عبد الجبّار الرّفاعي: أنا أقرأ إذن أنا موجود

(ثقافات)

عبد الجبّار الرّفاعي: أنا أقرأ إذن أنا موجود

  بروين حبيب

تفتنني دائما الكتب التي تؤلّف عن القراءة أو عن الكتابة وكأني في بحث دائم عن تفسير هذا الشغف اللامتناهي الذي يصيبنا نحن الكائنات الورقة لأكتشف أسراره، فكنت أجد متعة لا توصف مصحوبة بفوائد كثيرة حين أطالع ثلاثية ألبرتو منغويل «تاريخ القراءة» و«المكتبة في الليل» و«يوميات القراءة» أو أقرأ كتاب برنار بيفو «مهنة القراءة» لذلك سارعت إلى اقتناء كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة .. فصل من سيرة كاتب» للدكتور عبد الجبار الرفاعي والصادر قبل أشهر عن منشورات تكوين ودار الرافدين. ولم أكن قرأت للرفاعي سوى مقالات متفرقة كانت تصادفني أو مقالا مطولا عن زيارته لقونية مدينة جلال الدين الرومي حمل عنوان «في حضرة مولانا: سياحة في عالم المعنى».

أما كتابه هذا فهو سياحة فكرية يستحسنها كل مدمن لرائحة الورق من أمثالي، والتي لخصها منغويل مرة قائلا: «عندما قرأت في أحد الأيام أنّ سرفانتس كان يطالع – من فرط حبّه للقراءة- حتى قصاصات الورق المرمية على قارعة الطريق، أحسست بشعور جميل لأنني كنتُ أعرف ماذا يعني هذا».

يقع الكتاب في مئة وثمانين صفحة موزعة على مقدمة وثلاثة وعشرين فصلا، منها سبعة فصول عن القراءة، والبقية عن الكتابة. وقد تداخلت الأفكار بينهما أحيانا لارتباطهما العضوي. وإن كان المؤلف يرى القراءة ممتعة أكثر من الكتابة، لذلك وصفها في عنوانه ب«المسرات» المتعددة المختلفة، في حين أن الكتابة أشبه بالولادة، فهي مخاض عسير موجع، وبخاصة لمن يعتبر الكلمة مسؤولية.

وأول جمل الكتاب تعطينا مفتاح شخصية المؤلف وتلخص لنا فحوى كتابته حين يقول «أنا قارئ قبل كل شيء وبعد كل شيء، لم تمنحني القراءة إجازة ليوم واحد في حياتي. لم أجد نفسي خارج أسر القراءة، وأظن أني لن أتوقف ما دمتُ حيًا». فهذا القارئ المدمن المزمن الذي بدأت علاقته بالكتاب متأخرة نسبيا ما عدا الكتاب المدرسي لأنه ولد في بيئة فقيرة في الأهوار جنوبي العراق تعيش الكفاف في عائلة فلاحين، و«الفلاحون في ذلك الوقت لا يقرأون ولا يكتبون». حينما التقى وهو طالب في الثانوية بالجزء الأول من كتاب «لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث» للدكتور علي الوردي وبهرته لغة الكتاب الواضحة المباشرة والجرأة والشجاعة العقلية لمؤلفه بدأ رحلة مع القراءة لا تنتهي. واللافت للنظر أن ثاني كتاب فرض حضوره عليه كان «معالم في الطريق» لسيد قطب. وحين تخلص من فتنته أفرد فصلا كاملا لنقده بعنوان «الكتابة الإيديولوجية» إذ رآه نفقا مظلما ومتاهة خطيرة أضاعت أجيالا، وبعضهم لم يستطع الخروج منها طيلة حياته. أما ثالث ما جرّه إلى جنة القراءة فكانت مجلة العربي، التي لا ينكر فضلها عليه وعلى جيله، لكنه يأخذ عليها فيما بعد ثبات أبوابها واحتكار الكتابة فيها من قبل أقلام مكرسة لا تتبدل.

يعتبر الدكتور الرفاعي إدمانه للقراءة وقوعا في أسر الكتب، كما سمى احد فصوله. ويحلو لي أن أسميه التورط العاطفي مع الكتاب، فهو أشبه بعلاقة حب فيها شوق وعذاب.. ألا يصلح هذا الوصف لحبيب أو حبيبة إذا حذفنا لفظة كتاب.. «وجود الكتاب يشعرني بالأمن النفسي ويؤنسني حين أشعر بوحشة الوجود» بل فيه ما في الحب من وجع وأذى يعطي الرفاعي مثلا على ذلك بقوله «ما يخدعني من العناوين يؤذيني». هي عملية أنسنة الكتب، وصحبة فعلية مع كاتبيها بحضورهم الجسدي عبر الورق وحضورهم المعنوي بأفكارهم، فهم «كأنهم يتحدّثون إليه ويتحدث إليهم يضحكون فيضحك معهم، ويبكون فيبكي، يتألمون فيتألم يكتئبون فيكتئب».

ومن أحب شيئا استكثر من حضوره، لذلك أولع الدكتور عبد الجبار الرفاعي بتأسيس المكتبات أينما كان. لكن مصير مكتباته كان عاثرا، فالأولى التي كوّنها في النجف صودرت ونهبت، والثانية التي جمّع كتبها في الكويت كان نصيبها الحرق، بعد أن خشي مالك البيت من أن تؤدي إلى هلاكه، أما الثالثة فبيعت. ويصف حاله بعد البيع بهذه الجمل الموجعة «اكتأبتِ العائلة واكتأبت أنا، وكأنّ قدرنا الأبدي رثاء مكتباتنا.. عندما يتكرر فقدان المكتبة يغرق الإنسان بكابوس خسرانه كنوزه النادرة». ومآل مكتبات الأدباء والعلماء موضوع جدير بالتأمل بقدر ما فيه من الألم. فكم من مكتبة فيها نوادر صرف صاحبها في جمعها الوقت والمال رماها الورثة في المزبلة لأنها تشغل حيّزا من البيت هم بحاجته.

ورغم أن الرفاعي يرى أن «لا شيء أقسى مرارة على القارئ من ضياع كتب عاش معها وعاشت معه، وأنفق وقته في دراستها ومطالعتها» إلا أنه يلتمس العذر للورثة أو للأبناء. فعالمهم غير عالم آبائهم، وهم يقرؤون إلكترونيا ويفتقرون لحنين الآباء للورق. وهذا يستطرد بنا إلى فكرة أن الدكتور عبد الجبار الرفاعي الذي نشأ في بيئة تقليدية محافظة، وقضى سنوات طويلة من عمره دارسا ومدرسا للعلوم الدينية، وهو حاصل على ماجستير في علم الكلام ودكتوراه في الفلسفة الإسلامية، يملك مرونة فكرية متسامحة مع الجيل الجديد وآليات اكتسابه للمعرفة، فهو لا يرى الكتابَ الورقي الوسيلة الوحيدة للحصول على المعرفة، بل يرى أن الجيل الحالي قارئ من خلال التطبيقات على هاتفه الذكي ف«مفهوم القراءة يواكب تلك التطبيقات ويتكيف وفقا لها». ويدخل ضمن فعل القراءة مشاهدة الصور وسماع التسجيلات الصوتية ومتابعة الفيديو . وكلما اتسع مجال القراءة اتسعت بموازاته الكتابة بأنماطها وأوعيتها المتجددة.

يحفل كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة» بالكثير من التأملات حول فعل القراءة وأفكار الكاتب فهو ضد القراءة العشوائية، إذ ليس المهم كمية ما يقرأ الإنسان بل نوعيته، ويرى هذه القراءة غير الممنهجة تبذيرا للعمر بقراءة كتابات تفقر العقل كما عنون أحد فصوله ف«ما يفقر العقل ويشيع الجهل من الكتب أكثر بكثير مما يوقظ العقل ويبعث الوعي». وهو يرى أن كثيرا من الكتب الدينية تدخل ضمن الصّنف الأول لأنّ مؤلفيها بدعوى التعلّم الديني يرون أنهم يمتلكون الحق المقدس في التحدث بكثير من الثقة عن كل شيء يعرفونه ولا يعرفونه، ويكلفون طلابهم الفقراء لينتجوا لهم كتبا كثيرة «من ركام كلماتهم». ويضع ضمن تلك الكتب التي تفقر العقل وتشيع الجهل ما يندرج تحت مسميات «التنمية البشرية» و«تطوير الذات» و«علم الطاقة النفسية» بل يراها، حتى وإن كانت الأكثر مبيعا وانتشارا، مبنية على أوهام وأساطير وشعارات غير علمية تتلاعب بمشاعر الناس، ويعتبر كاتبيها منتحلي صفة فهم يمارسون الطب النفسي دون أن يتعلموه.

في القسم الأكبر من الكتاب فصول متعددة عن الكتابة فيقول عن نفسه بأنه يتهيب الكتابة كثيرا بل يخاف منها واللغة ترهقه فيها أكثر من الفكرة، كما أنه لا يمتلك طقوسا خاصة به للكتابة فلا قواعد ملزمة ولا عادات مستحكمة ولا أوقات صارمة دقيقة، بل طقسه الوحيد هو المراجعة المستمرة لما يكتب، فحتى عندما ينتهي من الكتاب ويصدر مطبوعا يبدي ويعيد فيه ليصبح كما وصفه «تتحول الطبعة إلى مسودة لطبعة لاحقة». ولأنه لم يتدرب على يدي أحد في تعلم الكتابة ولا يتقن تدريب أحد، فهو لا يؤمن أن يتدرب شخص ليصبح كاتبا حيث كتب «لا أعرف كاتبا عظيما ولد في مدارس تدريب ورش الكتابة» وإن كنت لا أتوافق معه تماما في هذه الفكرة فالكتابة صنعة، للموهبة دور فيها لكنْ للتعلم والتدريب والمران المتواصل دور آخر أكيد.

أسلوب الدكتور الرفاعي واضح مباشر مركّز فالكتابة عنده فن الحذف والاختزال وكثير من جمله تصلح للاقتباس مصبوبة في قالب حكمي مثل قوله: «الذكاء الفائق يمحو البراءة» و«رب قارئ ليس له من قراءته إلا النصب والتعب» و«عندما يُكتب الجرح يُشفى الإنسان» و «كلما احترقت مكتبة انطفأ شيء من نور العالم ». وفي الكتاب أيضا فصول عن الترجمة والكتابة والإيديولوجيا والكتابة في عصر الأنترنت والكتابة والقارئ ف«مسرات القراءة ومخاض الكتاب» يفتح آفاقا للتفكير أكثر مما يعطي إجابات يقينية، كُتبت فصوله بقلم قارئ كتب لخص حياته في هذه الكلمات «لو فرضت علي الأقدار أن أختار العيش مع الكتب أو البشر لاخترت العيش مع الكتب».

 

د. بروين حبيب، شاعرة وإعلامية من البحرين.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *