محمد بنيس: تخلصت من أوهام عديدة وأنا أعمل على حماية عزلتي
حوار/ سعيدة شريف: المغرب
في مسار الشاعر المغربي والباحث الأكاديمي محمد بنيس الكثير من الدروس والعبر والإنجازات البحثية القيمة والمبادرات الثقافية التأسيسية، التي أعطت للمغرب الإشعاع الثقافي والإبداعي في العديد من مراحله، والكثير من الحب والإخلاص في كتابة قصيدة حديثة مغايرة عما هو سائد في الساحة الشعرية بالمغرب.
منذ (بيان الكتابة) والشاعر محمد بنيس مسكون بسؤالي الكتابة والحداثة الشعرية، يجمع بين الإبداع الشعري الذي راكم فيه مجموعة من الدواوين الشعرية المتميزة، والترجمات والدراسات النقدية والنظرية المهمة التي بحثت في تأصيل القصيدة المغربية والعربية، هذا ناهيك عن مبادرات ثقافية رائدة: مجلة (الثقافة الجديدة)، (دار توبقال للنشر)، و(بيت الشعر في المغرب)، كلها تتنفس شعراً وتصدق لهذا الجنس الإبداعي الذي آمن بجدواه وراهن عليه للرفع من قيمة اللغة العربية.
محمد بنيس شاعر أصيل لم يطمئن أبداً للجاهز وللكثير من المسلمات، بل اشتغل بعمق على الكثير من القضايا التي لم يستطع النقد العربي الاقتراب منها لحساسيتها وخطورتها من مثل ما تناوله في كتابه الأخير (الشعر والشر في الشعرية العربية) حول الشعر والشر وعلاقة الشعر بالأخلاق والفلسفة والدين.
حول هذا الكتاب المهم والمثير للجدل، وحول سؤالي الكتابة والحداثة الشعرية، كان هذا الحوار الخاص لـ(المجلة العربية) مع الشاعر المغربي محمد بنيس.
أخلصت للقول والفعل الشعريين، فاشتغلت بشكل متواز على الإبداع الشعري من جهة، وعلى التنظير والنقد والترجمة من جهة أخرى، ناهيك عن إسهامك في الحركة الثقافية والنشر وتأسيس (بيت الشعر في المغرب) وغيرها من المبادرات المهمة. بعد كل هذه السنوات، ماذا يقول بنيس عن هذه التجربة الغنية والمتميزة؟
– الكتابة الشعرية كانت ولا تزال مركز اشتغالي، وفي حوار معها كانت لي ممارسات في الكتابة والدراسة والترجمة. كنت أدركت، وأنا في بداياتي، أن للشعر منهجيته القائمة على معرفة ماديته، وأن اختيار كتابة قصيدة حديثة يلزمني التحرر من فكرة البديهة والارتجال والعفوية التي كان لها الامتياز. لذلك عملت على تكوين نفسي، حيث التحقت بكلية الآداب، على غرار الموسيقي الذي يلتحق بأكاديمية الموسيقى، أو الفنان التشكيلي الذي يدرس بأكاديمية الفنون التشكيلية. أتحدث عن 1968، التي كان تكوين الشاعر الحديث في المغرب في بداياته. أما الدراستان اللتان أنجزتهما فهما مرتبطتان بمرحلة التكوين الجامعي، حيث اشتغلت على الدراسات الحديثة في الشعرية وليس النقد، وموضوعهما استنطاق لأسئلة الشعر العربي وحداثته، في أفق اختبار ذاتي وقدرتها على المغامرة. دراستان، وقلت بعدهما، مفيداً من نيتشه، عندما تنتهي أعمال البناء، يجب خلع أسرة البناء.
عندما أقبلت على إصدار أعمالي الشعرية سنة 2001، كتبت مقدمة بعنوان (حياة في القصيدة)، واعتبرت فيها أن هذه الحياة، حياة الكتابة، هي التي تلخص حياتي. أقصد ما كان لي من رحيل في مجاهل الكتابة وفي الانضباط شبه اليومي، من صباح إلى صباح، لممارسة الكتابة الشعرية وما يتجاوب معها من الكتابات، وما كان لي خلالها من مواجهة أسئلة القصيدة والانتساب إلى أسرارها ولا نهائيتها. كل ما هو خارج هذه الحياة، التي تكاد تكون من وراء حجاب، لا أعيره اهتماماً، لأنه ظرفي، حدث في الماضي. هو هناك. ولست ملحاً في معرفة قيمته. ما يستبد بي هو ما أنا مقبل على كتابته، الآن وما بعده. ليس للماضي من معنى إلا بما يمنحني قوة الذهاب نحو هذا المقبل، الآتي دائماً من القصيدة نفسها.
بعد مجموعة من الإصدارات القيمة والدراسات التأسيسية كـ(ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب)، و(الشعر العربي الحديث) في أجزائه الأربعة، و(الحق في الشعر)، و(الحداثة المعطوبة) وغيرها، صدر لك حديثاً كتاب بعنوان (الشعر والشر في الشعرية العربية)، الذي اعتبرته بمثابة وصيتك الشعرية. هلا قربتنا من ذلك ومن تأثير قولة الأصمعي عليك على مدى خمسين سنة من الدراسة والتأمل؟
– اتضح لي، وأنا أنتهي من كتابة (الشعر والشر في الشعرية العربية) أنه بمثابة وصيتي الشعرية. ربما بدا هذا القول كأنه ضرب من الهذيان. ولكي يتضح، هنا، معنى الوصية، أحدد القصد منه في وجهة النظر التي انطلقت منها، وهي اعتماد اللغة العربية مصدراً لقراءة قولة الأصمعي في تعريف الشعر (العربي) بأنه نكد بابه الشر. قولة كانت علامة على تأسيس معرفة شعرية أساسها النص الشعري، مستقلاً عما سواه، وبخاصة منه موقف الإسلام من الشعر والشعراء. كنت تعرفت على هذه القولة وأنا لا أزال في الثانوية، ورافقتني في مراحل كتابتي وتكويني في آن. واصلت تأملها في صمت، وكانت تغيب عني لسنوات ثم تعود لتطل علي بعدة رؤوس. لم أكن أتهيب القرب منها أو الجلوس أوقاتاً طويلة أنظر إليها وهي تتحرك بين أزمنة وأعمال ومواقف وصراعات. في كل مرة كنت أشعر أن قراءتها تتطلب معرفة بالقديم والحديث في آن، وتتطلب أكثر من ذلك ما لم يتضح لي إلا بعد اطلاعي على معارف ومقاربات. أول مرة تناولت الموضوع كانت في مجلة فرنسية، ومضت سنوات عديدة وهي بعيدة عني، حتى حل موعد كتابتها في هذه الدراسة المطولة، فاستقبلتها بدهشة، ووهبت لها الوقت والتركيز. شيئاً فشيئاً تآلفت معها، وامتزجت في فترة كتابتها كل من لحظات النشوة والمتعة والتحسر والاغتراب. كتبتها بطريقة مكثفة، ذات فقرات مرقمة على امتداد الكتاب، كأنها سمفونية لا تنتهي. وللقادمين، إن ذاقوا غوايتها، أن يستأنفوا الرحيل، لأنها تبقى مفتوحة على استئناف الرحيل، في السؤال ولا نهائيته.
في هذا الكتاب الجريء تسائل مجموعة من القضايا المغيبة التي لم يستطع النقد العربي الاقتراب منها لحساسيتها وخطورتها، مثل الشعر والشر وعلاقة الشعر بالأخلاق والفلسفة والدين، فما هي أهم الخلاصات التي توصلت إليها؟
– هذه القولة تتناول الشاعر حسان بن ثابت، الذي رأى الأصمعي أنه كان فحلاً في الجاهلية، ثم لما دخل الإسلام (سقط) شعره لأنه تفرغ فيه لموضوع غير شعري، هو الدفاع عن الدين الجديد، أي اتباع طريق الخير سيراً على الطريق المستقيم. كانت هذه القولة مضادة لتخلي حسان عن فحولته لأن الأصمعي كان مناصراً للشعر عند العرب، بما هو نكد بابه الشر. مناصرته للشعر ولطريقة العرب كانت علامة على الشروع في تأسيس معرفة شعرية مرجعيتها النص الشعري، مستقلاً عما سواه، وبخاصة المرجعية الدينية، المتمثلة في موقف الإسلام من الشعر والشعراء. فقولة الأصمعي تجمع بين الفرضية الخاصة بالشعر العربي والبرهنة عليها، وهي تنبهنا على ما يلزم بناء الخطاب العلمي من فك الارتباط بين الدراسة والعقيدة. من هنا تظهر قوتها وجرأتها، بل دورها في بناء علم الشعر عند العرب في القرن الثالث الهجري.
على أن قولة الأصمعي لم تكن لتعنيني إلا لأنني عثرت فيها على مدخل معرفي لمستقبل القصيدة العربية وشعريتها. فالشعرية العربية ظلت، في القديم، مكبوتة بكل من الدراسات القرآنية وشروحات كتاب (الشعرية) لأرسطو، وتواصل في الحديث كبتها باعتماد إشكاليات الآخر الغربي. هنا نكون مع قضايا تتقاطع فيها المعارف والأزمنة الثقافية. بل تتقاطع معها، من حيث لا ندري، أسئلة القصيدة العربية الحديثة اليوم ومآلها.
منذ (بيان الكتابة) وأنت مسكون بسؤالي الكتابة والحداثة الشعرية، قاومت التيار المحافظ وسعيت إلى تأسيس نموذج شعري جديد وقصيدة مغايرة. فهل الحوارات الشعرية التي فتحتها مع الشعراء في الغرب وفي العالم العربي هي التي منحتك أصالتك الخاصة؟
– أصالتي الخاصة مستخلصة مما سماه برنار نويل، الشاعر الفرنسي الصديق، من بحثي الصبور عن الكتابة وعن إمضائي الشخصي في القصيدة. هو بحث كان يعتمد التعلم والمخاطرة في آن. تعلمت من الكتابات الشعرية ومن الكتابات النظرية والنقدية، وتعلمت في الوقت نفسه من انفتاحي على شعراء عرب وغير عرب وحوار معهم. كان البحث سفراً في أهوال ومخاطر، لما كانت عليه الثقافة الشعرية والأخلاقيات الثقافية في مغرب السبعينات والثمانينات. لكن هذا البحث لا يمنحني صفة بطل ولا شهيد. أشعر أن ما قمت به هو ما قام به كل شاعر حديث في عالم متخلف. يكفي هذا الوصف الذي جعل منه الشعراء المغاربة الحديثون مسلكهم في التعرف على زمنهم وعلى حلمهم بالحرية والكرامة والإبداع.
-
عن المجلة العربية
ينقص هذا الحديث قوة المثال. محمد بنيس لم يقدم نموذجا شعرها يدعم فرضياته، فلم تتضح فكرته لي. فإن لم تستطع توضيح “الشعر شر” في سطور تبقى المسألة، دون قراءة الكتاب، سفسطة أطفال مبنية على حذف عين الشعر ليصير شرا.