القارئ من تكون قبل تهريبها إلى ميادين الدم للدفاع عن الله، ما يجذب القارئ ويشوقه لمعرفة غموض تلك الشخصيات وبعض الأحداث التي كانت تحمل عدة أوجه حاضرا وماضيا، حتى نهاية العمل.

 

تصفية الحساب مع اﻻسلام السياسي في تونس:

 اتسمت الرواية بجرأة لا فتة حين سلطت الكاتبة الضوء على ما يدور في تونس بعد ثورة الربيع، من قبح توجه الجماعات المتطرفة، فاضحة انتشار عناصرها بين أوساط المجتمع، وقد على حزبهم سدة الحكم من خلال شراكة لأحزاب أخرى “الترويكا”، في مجتمع ظل يوصف بأكثر المجتمعات العربية رقيا في الفكر والقيم الإنسانية، لتظهره الرواية يغرق في واقع مرير بعد تغلغل تلك الجماعات وسحبه إلى حياة ماضي السلف، من يرون أن من سواهم كافر وجب العمل على هدايته واستتابته، أو قتال إن لم يستجيب لهم، أما بقية سكان الأرضي فهم أعداء الله في نظرهم تنطبق عليهم الآية الكريمة ” وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ” دعوة لقتالهم حتي إخضاعهم أو إبادتهم لو استطاعوا. ما يدلل على إيمان الكاتبة بقيم المساواة والحرية والعدالة، وأنها لا تكتب لمجرد الحكي والتسلية، بل لتقدم مبادئ ورؤى تؤمن بها، مع بذر ما يذكي التساؤلات في عقل القارئ، حول كثير من المفارقات تثير الإعجاب وتذكي التفكير، رواية لا يخرج منها القارئ مثلما دخلها، بل بحصيلة فكرية وقيمية، تغير وتضيف إلى محتواه العقلي والوجودي الكثير ولذلك أعتقد أن الرواية محاكمة أدبية ناجحة للإسلام السياسي في تونس

 

 وإذا انتقلنا إلى مسرح الأحداث، سنجده امتد من تونس إلى ليبيا فتركيا وحتى سوريا والعراق، وتتعدد الأمكنة في تلك البلدان، مثل الرقة، دوار النعيم. كوجو سنجار، تلعفر، الموصل، مدين، الطبقة. ثم اسطنبول، أنقرة في تركيا. وجامع الفتح، حي سيدي بو سعيد، ، شارع محمد الخامس، السليمانية، بنعروس، مونبليريز، حلق الوادي، وفي ليبيا درنة، طرابلس، وغيرها من الأحياء والمدن، جهد مضاعف بذلته الكاتبة ليشاركها القارئ تجولها المشوق، وهي تقرب البعيد في مشاهد وصفية دقيقة، ليعيش لحظات تلك الأحداث المشحونة بالمآسي، وخلق الأمل من أتونها، رغم تفشي وباء الفكر السلفي الذي يقود تلك المجتمعات إلى جحيم مجنون. جانب آخر، تمثل بثراء الرواية بهوامش مهمة، وقد أوردت ما يؤكد على وقوع تلك المآسي، من أبادة إلى استعباد إلى انتهاك الأعراض. لتأكد بتلك الهوامش بأن تلك الأحداث لم تكن محض خيال، بل حدثت في واقع مجتمعاتها، إذ وظفتها ضمن سياق الأحداث، مثل إبادة سكان قرى إيزيدية في العراق، وبيع نسائهم في أسواق نخاسة تشرف عليها دولة الخلافة. وكذلك تنصل حكومة الترويكا عن معاقبة من يهربون الشباب إلى سوريا، ومن تلك الهوامش: “رئيس الحكومة علي لعريض في حوار حصري لقناة فرانس 24…” معلنا تنصل سلطة الترويكا حول تهريب الشباب إلى جبهات القتال في سوريا. ثم ما قاله حسن البصري مفتيا حول الإخلاص للجماعة وتقديم الولاء على الأهل وأفراد الأسرة: “ان إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا لأن اهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة” وحديث الرسول الكريم “والذي نفسي بيده وددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل” الذي يستشهد به أعضاء تلك الجماعات في الحض على نصر الله والقتال في سبيله. وهكذا العديد من الهوامش المؤكدة لحقيقة ما حدث. ما يدل على سعة إطلاع الكاتبة، وبحثها الدقيق قبل كتابة هذا العمل.

 

موقف من “ثورة الربيع العربي” في تونس:

 تبقى أمر أخير، أثارته هذه الرواية وإن بشكل ضمني، فيما يتعلق بثورات الربيع العربي وأثره على مستقبل مجتمعاتها، بداية من تونس، حيث اشتعلت الشرارة الأولى، والتي رغم ما يخوضه الشعب في سبيل تجاوزه، إلا أن المجتمع التونسي نجح تجنب الدخول في مستنقع الانقسام والاحتراب، متجاوزة تجارب عربية مريرة، منها سقوط ليبيا واليمن والسودان في وحل الانقسامات والحروب مستعينة بقوى أجنبية، لتستمر معاناة تلك المجتمعات بين قتل وجوع وتشرد وخوف. تنتهي الرواية بفرار “أمل” ورفيقتها نادية الإيزيدية، ودخول ربيع في غيبوبة مميتة، تحمل جثته وترمى في حفرة جماعية كبقية ضحايا دولة الخلافة، وتستمر ثريا في هلوستها بعد خروجها من المصحة وإيصالها إلى بيتها، حيث تدعو ربيع لمشاركتها إفطار صومها ليوم رمضاني بعد أن أستمرت ممسكة طوال النهار رغم اصابتها، من خلال هذه الرواية تضع المؤلفة بن محمود “ثورة الربيع العربي” تحت مجهر الكتابة السردية وتفككها مبرزة ما أتت به هذه “الثورة” من ويلات وبذلك تكون روايتها شاهدة على مرحلة صعبة عاشتها تونس وشهادة أدبية قيّمة على جرئتها في الكتابة بعمق وبدقة

 

الكتابة اﻷدبية جرأة في المواجهة:

رواية “زمن الغبار” رواية جريئة تطرح العديد من الأسئلة، وتدفع  القارئ للبحث عن أجوبة، حول ما حدث وما يحدث، في تونس، التي اتخذتها نموذجا طبقت فيها جماعات الإسلام السياسي نهجها، وهي رسالة ضمنية إلى مجتمعاتنا، الوقوف في وجه هذا الوباء، وعدم السماح باستمرار فكر التطرف وثقافة التكفير والكراهية. فحين تكتب الكاتبة عن مجتمع تعيش فيه، إنما بذلك تراه نموذجا لتقدم رسالتها إلى مجتمعاتنا كافة، حول خطر يستشري مهددا لقيم الحرية والعدالة والمساواة.

 الرواية تستحق أن تصل إلى أبعد مدى في التوزيع والانتشار، وأن تأخذ حقها في الترجمة، كون ما تعالجه من قضايا إنسانية في غاية الأهمية تهم الإنسان في كل مكان وبكل لغة.

 

شاهد أيضاً

سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في أبوظبي للكتاب

(ثقافات) سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في جناح مؤسسة العويس بمعرض أبوظبي للكتاب   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *