البحث عن الرجل الجديد: قراءة في رواية للفرنسية ايمانويلّ ريشار

(ثقافات)

البحث عن الرجل الجديد:

قراءة في رواية (رجال) للفرنسية ايمانويلّ ريشار

فراس ميهوب

في روايتها الأخيرة الصادرة العام الماضي، تتابع ايمانويل ريشار مسيرة بطلتها لينا موس من لحظة قرارها بتغيير حياتها، بعد إحساسها بالضياع، وتعرض شركتها الصغيرة للتجارة عبر الانترنيت للإفلاس.

تجري الأحداث الاولية للرواية  عام ٢٠١٨ في خضم تظاهرات السترات الصفر التي هزَّت فرنسا.

كانت لينا ابنة الثامنة والعشرين عاما تسكن وحيدة في ضاحية مونت لا جولي قرب باريس بعد أن فقدت والديها في حادث سيارة.

 تنتقل البطلة إلى بريطانيا للعمل في مزرعة للمنتجات الزراعية العضوية وهي موضة سارية حاليا في الغرب معروفة باسم

Wwoofing

 “يلجأ إليها  أشخاص يرغبون بتغيير حياتهم والمساعدة في مزارع لمنتجات عضوية مقابل السكن والغذاء والتدريب، ولا يمكن اعتبارها عملا خالصا”.

تدير المكان هيلين، إمرأة سبعينية بخيلة وباردة كحال قصرها شبه المهجور القابع في مدينة كارديغان على الشاطئ المقابل لإيرلندا، و الذي يضم  إلى جانب لينا رجلٌ أمريكي بنهاية الثلاثينيات وامرأة أربعينية لا نعلم عنها الكثير فهي تختفي بعد أيام دون سابق إنذار.

يتقرب إيدين- الرجل الأمريكي- من لينا، ونفهم أنه عاش في تكساس وكان جنديا في الجيش الأمريكي، قرر تغيير حياته والقدوم إلى أوربا.

تدخل لينا في علاقة جنسية مع إيدين رغم غياب أي مشاعر تجاهه، وبعد شهر من علاقتهما تظهر إمرأة ألمانية تشاركهم العمل في القصر، يحاول الرجل امامها إظهار تملكه للينا بتصرفات تتجاوز الحد وبعد رفضها لأفعاله يهمُّ بخنقها ولا يتراجع إلا في اللحظة الأخيرة، يحاول في ذات الليلة دخول غرفتها عنوة لولا إغلاق بابها بإحكام.

تترك لينا القصر بعد إحساسها بالخطر، وتعمل في مزرعة أخرى في إيرلندا، وتلتقي غوين، رجل ويلزي من أم اسكتلندية، خمسيني، منفصل عن زوجته وله منها بنات.

تميل لينا إلى غوين، وتتقرب إليه وصولا إلى إقامة علاقة حميمة معه، لا تتردد في وصف أدق تفاصيلها.

تكيل له المديح وتقارنه بعنف وعدوانية إيدين، ومع ذلك تنتهي علاقتها به بعد بضعة أشهر، وترجع إلى فرنسا بعد سنتين من تجربتها في المزارع العضوية .

تعود لينا لتروي سير حياتها في عام ٢٠٣٨م، وقد عادت إلى باريس لتعمل في مجال الموضة، وصارت غنية فمجلة فوربس تنشر أخبارها وتحركاتها!

يعود ماضي لينا البريطاني للظهور، ترى على التلفاز في شريط أخباري عاجل وجها تعرفه لإيدين شريكها في قصر كارديغان، ويبدو أن الأنتربول يبحث عنه حثيثا لارتكابه جرائم قتل لعدة نساء في اسكتلندا.

بعد قلق عارم وتردد وتداعٍ للذكريات، تتوجه لينا إلى السلطات وتقدم شهادتها في القضية.

يمكن اعتبار هذه الرواية أقرب إلى النوع النفسي.

تستخدم الكاتبة ضمير الأنا على لسان لينا موس في مرحلتين عمريتين في الثامنة والعشرين، والثامنة والأربعين عاما.

أجواء الرواية قاتمة، بدتِ البطلة في العمق كئيبة، فرغم النجاح المادي الذي أصابته، لم يتغير شيء في حياتها، بدأت الاحداث بفشل مهني وانتهت بالأرق!

لا تخلو الناحية اللغوية من جماليات والألفاظ سهلة على العموم، لا تستعين الكاتبة  بالأفعال المصرفة بالماضي البسيط بل بالماضي المركب والناقص، وكذلك بالحاضر، مما يعطي شعورا ببطء الأحداث.

من العبارات الجميلة في الرواية: “الاكتمال ليس جذابا أبدا، يتوجب وجود علة ما، خللا صغيرا في مكان ما، كحالة الأغنية لإظهار الجمال وإدخال الضوء”، واستشهادها بعبارة لكامي أومون- كارنيل-الناشطة النسوية- : “الطريقة التي لا أخشى بها من رغبتي هي الطريقة التي لا أخاف بها من قوتي”.

تستخدم الكاتبة في الرواية بعضا من الجمل باللغة الإنكليزية مبررة بأصول لينا فوالدها كان إنكليزيا عاش في فرنسا، وأحداث الرواية الرئيسية جرت في بريطانيا، وهذه الجمل أضافت جمالا و سلاسة من الناحية اللغوية وخدمت النص.

أمكنة  الأحداث المختارة بين فرنسا وبريطانية لم يعطِ فرقا بينا في الرواية ولم تطور الكاتبة الإطار الذي جمع الأبطال وهو المزارع العضوية.

السياق الزمني للرواية الممتد على عشرين عاما في إطار مستقبلي لم يحمل أي بعد يوتوبي أو ديستوبي بل زمنا كافيا لاستقرار الأفكار التي طرحتها الكاتبة وتقبل المجتمع لها، ومع ذلك فإنَّ الرواية تشبه من وجهة نظري مقتطفات من دفتر مذكرات شخصية لفتاة مراهقة مما شاع في ثمانينيات القرن الماضي اكثر من كونها تعبيرا عن سياق سردي أرادت كاتبته أن تجعله معاصرا وربما مستقبليا.

لا تقارب الكاتبة الحدث المركزي في الرواية كما أعلنه الناشر في تقديمه لها ألا وهو علاقة البطلة الخطرة برجل ملتبس عاد للظهور بعد سنوات كمجرم خطر وقاتل!

كثافة المونولوج الداخلي مفهوم لعرض وجهة نظر البطلة وتفاعلاتها النفسية، ولكنه يكاد يكون منفرا في بعض الأجزاء، ويقلل من عنصر التشويق، فانكشاف إيدين كقاتل لم يتم استغلاله واختفى من الأحداث دون رجعة.

ما عدا البطلة لينا موس، كانت شخصيات الرواية الأخرى بلا أصوات، غياب الحوار وعدم وجود تاريخ للشخصيات عمَّق هذا الشعور، فإيدين “القاتل” دخل حياة البطلة وخرج منها، ودوره الوظيفي في الرواية اقتصر على مقارنته بغوين، ولا نفهم لماذا وكيف تحوّل إلى قاتل متسلسل بعد اثني عشر عاما من ظهوره الأول.

من الواضح أنَّ الكاتبة انشغلت بإعلاء وجهة نظرها على لسان لينا موس، فهي تقسِّم الرجال إلى فئة متحيزة جنسيا، وفئة أخرى” جديدة” عليها أن تفكر بطريقة مختلفة لتحظى بحبِّ الفتيات.

تلغي الرواية تلقائية العلاقات العاطفية بين الجنسين وتحولها إلى تأقلمات لازمة وتغيرات بنيوية للرجل في اختبارات فكرية وسلوكية مشابهة لضرورات الدخول في طائفة دينية أو فلسفية منغلقة على ذاتها لا ينجح بها إلا القلة!

تدَّعي لينا نشوء نوع من التضامن الأنثوي تقوم فيه النسوة الكبيرات بحماية الصغيرات، تلغي هذه النظرة المشوشة أي دور للأسرة المكونة من رجل وامرأة وأولاد لصالح” تكوينات مستحدثة ما بعد أسروية” إن جاز التعبير.

تعلي لينا من شأن الاستمتاع الجنسي الذاتي، وتفصل بوضوح من علاقة الحب بالجنس تمهيدا للاستغناء عن الرجل بشكل ما.

تعترف الراوية بأنَّ علاقتها بالرجال كانت عابرة، فلم تبحث عن أي علاقات جدية، ربما اهتمت بالجنس المتوحش البعيد عن أي علاقة عاطفية أو قضية مشتركة تجمعها برجل.

يبدو من سياق الرواية أنَّ البطلة عاجزة عن الحب، وباردة رغم عدم اعترافها بذلك مباشرة، ولكنها تقرُّ بأنَّها أصبحت رجلا من الناحية الاجتماعية.

تظهر لينا متناقضة إلى حدٍّ بعيد، فرغم  الانغماس والرضا التام من علاقتها الحميمة مع غوين، لا تبذل أي جهد للاحتفاظ به، فبعد أن جاء الصيف تركته ولم يمض على علاقتهما إلا بضعة أشهر.

تبشِّر الكاتبة بنوع جديد من العلاقات بين النساء والرجال قائم على الشك بالرجال، تقول لينا أنَّ: ” الرجال لا يفهمون الرفض، لأنهم ببساطة لا يقبلونه”.

في وجهة نظر نسوية حديثة لا تتقبل فيها المرأة إلا الرجل الذي يرضخ لشروطها، فغوين شريك لينا الثاني الذي اختارته كان خجولا لا يبادر تجاه المرأة، ومصابا بضعف في الانتصاب أي “منزوع الأنياب رمزيا” ليتماشى مع الشيفرة الاجتماعية المستحدثة، بينما نقيضه إيدين المرفوض جعلته عدوانيا وقاتلا للنساء!

توضح الكاتبة حرفيا في صفحة مستقلة بعد نهاية روايتها أنَّ المقصود بكلمة رجال في الرواية: “هم الرجال المتوافقون مع جنسهم، أو من يعرفون بالأطفال الأصحاء للنظام الأبوي، ويمتدُّ هذا المفهوم ليشمل الذكورة المهيمنة وكذلك الفحولة”.

ما ضرورة شرح ذلك للقارئ بعد الانتهاء من قراءة الرواية، ألا مزيدا من الإقناع بوجهة نظرتها النسوية بالرجال وبالعلاقة بين المرأة والرجل!

ما هو السؤال الاساسي التي تطرحه الرواية، هل هي الحرية الجنسية المتحررة من أي التزام اجتماعي؟ ربما، ولكن هل كانت البطلة منسجمة مع نفسها في كل هذا أم بدت ضائعة ووحيدة في مجتمعها رغم أفكارها النسوية المنطلقة.

 

 

العنوان الأصلي للكتاب: HOMMES
المؤلفة: Emmanuelle RICHARD
اللغة: الفرنسية
الناشر: منشورات أوليفييه- فرنسا
تاريخ النشر: شهر آب – ٢٠٢٢
عدد الصفحات: ٢٤٥
إعداد: فراس ميهوب
 
المؤلفة:
ايمانويل ريشار: كاتبة فرنسية ، لها أربع روايات: الخفة، من أجل الجلد وهي الرواية الفائزة بجائزة ماري كلير للرواية النسوية عام ٢٠١٦، تحلل، الأجساد الممتنعة، رجال هي روايتها الخامسة، ولها كتاب رأي.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *