تعقُّب آثار غاستون باشلار

تعقُّب آثار غاستون باشلار 

               سعيد بوخليط

 

 

منذ سنوات،أصدرتُ خلال فترات متباعدة أو متقاربة،مجموعة دراسات،تأليفا و ترجمة، خصَّصْتُها لمنجز غاستون باشلار(1) باعث رؤى النقد الأدبي الجديد وكذا الشعرية الحديثة،لكن قبل ذلك،ملهم مرتكزات إبستمولوجيا جديدة تستشرف بنيات،منظومات، مناهج، وأسس العقل العلمي المعاصر،حسب جدلية ذهنية خلاَّقة؛ تشتغل في الآن ذاته على علاقته بذاته ومختلف التطورات المعرفية والمنهجية التي تشهدها حقول أخرى.

رغم ذلك،لازال الطريق طويلا،الأوراش ملحَّة كثيرا،قدر تركيبها البنيوي،تداخلها النظري،تحاورها المفهومي اللانهائي،مما يستدعي باستمرار،اجتهادا ومثابرة،وتركيزا متصوِّفا للغاية،قصد سبر أغوار آليات التمرُّس على الإحاطة ببعض ذخائر باشلار صاحب مشروعيْ إبستمولوجيا النفي البنَّاءة و ظاهراتية الصورة الشعرية الملهمة.

بعد انقضاء عقدين من الزمان تقريبا،على تاريخ بداية اكتشافي لعتبات شعرية باشلار،اللَّبنة المفصلية لتراث الإنسانية،ليس فقط خلال القرن العشرين،بل أساسا ارتباطا بسياقات تاريخ الفكر البشري.أقول،بأنِّي أشعر صدقا خلال لحظات عدَّة بالعجز ضمن طيات الحميمة التي صارت بحكم الزمان تربطني بعناوين الجمالية الباشلارية.

لقد أرسى غاستون باشلار معالم أفق فكري هائل،مغاير جذريا للمتبلوِرِ سلفا منذ العقلانية الديكارتية إبَّان القرن السابع عشر،غاية التحوُّلات العلمية بداية القرن العشرين، في مجالات النشاط الإشعاعي،ميكانيكا الكمِّ وكذا التموُّجية،الهندسة اللاأقليدية، الفيزياء النسبية، الكهرومغناطيسية، والتلغراف.

قطائع علمية نوعية،استوعب باشلار طبيعتها وكنهها جيدا، بمجمل حدوس ذهنه وخياله وشفافية فطرته، فأبدع حقا تأويلات خصبة تعقَّبَت آثار النَّفَس العميق لمختلف تلك التجليات الثورية،هكذا تبلورت تيمات خطاب تفسيري قَطَعَ تماما حبل الودِّ مع الأنساق التقليدية :

النفي، العائق، القطيعة، العقلانية التطبيقية، انفتاح العلوم، الحاضِرة العلمية، فلسفات العلوم المتجدِّدة، الحقل الاجرائي،إبستمولوجيا الخطأ،حقيقة الخطأ، أفق الاحتمال،الخيال في ذاته،هرمونات الخيال،خيال العقل،ذكاء الخيال،حداثة الصورة الشعرية وأولويتها، ديناميكية الصورة،متعة القراءة، موضوعات النص الأدبي البنيوية،العناصر الكونية الأربعة، خيالات الأنماط المثالية، لحظية الزمان،إلخ.

لغة معجمية مختلفة،غيَّرت مجرى الثوابت المعرفية المعهودة،استدعت منظورات أخرى وُصِفت باللاديكارتية،أعادت النظر مبدئيا في سُلَط البديهي،المسلَّم به،القاعدة الواضحة،بحيث صارت جلّ عمليات العقل قوامها الجدل والسجال،لذلك اتَّسمت سواء الفلسفة العلمية الباشلارية أو قراءاته الأدبية والفنية،بالانفتاح الدائم،ثم رفض الجاهز كلِّيا،المنغلق،الثابت، الماقبلي،كي يراهن على اللامكتمل،التطور،اللامتناهي،بالاشتغال الآني على الآن والهنا.

زاوجت مشاعر باشلار،بإنصاف لايضاهى،بين عشق الرياضيات باعتبارها أقصى حدود للعقلانية،ثم القصيدة،بناء على مبرِّر قويٍّ وتصور متكامل يتجلَّى في قدرة الإنسان على الحلم والتخيُّل.بالتالي،مثلما أبان باشلار على أستاذية فيما يتعلق بدقائق العلوم الدقيقة، فقد كان بذات الكفاءة أستاذا مميَّزا للدرس الأدبي،عندما انصبت بشغف قراءاته الحالمة على متون جمالية ل : رامبو، بودلير، إدغار آلان بو،هولدرلين، بلزاك، فلوبير، ريلكه، بول فاليري، تشارلز سوينبرن، سانت بوف، ديدرو، ألبير بيغان، هنري بوسكو، لوي غيوم، رونيه شار، فان غوغ، كافكا، فيكتور هيغو، جون هيبوليت، هنري ميشو، بلانشو، لوتريامون، نيتشه، أندريه بروتون…، صوب إرساء مقوِّمات اتجاه نقد أدبي جديد توزَّع بين تياري البنيوية والموضوعاتية، من خلال تنظيرات قراءات حداثية التقى حولها أسماء لامعة مثل :جورج بولي، رولان بارت،جون روسي،جيلبير دوران، جيرار جينيت، جون بيير ريشار، شارل مورون، جون ستاروبنسكي…

رفض باشلار،جملة وتفصيلا،ضمنيا حقيقة،نتيجة رفضه لثقافة الإثارة والبيانات الدعائية،أن يحظى بصفة ناقد أدبي وفق المعنى المؤسساتي والأكاديمي،مادام تطلُّعه الوحيد، انصب على متعة القراءة والحلم بالصور الجميلة والمدهشة التي تحلِّق بالإنسان نحو عوالم اللاواقع، لذلك قال :”لاأعتبر نفسي أستاذا للأدب،فلا أمتلك بهذا الخصوص ثقافة كافية،أليس كذلك؟أحاول دراسة حقبة أو النبش فيها.كل ما أنجزته من كتب،تبقى بالنسبة إلي مجرَّد نصوص للتسلية”،ويضيف :”كم كنتُ أستاذا سيِّئا لتدريس الأدب!بحيث بالغتُ في الحلم وأنا أقرأ.أيضا،أتذكَّر بإفراط في خضم كل قراءة،أصادف وقائع حلم شارد شخصي”.

بنفس مستوى ولعه بالرياضيات والفيزياء،أبدى باشلار شغفا وعشقا خاصا نحو القصيدة؛لاسيما التي تؤسِّس لفعل شعري أصيل وغير تقليدي،لذلك لم يكن غريبا إحالته بامتياز على المدرسة السوريالية،لأنَّ رموزها أبدعوا نصوصا مباغتة لأفق الانتظار:”كان هذا العقلاني الدِّيناميكي،لاينام قط دون قراءة أبيات شعرية”،وأبان عن سعادة غامرة بخصوص صداقته للشعر والشعراء.يبوح لنا باشلار:”آه،متأخِّرا فقط وهبتُ نفسي للرياضيات جسدا وروحا.لكن منذ أن لامستني القصيدة بشكل متأِّخِّر أيضا،مادامت حياتي بأكملها حَكَمَها تأثير التأخير.حاليا،وقد بلغ حاليا عمري سنوات متقدمة،لم أعد أرغب سوى في قراءة الكتب الرائعة”.

إذن،نتيجة ثورة باشلار الكوبرنيكية في مجال النقد الأدبي،حينما أعاد الاعتبار للخيال،انتقل بوظيفة الناقد من الحكم السلطوي على المبدع إلى الحلم معه وصحبته بالعثور على الصور الشعرية وفق انبثاقها الفوري واللحظي المتجدِّد دائما،بحيث هَشَّم جذريا تلك المعاقل التَّليدة التي أقيمت طويلا بين العلم والأدب عموما،ثم الرياضيات والشعر خصوصا.

هكذا،يعتبر باشلار،في حدود اطلاعي المتواضع،أكبر مفكر سعى بجدية إلى محو كل مظاهر التَّباين”العدوانية”بين العقل والخيال، المفهوم والحسِّ،الاستدلال المنطقي والتأمل الشارد،حيث القصيدة جمالية للذكاء،بينما الأخير يكتسي منحى وازع لاينضب للخيال والحلم.

استعادت،الحاضرة العلمية تكامل أوراشها،تكاملت روافد المعرفة الإنسانية،نحو غاية واحدة تكمن في الإنصات للخيال وتهذيبه والارتقاء به نحو أسمى درجات الإبداع والخلق،لأنه يمثل حسب باشلار،النواة الجوهرية التي انبثقت عنها أجمل وأعظم القصائد والنصوص الأدبية،مثلما يعتبر خلال الآن ذاته،بوتقة المَلَكَة التي استشرفت ممكنات الاختراعات العلمية المذهلة.

حياة استثنائية، شخصيا وفكريا،اختبرها مسار باشلار عبر ارتقاء مهني من مرحلة عامل مؤقَّت ضمن قطاع البريد والتلغراف،في منطقة روميرمون بين سنتي 1903 و1905،يعمل لمدة ستين ساعة أسبوعيا،غاية مرتبة عالِمٍ كبير حقَّقَ بهدوء الحكماء؛لأنه سقراط القرن العشرين، ثورة معرفية نوعية هزَّت طمأنينة تراث روائز المختبرات العلمية وكذا منظومة السجالات المعهودة بين أعضاء الصالونات الأدبية.

*هامش :

(1)للاطلاع يمكن تصفح رابط الموقع الاليكتروني :  http://saidboukhlet.com/

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *