(ثقافات)
في حضرة البراءة
صحر أنور
في حضرة البراءةِ طفلة صغيرة تحمل حزن السماء، ترقب عيون الليل مذعورة في دارها المتهدم، بعينيها الصغيرتين ترقب النجوم، تتساءل: أين دارنا الجميلة ؟ تلهو مع أخواتها بحذرٍ، تُلقي نظرة على أمها بجوارها من آن إلى آخر لتطمئن أنها مازالت على قيد الحياة، ترى عينيها الحائرتين وابتسامتها فتطمئن وتُكمل لهوُهَا في أمانٍ مرتجف، بعد أيام أو ساعات وربما ثوانٍ ستجلس الطفلة نفسها فوق أنقاض بيتها، تبحث عن رفات أمها، تسأل ” أين أمي “، تبحث عن يدها فتجدها مغلقة على أختها الرضيعة في حضنها، تحاول تُشبك أصابعها في أصابع أمها علَّها تشعر بها فتستيقظ ، تناديها ، تنتظر حتى طلوع الفجر، يبيضَّ شعرها ، تصير عجوزا عمرها خمس سنوات. تجلس فوق ركام تتصاعد منه ألسنة النيران والدخان مع رفيقاتها اليتامي، يرسلن ابتسامتهن البريئة من بين الركام ، يشاورن للأمل في شاشات الكاميرات، تبحثن عن الأمانِ في عالمٍ تائه، تسألن باستغراب ما هذا الدمار ؟ ليتهم يعيدون لنا دارنا الجميلة.
نساء باكيات مذعورات يهرولن بين أروقة المستشفيات بحثا عن فلذات أكبادهن، رجال ترفرف فوق أكتافهن رايات الموت حتى لا تنكسررايات أوطانهم، أطفال يركضون حافين فوق نيران القذائف. نجا من بينهم طفل وجد نفسه ظل على قيد الحياة بعد أن تسلل من شبكة الموت مصادفة، انتفض من تحت الأنقاض، يتحسس جسده، يتأكد أنه لم يصبح كفنًا ، يبحث عما يضمن له البقاء حيًا، كيف يحيا ؟ بماذا يشعر؟ وفي الذاكرة ماذا يحمل ؟ مشاهد الموت والدمار في كل مكان، جثث الأهل والرفاق والجيران، كتابه المحترق الذي خبأ فيه أحلامه، وقف مرتجفًا ودماءه تنزف أمام مسلحًا جبانًا هدده ، سحبه أسيرًا، وحوله شباب يصارعون بالحجارة الطلقات التي تمطرها السماء، في الأسر سأل أصحابه ماذا تكتبون على أجسادكم ، قالوا: نكتب أسماءنا حتى يتعرف علينا الأهل بعد قتلنا.
ولد..وبنت سيصبحان يوما ما كهلا وأرملة ، إن عاشا ليحكيا ما حدث لما تبقى من عائلتهما، عن مدرستهما الذي صارت بلا سقف ولا جدران بعد أن دمرتها القذائف، عن زفافهما في حفلة ليلية على أنغام الصواريخ والقنابل وصافرات الإنذار، عن رقصة الموت، عن نومهما فوق الحجارة، عن حلمهما الصغير أن يكون لهما وطن.
روائح اشجار التين والزيتون صارت روائح شواء ورماد ، احترقت أجساد البراءة على أرضها ، ولد .. وبنت، هما كل الحياة التي يسعى العالم الظالم إلى اقتلاعهما من جذورهما قبل أن تنمو أغصانهما كي لا يكونا خنجران في صدر الظلم والعدوان. لماذا اغتيال البراءة وقتل الطفولة ؟ لماذا قسوتك أيها الحرب المرعبة ؟ عذرا أيتها الطفولة فقد اغتال العالم الإنسانية.
أي عالم هذا الذي نحيا فيه، ازدواجية المعايير، الظلم والقهر والاستيلاء على الأوطان ، انفجار شلالات العنف في كل مكان، احتدام حروب الاقتصاد والمال والفضاء السيبراني التي تدور رحاها حول المعلومات، أنظمة استبدادية ترتدي ثوب ديمقراطية واهيًا مهترئا، مستقبل غامض ومخيف وحياة أكثر تعقيدا، حكماء لا يكلفون أنفسهم عناء تأمين شعوبهم المرعوبة . هذا العالم وصفه الشاعر الهندي رابيندراناث تاغورعندما زار الولايات المتحدة في 1916 بـ ” المناخ الثقيل المسمم الذي ملأ العالم كله بالريبة والجشع والهلع”.