محمد مقدادي: المشهد الفلسطيني يُبشّر بالانعتاق
حاوره : أحمد طملية
لعل أكثر ما يثير الاهتمام في سيرة الشاعر والأستاذ الأكاديمي د. محمد مقدادي (مواليد 1952) رئاسته لرابطة الكتاب الأردنيين فرع محافظة إربد دورات عدة (1986 ـ 1988)، و(2001 ـ 2006). وإربد، لمن لا يعرفها، هي المحافظة الأردنية الأولى، بعد العاصمة عمان، من حيث الكثافة السكانية، وتنوع سكانها، وحضورها الثقافي. وهذا يدل على الإجماع الذي يحظى به مقدادي بين مثقفي شمال الأردن. والأهم أن مبعث هذا الإجماع يعود إلى شخصية مقدادي، المعروف عنه الترفع عن الصغائر، وبقاء قلبه مفتوحًا لكل جديد.
لو لم يكن مقدادي شاعرًا لكان مزارعًا بالتأكيد، فهو ابن الأرض، تشرّب حبها من قرية “بيت إيدس” في إربد، مسقط رأسه، وما دراسته وحصوله على دكتوراة في الاقتصاد الزراعي والدولي من الولايات المتحدة إلا تقربًا من الأرض التي يحبها، وسعيه لخدمتها.
له ما يزيد على 30 مؤلفًا، في الفكر والشعر، منها “على أي حال أحبك”، و”على قلة الياسمين”، و”أكذوبة الصراع الحضاري”. ويُعدُّ كتابه الأخير، مع كتاب “الولايات المتحدة والحكمة الغائبة”، مرجعين من مراجع طلبة العلوم السياسية في جامعتي الأردنية واليرموك. كما اختير مقدادي الشخصية المكرمة لمهرجان عرار في دورته الحادية عشرة 2022. ترجمت بعض أعماله الشعرية إلى الإنكليزية، والصينية، والسلافية، والبولندية، والتركية، والروسية، والإسبانية. وهو ثاني شاعر عربي يتم تكريمه في أيام سيراييفو الثقافية 2010.
في شعره، تلمس الميل إلى الحب، والأرض، والاعتداد بالنفس:
فوق هذا التراب أنا…
تحت هذا التراب أنا…
ما ابتدعت لكم وطنًا في خيالي…
ولا لغة للكلام الطري…
لأفرش للمارقين ظلالي…
وللسارقين دمي وغلالي…
كانت الفكرة من محاورته الحديث عن الشعر والأرض، وكيف تسري القصيدة في الروح قبل أن تلج إلى النور، وكيف أتت القصيدة لفلاح كان كل همه الأرض وما في الأرض. لكن، المشهد في فلسطين ينزف: شاب يحمل جثة شقيقه الشهيد، فيما قدماه موغلة بماء المطر الغزير. امرأة تحيط أولادها بعرض حضنها لعلها تعطيهم دفئًا استحال، في ظل جو قارص البرودة. رجل يحمل ابنه على كتفيه، ويقسم أن لا يعود إلا بكسرة خبز، وجرعة ماء.
كانت فكرة الحوار كذلك، لكن مقدادي، ابن فلسطين، ابن الأردن، العربي، صعب أن تأخذه بعيدًا عن ما يشغله، فكان من الطبيعي أن يذهب الحوار كله إلى فلسطين، وإلى ما يقترف بحق أهل غزة الآن، فحتى لو لم أسأل أنا عن فلسطين، كان سوف يتحدث هو عن فلسطين.
(*) فلسطين تنزف من جديد. ماذا تقول؟
منذ خمسة وسبعين عامًا والجرح الفلسطيني بوابة للنزف الموصول، أي منذ الخيمة الأولى لأول عائلة فلسطينية أجبرت على الوقوف بين خيارين، الموت، أو الرحيل، ومنذ أول عصابة استيطانية حطّت على أرض فلسطين معبأة بمحمولاتها من الأساطير الكاذبة، ومدججة بحقدها الأسود، والحالة الفلسطينية مشتعلة بالدم والبارود. لكن الحالة الغزّاويّة الراهنة تشكل مفترقًا حقيقيًا للصراع الممتد بين أصحاب الأرض وقوى الاحتلال التي لا تريد أن ترى أحدًا من الفلسطينيِّين غير راضخ ومستسلم لسياساتها الإحلالية، أو متماهيًا مع تطلعاتها في الهيمنة المطلقة على الأرض والقرار الفلسطينيَّين.
النزيف الذي نشهده في هذه المواجهة الرّاهنة ليس آخر النزيف الفلسطيني، الذي لن يتوقف، حتى تتحرر الأرض ويعيش الفلسطينيون أحرارًا مثل كل شعوب الأرض على كامل التراب الفلسطيني المُغتصب.
(*) كيف ترى وجه العالم في ظل المذبحة في غزة؟
منذ أن اعتلت الامبريالية عرش العالم، وأصبح “وحيد القرن الأميركي” خصمًا وحكمًا في قضايا الكون، تراجعت كل قيم الحق والعدالة، وأسفر أعداء الإنسانية عن وجوههم القميئة، واستخدموا كل ما ابتكروه من أدوات الترهيب والترغيب لإحكام السيطرة على البشرية، وترويض كل ما كان عصيّا على التدجين والمداهنة. والعالم الذي احتكم لشرعية البغي وحق القوة، انخرط في ممالأة هذه القوى التي تنطلق من عقيدة الاستكبار وعقدة التميّز العرقي التي تقودها لاقتراف أشد أنواع التنكيل بالشعوب المستهدفة، تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم الليبرالية التي أحالت الكائن البشري إلى ترس في آلتها الانتاجية والاستهلاكية، ومادة رخيصة في إعلامها الذي يروِّج لكلّ فيروساتها المرضيَّة.
الإعلام الذي يصمّ الآذان ويلغي قدرة المتلقّي على التمييز قاد البشرية إلى حالة من العمى، وتسبب في انتكاسة الوعي الجمعي. وهو ما شاهدناه في الأيام الأولى من هذه المواجهة الدامية، حيث تمّ تجنيد العالم الرسمي لمناهضة المقاومة الفلسطينية التي تعمل على إنجاز مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، وتدفع مع شعبها كل هذه الأثمان الباهظة من الضحايا والدمار في مذبحة مفتوحة على كل احتمالات التهجير أو الفناء.
دعنا، لغايات الإنصاف والموضوعية، نقسِّم العالم إلى عالمين: عالم الحاكمين، وعالم المحكومين. عالم الحاكمين والولاة، هو عالم في أغلبه عفِنٌ وانتهازيّ ومأجور، يركب كل موجة تقود إلى ضبط إيقاع عالم المحكومين من الشعوب التي يتعرض أغلبها للتضليل والخداع والتوجيه الممنهج، وإذا لم تبدِ الاستجابة المأمولة فإنها تكون عرضة للتنكيل والاضطهاد والتجويع والحصار، وربما للغزو العسكري لتنخرط في عداد القطعان المُذعنة للسياسات التي تمليها عليها الطّغم الحاكمة، سواء من القَتَلة، أو من يقوم بأدوارهم من الأتباع والمتحالفين الذين يعقدون اتفاقيات أزليّة مع أقانيم الشرّ والبغي والطُّغيان.
لم تستطع الملايين التي غصّت بها شوارع عواصم العالم ومدنه أن توقف حملة الإبادة التي شنّها “بوش الصغير” على العراق وأفغانستان، ولم تستطع ـ بعد ـ أضعاف تلك الأعداد، من إنقاذ الشعب الفلسطيني من براثن الموت الذي يبثّه كيان الاغتصاب في كل مشفى ومدرسة، وتحت كل زيتونة وخيمة على أرض فلسطين مدعومًا من قوى الإبادة الاستعمارية الكبرى المنقادة للولايات المتحدة.
أكاد لا أرى إلا عالمًا مواربًا وكاذبًا يمتلك من الزّيف والمراءات ما يدفع كل حرٍّ لإعلان براءته ممّا فيه.
(*) تقول: لا دين لمجرم، إلى أي مدى يرتبط النضال بالإيمان؟
في رأيي، أن الإيمان هو قيمة نضالية عليا، بل هي أعلى درجات الإيمان على الإطلاق، وقد جعل الإسلام “الجهاد” ذروة سامية. وفي رأيي، أيضًا، أن الإيمان لا يكتمل من غير أن يقود المؤمنون فكرًا نضاليًا ضد كل قوى البغي والطغيان والتجبُّر، ومن لا يقوده إيمانه إلى جادّة الحق ونُصرةِ أصحابه، والوقوف بصلابة مع المعذّبين في الأرض ومظلوميها، عليه أن يراجع حالته الإيمانية المنقوصة.
وأنا هنا لا أتحدث عن تأويلات بشرية لمفهوم العلاقة بين “الإيمان والنضال” الذي قد يقود إلى حالة من التطرف الأعمى ـ مثلما حدث في غير مكان ـ لأنني أعتقد أن مثل هذا التطرف سيخدم الأعداء ويشكل ضغطًا هائلًا على الحياة المدنية للشعوب المتطلّعة للسلام والتنمية، مستذكرًا هنا ما قاله الرئيس الفرنسي شيراك ذات يوم ” إن التطرّفَ أقربُ إلينا”، وهو قول يلخّص كل الأدوات والقوى التي تصنع التطرف لقطع فكرة ارتباط الإيمان الحقيقي بالنضال الإنساني المشروع.
(*) أنت شاعر أردني، فإلى أي مدى أخذتك فلسطين؟
سأترك الحديث المنبريّ المعتاد عن العلاقة الأردنية الفلسطينية لمن يستهويه الأمر، لأذهب إلى القول بأن فلسطين قد أخذتني إلى فلسطينيّتي بفطرية أصيلة، حافظَت على بكارتها، ولم يمسها ما يشوبها من أية إفرازات أو تشوّهات حاولت صنعها وتكريسها ظروف سياسية طارئة، ولم تُعكِّر صفوها اختلافات عائلية محضة، لتظل فلسطين بوصلتي فكرًا وشعرًا وسلوكًا، وأبقتني على إيماني العميق بأن لا أردن، بل لا أمة، من غير فلسطين حرّة عربية مُطهّرة من هذا الرّجس الشيطاني الذي أصابها.
(*) ماذا تكتب الآن؟ ما الذي يشغلك على الصعيد الإبداعي؟
هذا المشهد الدموي الذي ـ وإن بلغت فداحته ما بلغت ـ يبشرني بالنصر والانعتاق، وينطوي على فرصة تاريخية للخلاص البشري، ويقدم ملامح شاملة للتحرر العالمي من ربقة القوى التي تحكّمت طويلًا في مفاصل الحياة الإنسانية، وعملت على إسالة المفاهيم الجوهرية، وتمييع القيم النبيلة، وكبّلت الحالة الإبداعية وَمَوْسَقَتْها على النحو الذي يفي بأغراضها النفعية التي لا خلود لها، ولا تقدم ـ إن قدّمت شيئًا ـ سوى حالة من الإبهار المُستنفِد للطاقات الإيجابية في هذه السوق العالمية المأخوذة بالبهرجة والارتزاق.
تُلِحُّ الكتابةُ عليّ في هذه الآونة، لكنني لا أستجيبُ لنداءاتها، فالدم والموت والدموع الساخنة والأشلاء، والصراخ الذي يملأ فضاءات المتاهة العربية والإنسانية، تدفعني إلى مراجعة ما كتبته، وتحليل كل ما قلته واستمعت إليه، كي أجيب على السؤال الأشمل: ما جدوى الكتابة؟ محتفظًا بإيماني المطلق بأن كلَّ ظلمٍ إلى زوال، وكل عتمةٍ إلى انحسار، وأن الباطل سيشق طريقه إلى زوايا هزيمته واندحاره.
(*) هل خدمت القضية الفلسطينية الشعرَ، أم وجّهته نحو المباشرة على طريقة ما يطلبه المستمعون؟
الذين كتبوا وفق ما يطلبه المستمعون ذهبوا ولم يتبقّ مما كتبوا شيئًا في ذاكرة الشعوب، لأن الذي يبقى هو ما يتبنى قيم الحياة، ويملأ الفراغات بالمفهومات الراقية للحب والحياة، ويطرح الأسئلة التي لا يجرؤ غيره على طرحها، ويجابه جحافل الظلام بأسلحته من الضوء المُفضي إلى مواطن الحق والحقيقة.
إنني أكتب لأُعبِّر عن ضميري في الحاضر المتيقّظ، وأخاطب الضمائر الغائبة، أو المُغيّبة، وكتابتي محاولة للإسهام في رفع سويّة الوعي البشري بالحقيقة الإنسانية التي أخشى عليها من الانحراف والسقوط في بؤر الفساد والرداءة.
أكتب انتصارًا للرسالة السامية التي بغيرها لا يكون الكائن البشري إنسانًا، وأعني بها رسالة الإعمار التكليفية وفقًا لقواعد الحق والعدل والخيريّة المحدَّدة بما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
مثل هذه الكتابة تمثل بالنسبة لي انتصارًا لقضايا الإنسان، وتبجيلًا لإنسانيته المهدورة في غير مكان، بصرف النظر عن جنسه وعرقه ومعتقده وانتماءاته، وأرى نفسي ـ من وجهة نظري على الأقل ـ سليل ثقافة المقاومة التي ترابط في خندق الحق ـ مهما قلَّ أنصاره، أو تواضعت عدّتُه، أو وَهَنَت شوكتُه ـ وتُجابِه الباطل مهما سطا سيفُهُ، أو تعاظمت عدّتُه وعتادُه، أو استكبرت سلطته، وتمادت في أنماط قهرها وأدوات إبادتها، وبلغت همجيَّتُها وشراسة أتباعها.
إن الكاتب يخوض معركة الصورة المشوَّهة، ومعركة الرواية التاريخية ـ الدينية الزائفة، ونتعامل مع شذّاذ الأرض الذين زوَّروا أسماءنا ودماءنا ورملنا وجرحنا، وهي حرب ضروس تستوجب أن يتسلح الكاتب بكل ما يمكنه من أدوات معرفية، ذهنية ونفسية، وأن يطوِّر مهاراته فنيًا ولغويًا لإبلاغ رسالته الإبداعية التنويرية المتناسبة مع مختلف مستويات الوعي في المجتمع الذي ينتمي إليه، مما قد يقوده أحيانًا إلى المباشرة، ولكن عليه ـ عندها ـ أن يكون حذرًا في اختياراته، كي لا يقع في فخِّ “الطَّفو على السطح”، أو الاكتفاء بالمكوث على حافة النصّ المُنجز.
-
عن ضفة ثالثة