(ثقافات)
مع مؤنس الرزاز
دون كيشوت الأردني: اعترافات حول حياة مؤجلة
محمود منير
أمضي، اليوم، برفقة دون كيشوت الأردني، أو دون الكياشطة، كما يحلو لمؤنس الرزاز أن يلقّب بطل روايته “جمعة القفاري: يوميات نكرة”، متتبعاً مع حلول الذكرى الثانية عشرة لرحيله سيرة الاغتراب والاستلاب اللذين استحوذا على تداعياته، وعمّان/ “البلد الصغير” التي ازدحمت أمكنتها وأحداثها وعديد من شخوصها الأحياء والأموات في عمله، لكنها لم تتماسك في سرد محكم عن حاضرنا، وبقيت تتفلت اعترافاتٍ حول حياة مؤجلة أو مأسورة لذكريات يسكنها المثال.
ابتدع مؤنس “دون كيشوط”ـه العمّاني، الذي يقّر بانه لا يعرف جميع أحياء مدينته، بشرقها وغربها، ولا بقية جغرافيا البلد، و”ظلّ مع الشيوخ والعجائز يلازمون بيوتهم القديمة في اللويبدة وجبل عمان القديم وجبل الحسين”، في إشارة تؤكد عدم رغبته في الخروج من الماضي، غير أن دون كيشوط لابدّ له أن يجترح رفيقاً محاكياً “سانشو” في رائعة ثربانتس الشهيرة “دون كيخوته”، ليحاوره حول اغترابات واستلاباته التي تحاصر راهنه المعيش، ما استلزم خلق شخصية “كثير الغلبة”.
بين ثربانتس والرزاز فوارق عدّة؛ فالأول أراد أن ينقلب على عصر الفروسية والفرسان الذي أسَر مرحلة بأكملها وفرض سماته ونواميسه عليها وعلى مجمل ما كُتب – حينها- من أدب وإبداع، لذلك قرر دون كيشوت محاربة طواحين الهواء في تعبير صارخ عن رفضه للغايات “الكبرى”، التي يختلقها الفرسان لمعاركهم المدفوعة بالمال أو حب الشهرة، بينما لم يستطع الثاني (مؤنس) أن يوضّح – لقارئه على الأقل- ما الذي يطمح له دون كيشوته، وظلّت تقييماته للماضي والحاضر، وتخييلاته حول المستقبل محكومة بمزاج طفلٍ يعترض على كل شيء، ولا يٌفصح عن رغبته بأمر واحد.
مقاربة أخرى يفرضها كل من “سانشو” و”كثير الغلبة”، فالأول رغم ضعف شخصيته إلاّ أنه كان يُمثّل صوت الحكمة والعقل عبر تحذيراته المتكررة لصديقه النبيل من عواقب تصرفاته غير المسؤولة، وبذلك يعكس “دون كيشوت” و”سانشو” الصراع الوجودي الدائم وتحولاته التي يعيشها كل فرد في هذا الكون. وقد اتكأ عليهما مؤنس في بناء الشخصيتين الرئيسيتين في “جمعة القفاري” للتعبير عن اغترابه عن اللحظة الراهنة والتغيرات التي ألمت بدنياه ومدينته، لكن التباين الشاسع بين القضايا والأفكار التي تطرحهما كلتا الروايتين واختلاف أجوائهما، يجعلنا إزاء تقابلٍ غير متكافئ، فـ”كثير الغلبة” هو أحد انفصامات “جمعة”، ولا يتوانى عن ارتكاب حماقاته الخاصة، كما أن حواراته مع صاحبه تقتصر حول فشل الأخير في الزواج والعمل وعلاقاته العامة وتمسكّه بعبثه الطفولي المزمن.
لا يُغفل قارئ مؤنس الرزاز، في عدد من أعماله، رسمه المستعجل – نسبياً – لشخصياته، والحوار الذي يديره بينها، وبنية السرد وفنياته، وتبدو رواية “جمعة القفاري” مثالاً حيّاً يعكس تعلّق الكاتب بكل تلك الغرائبية التي تحيط به، وتورطه الكامل بالكتابة عنها، حيث تحتشد روايته بأسماء كتّاب وصحافيين وفنانين ومطربين ورياضيين معاصرين، إضافة إلى تناول الأحداث الكبيرة والصغيرة التي تقع في عمّان في نهاية الثمانينيات من القرن الفائت.
طبيعة الكتابة التي اختارها صاحب “اعترافات كاتم صوت”، ويغلب عليها اليوميات، وبناء المشاهد القصيرة، والحوارات السريعة، والبوح الصريح بمشاعره وأفكاره وتقييمه لما يجري من حوله، وذهابه إلى اللغة الصحافية المبسطة، أفضت إلى عملٍ روائي لا يكترث بالتحليل العميق والنبش في “البلد الصغير” الذي فصّل مؤنس عمله على قياسه، وربما دفعه ذلك إلى أن يبعث أوراقه من دون تدقيق ومراجعة إلى ناشره حتى تتجمع بين دفتي كِتاب، في نهاية المطاف، واللجوء إلى حيلة سردية أوقع القارئ بها – أو كاد- بأن “جمعة” يشتغل على كتابة رواية بجزءين تحمل عنواني: “نعمان العموني: الغراميات”، و”نعمان العموني: المغامرات والاستكشافات”.
“جمعة” يفترض نفسه “نكرةّ في عصر لم يعد فيه عمالقة”، ولا يخلص إلى أسباب وجيهة وراء عجزه عن التكيف والتأقلم مع ذاته والمحيط، فهو “لا يعرف سعر علبة السمنة او كيلو اللحم، ولا يتقن إصلاح ما ينكسر بدءاً من ساق الطاولة، وانتهاء بقلب حبيب”، وقد تنطبق هذه المواصفات على أي كاتب عاش “عصر العمالقة”، لكن السؤال الأعمق يدور حول تصنيف العصور ورجاله، إذ يظهر جمعة مشدوداً إلى وهم النستالجيا (الحنين إلى الماضي)، ولا يجد تفسيراً واحداً مقنعاً لحنينه المرضي.
ولا يعثر “جمعة”، كذلك، على تفسيرات تقنعه هو ابتداءاً حول سبب إخفاقاته المتكررة في العمل والزواج والتأقلم مع محيطه، ولتبرير ذلك ينسحب من واقعه محتمياً بإطلاقه توصيفات وأحكام ساخرة تطال جميع الشخصيات والمقولات التي تُجمع على فشله الدائم، غير أنها تفيض على حواف اعترافاته/ ثرثراته التي لا تنتهي، وتتمثل على نحو كاريكاتوري، أحياناً، كما يصوّره مؤنس في “مشهد حول صراع على السلطة بين جمعة وصبي الجزّار”.
المشهد المذكور يروي كيف لبّى جمعة مناشدة جاره الجزّار لـ”يحلّ محله في الحفاظ على أمن واستقرار المحل”، فأشعره ذلك باعتزاز وزهو وهو يمسك الساطور، في إحالة إلى رمح دون كيشوت الشهير، ويحرّكه أمام الزبائن وصبي الجزار، وسرعان ما تنهار سلطته بمجرد أن يطلب أحدهم أن يخلط لحم العجل بالخروف ويفرمه للمحشي، وحين أراد الاستعانة بالصبي – الذي خضع لنفوذه بعض الوقت- تبيّن أنه مجرد “مرمطون” ولا يتقن الصنعة مثله، وشعَر جمعة أن نظرات الصبي الساخرة قد عرّته على حقيقته.
وبقدر ما تبدو استعارة مؤنس الساخرة للسلطة وعلاقاتها مبسطة وفائضة عن الحاجة، فإنها تلفت إلى مسألة أبعد شغلت بال النقّاد وهم يقرؤون رواياته مدلليين على ثنائيات: الخوف/ كسر السلطة، والصمت/ الكلام في ثناياها، وتبرز مقحمة في أغلب دراساتهم بتأثير علاقة مؤنس بوالده منيف الذي قاوم السلطة بمبادئه وبدا مسار حياته ومصيره تراجيدياً، ما أورث الابن صدمة حالت دون انخراطه وعيشه الحياة بطبيعية، في رغبة منه – لم ينج منها حتى بعد اقترابه من السلطة وشخوصها- بالاحتماء بطفولته العابثة ورفضه المطلق للتعامل مع الأسباب الواقعية التي تقف خلف الوقائع والأحداث من حوله.
لماذا “جمعة القفاري”؟ هو السؤال ذاته الذي كتبه مؤنس على غلاف روايته نفسها: من هو جمعة القفاري؟ هل هو صعلوك نبيل؟ أم إنه دون كيشوت هذا العصر؟ لماذا يعجز عن عقد معاهدة صلح بينه وبين نفسه…. الخ، لعلّي أقترح في هذا المقالة إجابة أولية تكمن في نفي الخيارين الذي قدّمهما مؤنس وافتراض قراءات جديدة له تبتعد عن الأسطرة وتبحث في كتابته: شكلاً ومضموناً خارج الالتباسات التي تطوّق شخصيته وسيرتها.
مؤنس/ جمعة الطفل انتحل أقنعة كثيرة ليس “دون كيشوط”، أو “دون الكياشطة”، إلاّ إحداها، هرباً من مواجهة حقيقية قد تُفسد عليه تشبثه بـ”زمن العمالقة”، كما تخيله، وتُخرّب عليه المكان والمكانة التي فضّل المكوث بها، وطبعت علاقاته مع الأصدقاء والخصوم في آن، وكلما انزاح قناعه، أو سقط، يخرج إلى الدنيا مادّاً لسان الطفل الصغير في مواجهة العالم الكبير، مختبئاً من كل ما يستعصي عليه فهمه.
• ورقة قدّمت في ندوة استذكارية لمؤنس الرزاز قبل عشر سنوات
مرتبط
إقرأ أيضاً
راهنيّة مؤنس الرزازفخري صالح *يبدو عمل الروائي الصديق الراحل مؤنس الرزاز راهناً في هذه المرحلة من حياة…
-
مع النّهْر
*محمد الزهراويخاص ( ثقافات )إلى (سَبو)وتِلْك الدردارَةُالحزينَة..أُمّي الكَوْنِيّةُ.تشْكو لكَالأحزابَ وتُداريدمْعَتَها!!تبَلّدَتِ الْفُصولُوقَفَتْ عَن دَوَرانِهافغاضَ الْمَاءُتَراجَعَ الظّلُّوأمْحَلَتِ…