(ثقافات)
العامري يكتب: انتصار الحشود
تشكل الحشود الإنسانية التي تتحرك عبر موجات هائلة من البشر ضاغطا ثقيلا على السلطات السياسية، والتي تسهم في كثير من الأحايين في مساعدة السلطة على حصد مكاسب سياسية، لكن لا بد من استثمار الحشود من خلال أدارتها نحو الأهداف المطروحة والملحة عبر سلم أولويات المطالب، وإدارة الحشود هي علم يتعلق بإدارة الحشود الكبيرة وتنظيمها بطريقة آمنة وفعالة، حيث يتم التخطيط والتنسيق والتنظيم والتحكم في حركة وسلوك الأفراد في الحشود الكبيرة، وتعتبر الحشود جزءًا مهمًا من المجتمعات البشرية، حيث تشارك الناس في العديد من الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية والسياسية كالمظاهرات مثلا.
فخروج الحشود بشكل كبير نتيجة لمظالم تقع عليها أو تعبر عن فكرة لها علاقة بإظهار الحقيقة التي تتعرض للتزييف، وهي بالتالي تدافع عن وجودها الإنساني وحريتها، تتشكل الحشود في العديد من المناسبات السياسية، مثل الاحتجاجات والمظاهرات والاجتماعات الحاشدة، وغالبها يعبر عن رأي الشعب ومطالبه الملحة، فما نشهده الآن من تحولات للمظاهرات في شتى أصقاع الأرض يعبر عن مشتركات قوية فيما بينها تنتظم في دحض الظلم عن أهل غزة وكشف الزيف الإعلامي الذي يحاول أن يزين الجرائم البشعة التي يرتكبها الكيان الصهيوني.
تلك الحشود التي شكلت عبء كبيرة على السياسة الصهيونية الآن فقد فشلت مراوغاتهم وأصبحت تلك الحشود مساحة عريضة تحاصر أصحاب القرار تجاه قضية المجازر والابادة في غزة، فلم تعد الماكينة الإعلامية للكيان الصهيوني مواجهة الحشود التي اتفقت بشكل جلي على هدف واحد، حيث لمسنا كثير من التغيرات في الخطاب الغربي تجاه غزة محاولين بذلك دغدغة مشاهر المتظاهرين، ولم تترك الحشود دون تحليل لبيانات دقيقة يتم من خلالها دراسة السلوك في بيئات الحروب والعمل على معالجة الازمة عبر قرارات تنسجم مع مطالبها بكونها مساحة خانقة للقرار السياسي.
فمنذ القرن التاسع عشر، ظهر فرع جديد من علم النفس الاجتماعي يُعنى بدراسة سيكولوجية الحشود، يقول جون دوروي، خبير علم النفس الاجتماعي في مجال إدارة الحشود: “الحشود، شأنها كشأن الأفراد، لها خصائصها السيكلوجية التي توجه سلوكياتها”، وأوضحت دراسات علماء النفس والمتخصصين في إدارة الحشود أن حالات الطوارئ كثيرا ما تؤدي إلى ظهور هوية جمعية للحشود. وهذه الهُوية هي التي تحدد مدى قدرة الأفراد وسط الحشود على مؤازرة بعضهم بعضا، والصمود في وجه مقاومة السلطات لها.
ولهذا يجب عدم مقاومة الأفعال التي من شأنها ان تحد من ظهور هذا النوع من الهوية الجمعية التعاونية بين الناس، لأن هوية الحشود توحد انتماءات المشاركين بها. فتقسيم الحشود فئات دينية أو عرقية او انتماءات سياسية لا يمكن أن ينجح في السيطرة عليها بكونها تمتلك هُوية جامعة وهاضمة لكل التيارات المشاركة، ففي مسألم المقاومة الحمساوية كان اليسار العربي لا يتفق معها ومع توجهاتها السياسية لكنها الآن استطاعت أن توحد هويتهم من خلال هدف واحد اسمه تحرير الأرض والتخلص من الاحتلال الصهيوني وهو الهدف الأسمى بين جميع الفئات الاجتماعية والسياسية.
فهل تستفيد القرارات العربية المتناقضة من تلك الحشود العالمية عبر استثمارها في مطالب أكثر قوة وفاعلية؟
أم أننا لم نزل عاجزين عن ذلك لأسباب اختلاف المصالح السياسية لكل دولة، فقد نادى الملك عبدالله الثاني بفكرة كبيرة تتلخص في تشكيل جبهة عربية إسلامية تتحد في مطالبها لتشكل كتلة سياسية ضاغطة على القرارات الصهيونية والغربية بما هو لصالح وقف اطلاق النار وفتح المعابر وحل الدولتين.
فنحن أمام فرصة ذهبية تتلخص في دعم الحشود والمحافظة على حياتها، وقد أثبتت “آن تيمبلتون” من جامعة كنت البريطانية، على سبيل المثال، أن الكثير من أدوات محاكاة الحشود لا تكشف عن الدوافع التي تجعل الأفراد يتفاعلون معا بطريقة بعينها داخل الحشود.
ومثل هذه الحشود لا يجوز تسريب العبارات التهويلية لها مثل الهلع وغيرها واستثمارها بصورة عقلانية لتعود بنصر سياسي بحسب حجم المطالب.
وأعتقد أن القرارات العربية لم تستثمر تلك الحشود التي غطت الكرة الأرضية لصالحها، من خلال عملية متعلقة بالتخطيط والقيادة والرقابة ودراسة طبيعة سيكولوجيتها، وكيفية التعامل مع ثقافات مختلفة ولغات عدة وسلوكيات وأمزجة مختلفة ومتنوعة ومتعددة.
لقد انتصرت الحشود وسبقت القرارات السياسية في تحيزها للحقيقة الواضحة، والتمترس خلف قيمها الإنسانية التي تواجه أخطار الامبريالية الاقتصادية على حساب القيم الإنسانية.
لم يعد بمقدورنا الآن أن نختبئ خلف ستارة واهنة، فقد تكشف الغرب عن طروحات في غاية الخطورة وخاصة الكيان الصهيوني الذي لا يخفي طموحاته التوسعية والعمل الدؤوب على تحقيق مشروعه الكبير في الشرق الأوسط بشتى الطرق والوسائل.
فهل سنبقى في خانة الفرجة الخجولة؟ فأخشى أن يفوتنا القطار ونصبح على ما فعلناه نادمين.