فلسطين في التفاصيل الثانوية

فلسطين في التفاصيل الثانوية

جوخة الحارثي

 

كان من المقرر أن تحصل الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي على جائزة LiBeraturpreis الألمانية عن كتابها «تفصيل ثانوي» لكن معرض فرانكفورت للكتاب تراجع عن منح الجائزة، وألغى الفعالية الثقافية التي تستضيف عدنية، مما عده ناشروها في رسالة مفتوحة عبر العالم محاولة لإسكات الصوت الفلسطيني. تضامنا مع الكاتبة أقدم قراءتي لروايتها البديعة:

هذه الرواية هي مأساة فلسطين عبر التفاصيل الثانوية، عشرات التفاصيل الثانوية، التي قد لا تبدو مهمة، التي تضللنا بأنها غير مهمة، في حين تكمن مأساة ضياع فلسطين في كل تفصيل منها، كأن النكبة قد تشظَّت آلاف الشظايا واندسَّت كل شظية في تفصيلة، غير مختبئة بل شاهرة وجههَا الصادم عبر كل هذه التفاصيل (الثانوية) في الرواية. صدرت رواية «تفصيل ثانوي» للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي عن دار الآداب في 2017. إذن تنقسم الرواية إلى جزئين متماثليْن حجما، مختلِفيْن زمنا ولغةً، الشخصية الرئيسية في الجزء الأول هي، قائد الكتيبة العسكرية الإسرائيلي في صحراء النقب في 1949، والشخصية الرئيسية في الجزء الثاني هي، المرأة الفلسطينية الموظفة في رام الله في 2005. ما الذي يمكن أن يكون أبلغ دلالة وأشد عنفا من شخصية قائد كتيبة إسرائيلية يبثُّ الخطاب الصهيوني لجنوده؟

إنه العنف الذي انتُهِكَتْ به الفتاة التي انتُزِعَت من أهلها البدو، العنف ذاته الذي انتُهِكَتْ به أمها الكبرى فلسطين، وظلت تنتهك، حتى لما وجدنا أنفسنا في سنة 2005 لم يحدث إلا أن تغيرت الوجوه: الفتاة الغضَّة حلَّت محلها المرأة الشابة، وقائد الكتيبة في الأربعينيات حلَّ محله الجندي المُشهِر سلاحه. والفتاة ـ الشابة- المرأة ـ فلسطين تلقَّتْ الرصاصةَ ذاتها على مرّ العقود، مرارا وتكرارا، منذ أواخر الأربعينيات حين كانت الكتائب العسكرية تخيّم في صحراء النقب تقنص البدو العرب، إلى بداية الألفية الجديدة حين أصبحت المدن الكبيرة إسرائيلية، وحين أصبح تجول المرأة العربية في الأراضي المحظورة مبررا كافيا للرصاصة القاتلة.

لقد أُخْرِسَتْ كلتا المرأتين. أخرِسَت الفتاة الطفلة بالأسر، بالاغتصاب، ثم بالقتل الوحشي، وأخرِسَت المرأة الشابة، التي ظنَّت أنها سوف تكشف ملابسات قتل الطفلة، بطلقة قاتلة. اغتصاب جماعي، ورصاصات واضحة للفتاة البدوية: «انطلق في الفضاء صوت ست طلقات، ثم حلَّ السكون مرة أخرى، صبيحة 13 آب/أغسطس 1949» وإيحاء بالنهاية للمرأة الشابة من رام الله: «فجأة، يغمرني ما يشبه الحريق الحاد في يدي ثم صدري، تليه أصوات إطلاق نار بعيدة». وبقية الحقيقة في ما بينهما، حقيقة الأم الكبرى، فلسطين المغتصَبَة، التي دُفِنَتْ تفاصيلُ اغتصابها وقتلها داخل صحرائها نفسها، منذ البدء، ثم مُنِعَتْ تفاصيل هذه الجرائم من أن تصل مسامع العالم وضميره عبر وأد الحقائق، متمثلةً في التخلص ممن يرمزون إلى نشر حقائق الجرائم. التفصيل الثانوي لقتل الفتاة بعد اغتصابها جماعيا كان ـ على المستوى التاريخي ـ طبعا بعد التفاصيل الضمنية الغائبة عن الرواية سرديا، الحاضرة ضمنيا، لحرب 1948 بين العرب والصهاينة، ونكبة فلسطين مع الاحتلال والتهجير.

كم كان قائد الكتيبة حريصا على نظافته!

إنه في صحراء لم يألفها، كل ما فيها من شروط للعيش غريب عنه، لكنه يمضي في مهمته حتى النهاية، بلا أدنى أثر لأي إشارة إنسانية، لأي إحساس بشري من أي نوع، إن اهتمامه بنظافته ومظهره وقيافته – في وسط صحراء شحيحة الماء تعفره بتراب الرمل كل دقيقة ـ اهتمام لافت. غريب لكنه مقصود عبر الاستماتة في هذه التفاصيل، في هذه المشاهد المتكررة يبرز القائد: «أخرج منشفة، بللها بالماء المصبوب في الوعاء، ومسح بها وجهه مزيلا العرق عنه، عاد وغسلها من جديد ثم خلع قميصه، ومسح منطقة الإبطين، ارتدى قميصه ثانية، وبعد أن انتهى من تزريره غسل المنشفة جيدا، وعلَّقها على أحد المسامير» وبعد صفحة ونصف فقط من هذا المشهد، بعدما يخرج القائد في جولة تفقدية ويعود، نقرأ هذا الوصف: «تناول المنشفة المعلقة على الحائط، والتي كانت قد جفَّت تماما، بللها بقدر من الماء الذي سكبه فوقها مباشرة من الصفيحة المعدنية، وأخذ يمسح الغبار عن وجهه ويديه». وفوق ذلك نجده ينبّه جنوده على العناية بزيّهم العسكري ونظافتهم الشخصية وحلاقة ذقونهم. إنه يتعفَّن إنسانيا من داخله كبشر، لكنه يحرص على تلميع جلده، وجلد حذائه كعسكري. سيفرض سلطته ولو بعنايته ـ أمام جنوده وأعدائه على حد سواء ـ بمظهره.

وبعد سَوْق الصبيَّة الأسيرة إلى المعسكر سنجد الضابط لا يحتمل رائحتها فيأمر أحد جنوده بفتح خرطوم الماء عليها، بعد تعريتها أمام الحشد، وينتهي هذا المشهد الصادم بإلباس الفتاة ملابس الجنود. ملابس المعتدي. في رمزية واضحة لاغتصاب الأرض وإعطائها هوية المغتصِب. ثم يأتي ذلك التفصيل الثانوي الذي يخص العسكري القاتل: اللدغة. اللدغة تأتي من الطبيعة نفسها، الصحراء التي يحاول إخضاعها وفرض سيطرته عليها دون أن يعرفها، دون أن يعرف زواحفها وحشراتها، مصادر الخطر والسٌّميَّة فيها. إنها ردُّ الأرض على انتهاكها وانتهاك أهلها من قبل الأغراب.

تقول عدنية عن شخصيتيها الرئيستين في هذا العمل: «هاتان الشخصيتان كما هو واضح، النقيض التام، أحدهما للآخر، لكن ما تحاول الرواية بوضعها الواحد بجانب الآخر، هو تأمل الحيز الواقع بين هذين النقيضين، وهو حيز نواجهه كأفراد يومياً، يتعلق بخيارات غير واعية أحيانا، لكنها تقودنا إلى مواقع تفصح عن جوهرنا بشكل ما كنا لنتكهنه. هذا هو تساؤل الرواية عمليا، والدافع خلف كتابتها».

تؤذي اللدغة القائد، فهي تبدأ من علامتين حمراوين، وتتطور إلى احمرار وورم يسبب التشنج، ومن ثم إلى تكوّر ممتلئ بالقيح. لكن القائد بانتفاء سماته الإنسانية لا يتواصل مع أي أحد بشأن آلامه الجسدية، ولا يطلب أي نوع من المساعدة الطبية، إنه يتحملها كقدره، ويحمل انتفاخ اللدغة في فخذه كما يحمل في روحه واجب أن يكون المسيطر في صحراء النقب، بلا أي مساءلة لحدود هذا التحمل ومنتهاه. نحسُّ بغموض هذه اللدغة وأثرها على القائد، هذا الأثر الذي لم نعرفه عبر مشاعره (لأن الكاتبة تعمدت ألا تشير إلى مشاعره قط) وإنما عبر المتوالية السردية للأفعال التي يكررها من مسح موضع اللدغة بالمنشفة المبللة وتعقيم الشاش، وتنظيف الجرح. الجسد هو القوة. هو الحاضر، هو المسيطر على السرد. لا نعرف شيئا عن عواطف هذا القائد، ولا عن ماضيه وذكرياته، ولا عن تصوراته وأفكاره، إنما نعرف جسده الذي يتحرك فيحرك العالم من حوله.. سيحافظ القائد على جسده، ونظافته، وعلاج لدغته، ما أمكنه، لأنه عبر جسده سيفرض السيطرة، وعبر جسده سينتهك فتاة الصحراء، ويبيدها.

جسده تجسيد للسلطة.. وفعل السرد يركز على هذا الجسد تحديدا «وقد ساد الجو عندها نفحة من البرد الذي اخترق ملابسه وتسلل إلى جسمه قارصا عظامه، فأخذته رعشة قوية جعلت جسمه ينتفض بقوة وجسده يضطرب من جديد». إن مكان اللسعة في فخذ الضابط يمتلئ بالصديد ويبث الروائح العفنة، كأنها سلطته العفنة نفسها تطلق روائحها من جسده بالذات. وإذا قاومته الصحراء باللدغة، بإيذاء رمز سلطته، فإنه سيُخضعها بانتهاك عرضها، وإباحة حرماتها لجنوده، وبالحرق، والإذلال، وأخيرا بالقتل بلا رحمة: القائد يغتصب الصبية أولا واضعا يده على فمها، في مشهد بطيء وحشي يستغرق ثلاث صفحات، ثم يغتصبها الجنود، ثم يُحفَر قبرها أمامها، «ثم سقطت فوق الرمل قبل أن يُسمَع في الفضاء صوت الطلقة التي استقرَّت في الجانب الأيمن من رأسها… راحت الدماء تتدفق من رأسها إلى الرمل الذي امتصّه بغير عناء».

لقد لعبت عدنية شبلي بعناية فائقة على مستويين مختلفين تماما من اللغة: اللغة الوصفية، الحادة، المجردة في الجزء الأول الذي يصف أحداث الجريمة في النقب في 1949. واللغة الشخصية، الحارة، المترددة، في الجزء الثاني الذي يصف رحلة المرأة الفلسطينية في 2005 لاكتشاف حقيقة ما حدث في النقب. وجهتا نظر مختلفتان تماما في السرد:

ضمير الغائب في الجزء الأول.

ضمير المتكلم في الجزء الثاني.

اللغة اليقينية، الباردة، الملموسة مع العسكر

اللغة الشكاكة، العاطفية، المربكة مع المرأة

اللغة المتكررة بإصرار في الجزء الأول: الرحلة اليومية لقائد القاعدة العسكرية، طقوس نظافته، الرمال الثابتة، تكرار عواء الكلب.

اللغة المتكررة، بلا يقينية، في الجزء الثاني: هوية مستعارة للمرأة الفلسطينية لتستطيع عبور نقاط التفتيش، سيارة مؤجرة، عواء الكلب.

لغة الضابط المؤدلجة، الواضحة في خطابه للجنود، المبشرة بالدولة الصهيونية الوليدة.

ولغة المرأة الخائفة، التي يرتجف جسدها كله من شدة الخوف، التي لا تريد لفت الانتباه، لأن الانتباه سيئ حين تكون محاصَرا.

الوصف الموضوعي في الجزء الأول، اللغة الـمُتَحَكَّم بها ببراعة، الهدوء المتوتر مختلط بطبيعة الصحراء الموصوفة بدقة. ينكشف الرعب تدريجيا عبر اللغة المحايدة، منذ مشهد قتل البدو العُزّل، إلى مشهد تعرية الصبية وتحميمها أمام الجنود، ومن ثم اغتصابها جماعيا وقتلها. لغة واصفة فقط. الاستغراق في الذاتية في الجزء الثاني، حيث تخبرنا البطلة مرارا أنها تنزلق نحو هوة من الاضطراب، وأنها تتلعثم أمام دوريات الشرطة، وتشعر بالخوف والإنهاك ويلازمها الأرق، وأنها غير قادرة على تمييز الحدود بين الأشياء. اقتحام المكان من قبل العسكر الإسرائيلي في الجزء الأول، والتوهان في المكان مع المرأة الفلسطينية في الجزء الثاني.

ما حدث في 1949 قاد إلى ما حدث في 2005. كأنها دائرة محكمة تبدأ بقتل الفتاة وتنتهي بقتل المرأة التي صادف تاريخ مولدها يوم مقتل الصبية. المكان الذي كان الغازي يحاول تثبيت أقدامه فيه، يتحول إلى المكان المليء بالحواجز والمستوطنات والخوف. على الرغم من هذا الاختلاف المتقن بين الشخصيتين الرئيستين واللغة التي تعاملت مع كل منهما، فإن الأصداء بين الجزئين ما تني تتواثب بينهما، مثل صدى البترول: في 1949 سكب الجنود الوقود على رأس الصبية لتعقيمه، والضابط لا يريد أن يخسر البترول لإرجاع الصبية لقريتها، وفي 2005 تنسكب قطرات من البترول على المرأة، ولا تستطيع التخلص من الرائحة على الرغم من محاولتها التفصيلية لتنظيف نفسها بالصابون في طقوس تذكرنا تماما بتنظيف الضابط لنفسه في الجزء الأول. ومثل صدى الارتعاشات المرتحلة بين الجزئين، ونباح الكلاب، الذي يوصف بالعواء المتكرر أحيانا، يتبع الضابط كما يتبع المرأة المهووسة بتتبع تفاصيل القصة القديمة. نكاد نسمع هذه الأصداء تتجاوب في ما بينها في بناء الرواية أكثر مما نقبض عليها فعليا بوضوح.

في الجزء الأول هناك فتاة بائسة مُختَطَفة، وفي الجزء الثاني هناك فتاة أخرى بائسة تبيع العلكة في الشارع. فيما يبدو كأنه تنادٍ بين زمنين، ودوائر محكمة على المصير الفلسطيني. عندما تظهر أشجار الدوم والبطم ونبات القصب ثانية في نهاية الرواية ندرك الخاتمة ونفهم تقاطع الماضي والمستقبل، شيء يشير أيضا إلى سراب يبدأ به القسم الأول وينتهي به القسم الآخر.

تقول عدنية عن شخصيتيها الرئيستين في هذا العمل: «هاتان الشخصيتان كما هو واضح، النقيض التام، أحدهما للآخر، لكن ما تحاول الرواية بوضعها الواحد بجانب الآخر، هو تأمل الحيز الواقع بين هذين النقيضين، وهو حيز نواجهه كأفراد يومياً، يتعلق بخيارات غير واعية أحيانا، لكنها تقودنا إلى مواقع تفصح عن جوهرنا بشكل ما كنا لنتكهنه. هذا هو تساؤل الرواية عمليا، والدافع خلف كتابتها».

*عن القدس العربي

شاهد أيضاً

سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في أبوظبي للكتاب

(ثقافات) سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في جناح مؤسسة العويس بمعرض أبوظبي للكتاب   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *