القطّ الذي علَّمني الطَّيران … من منظور غاستون باشلار


*د.غسان عبد الخالق

الرّهانات الصعبة التي يقيمها هاشم غرايبة في روايته (القطّ الذي علّمني الطّيران)، تقف مواجهة ثلاثة من التحدّيات؛ الرّواية الجديدة، السيرة الذاتية، محاورة المحرّمات. إن الوفاء بمطلوب كل رهان من الرهانات السابقة، يمثل في حد ذاته تحديًا شائكًا للكاتب، فكيف إذا اجتمعت عليه دفعة واحدة؟ بل كيف إذا تداخلت وتلابست بمكر شديد؟

أما بخصوص الرّهان الأول، رهان الرّواية الجديدة، وأعني بها ذلك الضرب من السّرد الرّوائي المهجوس بتحطيم بنية السّرد الصاعد أو الهابط وفق خط منتظم من التدفق الزماني أو المكاني أو الشخصاني أو النفسي أو الحدثي من جهة، الطامح إلى زركشة هذا السّرد بفيض من التأملات الذاتية والفلسفية والشعرية والحكايات الضمنية أو الموازية من جهة ثانية، فضلاً عن الاقتباسات والتضمينات والحواشي والهوامش والتصرّفات المقصودة بالأمثال والحكم والأحاديث السيّارة، وأخيرًا: تفعيل عين الكاميرا وإطلاق العنان للّغة اليومية المسموعة مع الإبقاء على باب السارد مواربًا ليتمكن من الإطلال على القارئ من آن لآخر كي يذكّره بأن ما يحدث مزيج من واقع سيرة هاشم غرايبة وخيال الراوي عماد. أقول: بخصوص هذا الشأن فقد نجح هاشم غرايبة في الوفاء بمطلوبه إلى حد بعيد، وقدّم لنا رواية منقوعة في الواقع، زمانًا ومكانًا وشخوصًا وأحداثًا، لكنها حلّقت عاليًا فوق جراحه، بأجنحة وارفة من التنكيت والتبكيت.
وأمّا بخصوص الرّهان الثاني، رهان السيرة الذاتية، فقد مدّ له هاشم غرايبة بساطًا ثم طواه في الوقت نفسه لأكثر من سبب؛ فروايته تشي بأنه يعي تمام الوعي حقيقة أن كثيرًا مما كتبه الروائيون، وخاصة في الأردن، لا يعدو كونه صفحات من سيرهم الذاتية بعد أن نُقِّحت الأسماء والأوقات والأماكن، لتوحي بأن المكتوب ضرب من نسج الخيال المبتكر المبدع. وهو يعي أيضًا حقيقة أن السيرة الذاتية ومهما تجرّدت، ستظل نشيدًا يحلّق في محراب الذات. لكن ما أراده غرايبة هو مزيج من الرواية المبتكرة والسيرة الذاتية، أو مزيج من الخيال والواقع، أو مزيج من الموضوعي والذاتي، بحيث يتداخلان ويتلابسان، ويتبادلان الأدوار، إلى درجة الإيهام. وأحسب أن أفضل ما أنجزه هاشم غرايبة، على هذا الصعيد، يتمثل في أنه وظّف سيرته الذاتية لتخدم روايته، كما أنه وظّف روايته لتخدم سيرته الذّاتية. لكن الأهم من كل ذلك يتمثل فيما يلي: لأن كثيرًا منا الآن يعرف هاشم غرايبة معرفة شخصية، فإن بمقدورنا التمييز بين الذاتي والروائي أو بين الواقعي والمبتكر في (القطّ الذي علّمني الطّيران)، لكننا لو وضعنا هذا العمل بين يدي قارئ عربي أو أجنبي فسوف يتلقّاه بوصفه عملاً روائيًا صرفًا. وأما لو وضعناه بين يدي القرّاء –أردنيين وعربًا وأجانب- بعد خمسين عامًا، فسوف يتلقونه جميعهم بوصفه عملاً روائيًا بحتًا دون ريب.
وأمّا بخصوص الرّهان الثالث، رهان محاورة المحرّمات، فإن الرواية لا تكاد تدع خطًا من خطوط الثالوث المحرّم: السياسة، الدّين، الجنس، إلا وتجاوزته، مضمونًا وشكلاً. وقد تعمدت إبراز التراتب الحقيقي الماثل للتابو في المجتمعات العربية، ولم ألتزم بالتراتب التقليدي المأثور عن ميشيل فوكو: الجنس، الدين، السياسة! على أن ما يجب المسارعة للتنويه به على هذا الصعيد، يتمثّل في ضرورة القول بأن التجاوزات التي يجترحها هاشم غرايبة في هذه الرواية، لا تنتمي إلى عالم الهجاء السياسي أو اصطناع الزندقة أو الترويج المبتذل للانحلال الجنسي، بقدر ما تنتمي إلى إخلاصه الحقيقي لكتابة جانب من تجربته السياسية وسيرته الذاتية من منظور روائي، كما أحسَّ وشعر وفكّر به تمامًا، وليس كما يجب أن يحسَّ ويشعر ويفكر به، والفرق بين الاثنين يتمثل في أن السيناريو الأول ينتمي إلى عالم الروائي الشاعر الظاهراتي وأما السناريو الثاني فينتمي إلى عالم الروائي الشاعر الأيديولوجي المهجوس بما يجب وليس بما كان.
أحسب أن هذه الرواية، تمثل مختبرًا نموذجيًا معاكسًا لأطروحات غاستون باشلار في (جماليات المكان) من جهة، ومختبرًا نموذجيًا مطابقًا له في (التأملات الشاردة) من جهة ثانية؛ فبيت الألفة الذي استفاض باشلار في إزجاء المديح له والتغزل به، يتحوّل لدى هاشم غرايبة إلى (السجن). وما يشتمل عليه بيت باشلار من تقسيمات شعرية للمكان مثل العلّية وحجرة المعيشة والسرداب والأبواب والنوافذ والصناديق، يقيم له هاشم غرايبة معادلات مكانية تتمثل في الدار البيضاء والقاووش والقبو والأبواب والنوافذ والصناديق. لكنه لم يكتف بهذا التناظر الميكانيكي بل زاد على ذلك، أن عمل جاهدًا على استخلاص ملامح الجمال الثاوية في القبح والبؤس والألم، أعني أن باشلار اقترح علينا في (جماليات المكان)، حكاية شعرية ظاهراتية مشروطة بضرورة تجاوز المنطق المتداول، وطالبنا بالانسياق معه لاستعراض كل ما يمكن أن يخطر بباله أو ببالنا من تفاصيل المكان الحميمة والدافئة، فيما أن هاشم غرايبة خاض تجربة (قبائح المكان) على أرض الواقع، واقترح علينا حكاية روائية ظاهراتية مشروطة بضرورة الارتفاع فوق قبائح الواقع أملاً في تعصير بعض جمالياته.
لم يتحوّل المعتقل في (القطّ الذي علّمني الطّيران) إلى بيت الألفة فقط، بل تحوّل إلى داخل موضوعي معادل للخارج الواقعي (وجدل الداخل والخارج أطروحة رئيسة لدى باشلار) يمور بعلاقات ونماذج متوازية ومتداخلة ومتناقضة في آن، كما يعج بكل المفارقات التي يمكن أن نواجهها في حياتنا اليومية لكننا قد نغض النظر عنها أو نتسامح في التنويه بها. ولم يقتصر هذا المعتقل فقط على السياسيين أو القتلة أو اللصوص أو الفقراء بل ضم وزراء ومسؤولين كبارًا وأثرياء. لكن العلامة الفارقة فيه هي التدمير المتعمّد لأمثولة البطل، سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا؛ فبدءًا من (عماد) أو القناع الذي ارتداه الراوي ليواري شخصيته الحقيقية، مرورًا بابن عمه (عسّاف) وليس انتهاء بـ(القط) الذي يفترض به أن يكون ملهمًا ومثلاً أعلى لعماد، نلاحظ أن كل هؤلاء ليسوا أبطالاً من قريب أو من بعيد، بل هم نماذج بشرية حقيقة تدب على الأرض، لها نزواتها، ولحظات ضعفها، ومواقيت تتوهج فيها ثم تخبو. وليس بعيدًا عن هذه العلامة الفارقة، اعتناء الرّاوي ببناء الصورة الروائية عبر رصف مئات التفاصيل الواقعية والحقيقية أملاً في إيصال المغزى الوجودي البحت، بدلاً من الانشغال بتلفيق الاستعارات الروائية عبر شخصيات ذهنية أو فوائض لغوية. إنه معني بإيصال نبض التجربة وليس بإصدار الأحكام الأخلاقية على النظام السياسي والاجتماعي، وهو ما جعله مؤهلاً لتحويل تجربة المعتقل من محنة سياسية سطحية إلى فسحة طويلة لممارسة أحلام اليقظة الشعرية، انطلاقًا من حكاية الأمير الصغير التي ستظل تمثل حجرة ألعابه ورمز طفولته المغدورة ومنصة لإنتاج التأملات الشاردة العميقة، التي تختزن -من منظور غاستون باشلار- مئات السنوات من المعاناة الجمعية في عبارات تفيض بالألم النبيل المستبصر، ومنها قول الراوي:
(في السجن يصير الباب حارسًا، والحارس مفتاحًا، والمفتاح خصمًا … المفاتيح في السجن ليست مفاتيح بل مغاليق)
ومنها أيضًا: (قطعة السماء الصغيرة المعلّقة فوق السجن مشرّمة الحواف)!
ومنها كذلك: (الزمن طويل تحت وطأة العزلة، قصير إذا نظرته ملمومًا في كفّ الذكرى ,,, الزمن مثل الماء يأخذ شكل المكان)!
هل تراني سأنجح في استثارة اهتمام القارئ إذا طلبت منه أن يقارن بين الاقتباس الأول وبين قول غاستون باشلار في جماليات المكان: (من الطبيعي ألا يُرسم حجم المقبض قياسًا لحجم البيت، لأن وظيفته تأخذ الأولوية فيما يختص بمسألة الحجم. وظيفته هي فتح باب البيت. إن العقل المنطقي هو الذي يحتج قائلاً إنه يفتح البيت ويغلقه أيضًا. ففي منطقة القيم، من ناحية أخرى، المفتاح هو الذي يغلق البيت أكثر مما يفتحه في حين أن مقبض الباب يفتح الباب أكثر مما يغلقه … إن حركة الإغلاق هي دائمًا أكثر حدّة وصرامة وسرعة من حركة فتح البيت)!
________
*الدستور

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *